مساحتها نحو 23 كلم مربع، وعدد سكانها أقل من مليون نسمة، وتقع في إفريقيا، فما الذي جعل البعض يقارن جيبوتي اليوم بألمانيا قبل أكثر من 75 عاماً؟ وكيف تحولت إلى وكر للجواسيس من كافة أنحاء العالم؟
صحيفة Telegraph البريطانية نشرت تقريراً تناول الإجابة عن تلك التساؤلات، ووصف جيبوتي بأنها أصبحت "وكراً للجواسيس"، فما قصة جيبوتي؟ ولماذا تحولت إلى عاصمة الجاسوسية حول العالم؟
تطل جيبوتي، الدولة العربية الصغيرة، على مضيق باب المندب، الذي يمثل بوابة قناة السويس المصرية، أحد أكثر طرق الشحن ازدحاماً في العالم، وينتمي سكانها بشكل أساسي إلى مجموعتين عرقيتين، هما عيسى ذات الأصل الصومالي، وعفار ذات الأصل الإثيوبي، والإسلام هو الدين الرئيسي في جيبوتي/ التي يتحدث سكانها اللغات الفرنسية والعربية والصومالية وعفار.
ميناء جيبوتي يمثل شريان الحياة لاقتصاد الدولة، ويوفر أكبر مصدر للدخل والعمالة في بلد تغلب على مساحته الصغيرة الطبيعة الصحراوية القاحلة. وأدى موقع جيبوتي القريب من المناطق المضطربة في إفريقيا والشرق الأوسط، واستقرارها النسبي، إلى اكتسابها أهمية فريدة بالنسبة للقواعد العسكرية الأجنبية، وبالتالي ضمنت تدفقاً ثابتاً من المساعدات الخارجية.
جيبوتي مركز للقواعد الأجنبية
دخل الإسلام إلى جيبوتي عام 825 ميلادية، وأصبحت الجماعات العرقية الصومالية والعفرية أول مجموعات عرقية إفريقية تعتنق الإسلام في المنطقة، وفي عام 1862 اكتسبت فرنسا موطئ قدم لها في المنطقة، واستحوذت على ميناء أوبوك التجاري، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
وفي عام 1888 تم إنشاء مستعمرة أرض الصومال الفرنسية، وفي 1894 أصبحت جيبوتي عاصمة أرض الصومال الفرنسية، وصارت جيبوتي إقليماً فرنسياً فيما وراء البحار في عام 1946. وفي 1967 جرى استفتاء في إقليم صومالي لاند الفرنسي، الذي صوّت لصالح أن يبقى إقليماً فرنسياً وراء البحار، وتغير اسمه إلى إقليم عفار وعيسى الفرنسي.
وولدت دولة جيبوتي يوم 27 يونيو/حزيران 1977، حين استقل إقليم عفار وعيسى الفرنسي واتخذت الدولة الوليدة اسم جيبوتي برئاسة حسن غوليد أبتيدون، بحسب دائرة المعارف البريطانية، وانضمت جيبوتي لجامعة الدول العربية في سبتمبر/أيلول من نفس العام.
وكانت قدرة جيبوتي للبقاء كدولة ذات سيادة عشية الاستقلال موضع شك، لكن المخاوف من أن يصبح إقليم عفار وعيسى بيدقاً في الصراع بين الجارتين المتنافستين إثيوبيا والصومال، لم تتحقق. ولم يتجاهل زعيم سياسي جيبوتي، سواء من عرقية عفار أو عيسى، فكرة الوحدة مع أي من الدولتين الكبيرتين.
وفي الواقع، حققت جيبوتي مكانة كدولة مسالمة من خلال سياسة الحياد الصارم في الشؤون الإقليمية، تماشياً مع معاهدات الصداقة مع كل من الصومال وإثيوبيا، حيث رفضت الحكومة دعم الجماعات المسلحة المعارضة للأنظمة المجاورة، واستضافت مفاوضات بين قادة الصومال وإثيوبيا، أسفرت عن سلسلة من الاتفاقات في عام 1988. واليوم تعد جيبوتي البوابة الرئيسية لتجارة جارتها العملاقة إثيوبيا.
وحالياً تحتفظ فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة، بوجود عسكري كبير في جيبوتي، كما تستضيف البلاد أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في إفريقيا، وأول قاعدة عسكرية خارجية للصين، وأول قاعدة عسكرية يابانية منذ الحرب العالمية الثانية.
برلين الجديدة؟
أما قصة تحول جيبوتي إلى عاصمة الجاسوسية حول العالم، فقد ألقى تقرير التليغراف المطول الضوء عليها بعنوان "داخل برلين الجديدة: رقصة محرجة بين الصين وأمريكا في وكر الجواسيس في جيبوتي"، وفيه وصف ويل براون مراسل الصحيفة في جيبوتي "التنافس بين القوى الدولية على النفوذ".
"في أوائل القرن العشرين كانت أوسلو، وفي الأربعينيات كانت الدار البيضاء، وفي الخمسينيات من القرن الماضي كانت برلين، أما اليوم فيمكن للمرء أن يقول إن عاصمة التجسس في العالم هي دولة إفريقية غير معروفة، ألا وهي جيبوتي".
إذ كانت نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 قد شهدت بداية الانقسام العالمي بين أصدقاء الحرب وحلفائها إلى أعداء مرحلة الحرب الباردة، وفي تلك الأثناء كانت العاصمة الألمانية المدمرة تقريباً مرتعاً للجواسيس من جميع الدول. وأدت تلك الفترة إلى تقسيم ألمانيا وبناء سور برلين، وانطلاق الحرب الباردة بين حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفييتي، وحلف الناتو بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية.
ويصف الكاتب في تقريره في التليغراف بشأن جيبوتي أوضاعاً تكاد تكون متطابقة مع تفاصيل ما كان يحدث في برلين، فهناك قاعدة عسكرية أمريكية في معسكر "ليمونيه" في جيبوتي، وقاعدة عسكرية صينية على بعد أميال قليلة منها على حافة الساحل.
"على مدى العقد الماضي، أصبحت الدولة التي يقل عدد سكانها عن مليون نسمة نموذجاً مصغراً للنظام العالمي الجديد. لقد أصبحت عشاً للجواسيس، مكاناً تتنافس فيه القوى الغربية القديمة على النفوذ ضد الصين القوية الصاعدة".
ويرتاد الفندق المطل على المياه الزرقاء للميناء جميع أنواع الدبلوماسيين والمقاولين العسكريين والجنود، حيث يحتسون النبيذ ويتناولون الجبن، باستثناء الصينيين على ما يبدو، بحسب براون. وعلى الرغم من أن العلاقات بين هؤلاء جميعاً تبدو عادية، فإن هناك رقابة في كل مكان.
الجميع يتجسسون على الجميع
ونقل الكاتب عن دبلوماسي أجنبي قوله: الكل يعرف ما تفعله، عليك أن تعتاد على الافتقار إلى الخصوصية، الجميع هنا يتآمرون، إنها التسلية الوطنية، آلاف الجنود من الولايات المتحدة والصين وفرنسا واليابان وإسبانيا وإيطاليا يضمنون أمن الأرستقراطية المحلية من السياسيين الفاسدين هنا، مقابل بعض العقارات الأكثر قيمة من الناحية الاستراتيجية على وجه الأرض".
وبحسب تقرير التليغراف "يقدر مسؤولون غربيون أنه قد يكون هناك عشرة آلاف جندي صيني، وراء الجدران الخرسانية المضادة للانفجارات في منشأة صينية سرية للغاية، لكن بالنسبة إلى الغرباء، تبدو شبكة الأسلاك الشائكة والأبراج المحروسة بجنود وكأنها غير مأهولة بشكل مثير للفضول، لا أحد يبدو أنه يخرج من القاعدة الصينية".
"يقول أحد العاملين في الأمم المتحدة، الذي طلب عدم الكشف عن هويته: أمرُّ على القاعدة كل يوم، لكنني لا أعتقد أنني رأيت أي شخص يدخل أو يخرج منها. من يعرف ما الذي يفعلونه هناك".
ويشير مراسل التليغراف إلى الموقع الاستراتيجي لدولة جيبوتي، إذ تقع على مضيق باب المندب، الذي يمر عبره نحو ثلث الشحن العالمي كل عام "جنباً إلى جنب مع جميع أنواع المهربين، الذين ينقلون الأسلحة والمخدرات والأشخاص من وإلى الشرق الأوسط".
ويوضح أنه "بالنسبة لبكين، فإن الدولة توفر ميناء مثالياً لحماية تجارتها السنوية البالغة 250 مليار دولار مع إفريقيا، وإبراز قوتها عبر المضيق. فقد افتتحت بكين قاعدتها العسكرية في عام 2017، وقامت بالفعل بتوسيعها لاستيعاب حاملة طائرات".
"يتسبب قرب القاعدة الأمريكية من نظيرتها الصينية بالفعل في مواجهات دبلوماسية خطيرة. عندما اقتربت الطائرات الأمريكية كثيراً (من القاعدة الصينية) في عام 2018، استخدم الصينيون أشعة ليزر من الدرجة العسكرية لتعمية الطيارين الأمريكيين".
"قوات الدفاع الذاتي اليابانية لديها عدة مئات من القوات المتمركزة بجانب الأمريكيين، كجزء من مهمتهم الخارجية الدائمة الوحيدة منذ الحرب العالمية الثانية. يفترض أنهم موجودون لمراقبة الهجمات التي يشنها القراصنة الصوماليون المجاورون، لكن السبب الحقيقي واضح تماماً".
ونقل كاتب التقرير عن أحد الدبلوماسيين الأجانب قوله: "من الواضح تماماً سبب وجود اليابانيين هنا، إنه لمراقبة الصين". ومع ذلك فهي بطريقة ما جزيرة استقرار في منطقة مضطربة، فإلى الشمال تقع إريتريا الشمولية، وفي الغرب الحرب الأهلية في إثيوبيا، وفي الشرق دولة فاشلة في الصومال، وعبر المياه تجري حملة القصف التي يشنها تحالف بقيادة السعودية في اليمن.
ويعود السلام جزئياً إلى الدعم الأجنبي الهائل الذي تتلقاه جيبوتي. فمنذ حصول جيبوتي على استقلالها عام 1977 قامت فرنسا بحماية مستعمرتها القديمة بالفيلق الأجنبي وأكبر قاعدة عسكرية لها في الخارج. وترسو اليوم سفينة حربية فرنسية ضخمة في أحد أرصفة ميناء جيبوتي، في تذكير بأنه على الرغم من أن قصر الإليزيه قد لا يكون صانع الملوك كما كان من قبل، فإنه لا يزال يتمتع بنفوذ هائل في إفريقيا الفرنكوفونية، بحسب تقرير الصحيفة البريطانية.
وكانت الزيارة التي قام بها الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى جيبوتي، في مايو/أيار 2021، دليلاً آخر على مدى الأهمية التي تتمتع بها الدولة الصغيرة حجماً الكبيرة في أهميتها، إذ كان السيسي أول رئيس مصري على الإطلاق يزور جيبوتي. والسبب هو سد النهضة الإثيوبي، الذي أوشكت أديس أبابا على تشييده بالكامل، وبدأت بالفعل في توليد الطاقة الكهربائية منه، بينما تراه مصر تهديداً وجودياً لها.