على وقع حرب روسية في أوكرانيا تهدد مستقبل أوروبا، وتضخم يهدد اقتصاد استقرار دول الاتحاد الأوروبي، تشتد وتيرة المنافسة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المزمع إقامتها في 10 أبريل/نيسان 2022، حيث يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لفترة رئاسية جديدة، عبر منافسة 11 مرشحاً آخرَ بحسب القائمة النهائية التي أعلنها المجلس الدستوري الفرنسي في 7 مارس/آذار 2022.
ورغم التحديات التي يواجهها والمنافسة الشديدة مع اليمين في البلاد، تبدو فرص ماكرون للفوز بفترة ثانية ليست ضعيفة، فيما يتطلع المرشحون إلى تحريك الكتل الانتخابية الصامتة في فرنسا، وخاصة الضواحي والأحياء الشعبية. فما الذي قد يجعل هذه الفئة تتحرك وتُغير حسابات الجميع في السباق الانتخابي؟
الانتخابات الفرنسية تسلط الضوء على الضواحي والأحياء الشعبية المنسية
ظلّت الأحياء الشعبية في فرنسا منذ سنوات تفضل الصمت على المشاركة في الانتخابات، لتعرضها لعدة خيبات من السياسات الحكومية المتعاقبة. وهذا العزوف عن التصويت يُجمع كل المراقبين على أنه ليس في صالحها، ويصب في مصلحة أطراف سياسية محسوبة على اليمين المتطرف، تحملها مسؤولية العديد من مشاكل البلاد، بحسب تحليل لموقع فرانس24.
فتصريحات المرشح إيريك زمور، الممثل لأحد جناحي هذا اليمين، أصابت هؤلاء السكان بـ"الصدمة"، والتي قد تكون أحدثت لديها رغبة أكيدة -هذه المرة- في التعبير عن صوتها بكثافة بالسباق الرئاسي.
وفي كل انتخابات فرنسية تطفو إلى سطح النقاش إشكاليات بعينها، مثل تعالي صوت اليمين المتطرف وتراجع اليسار، وقضية الأحياء الشعبية ودورها في الانتخابات، حيث يتنازع معسكرا اليمين واليسار قضية الأحياء الشعبية، وإن كان كل منهما يحمل مقاربة خاصة به في التعاطي معها.
فاليمين عموماً لم يراهن عليها يوماً لكسب الأصوات، بل شكّلت برأي المراقبين رأسمال سياسياً يستخدمه في مثل هذه المناسبات في بعض الأحيان ببعد انتخابي، فيما تراجع اليسار فيها في السنوات الأخيرة، رغم أنها ظلت تشكل أحد معاقله الانتخابية منذ أعوام طويلة.
وتراجُع اليسار في هذه الأحياء التي يقطنها بكثرة الفرنسيون من أصول عربية وإفريقية، إضافة للمهاجرين، كان مرده أساساً "لفشل السياسات الحكومية فيها رغم الوعود التي قُدمت لإخراجها من شتى أشكال الحرمان التي تتخبط فيها، ما خيّب آمال شرائح واسعة" بها، وفق المحلل السياسي مصطفى الطوسة لفرانس24، حتى إن جزءاً من هذه الأحياء "العمالية" أصبح "ينظر لليمين المتطرف بزعامة مارين لوبان أنه البديل".
رسالة مفتوحة إلى المرشحين الرئاسيين
ووعياً منهم بما لرئيس البلاد من دور في إطلاق مشاريع بإمكانها تحسين ظروف الأحياء الشعبية، بادر رؤساء بلديات بضواحي باريس، في نهاية يناير/كانون الثاني، إلى توجيه رسالة مفتوحة للمرشحين، طالبوهم فيها بالكشف عن برامجهم الانتخابية بخصوصها، لا سيما أن هذه المناطق لم تلق الكثير من الاهتمام في مشاريع المقبلين على السباق الرئاسي.
وحول دواعي هذه الرسالة، يفسر ستيفان بودي، عمدة إيفري كوركورون بضواحي باريس ورئيس رابطة رؤساء البلديات في "إيل دو فرانس"، في تصريح له قائلاً: "لقد لاحظنا أن الضواحي ظلت منسية إلى حد كبير في الحملات الانتخابية الوطنية لفترة طويلة جداً".
وتطلّع الموقعون لعقد لقاءات مع المرشحين حول برامجهم الانتخابية بشأن سياسة المدينة. وفي هذا السياق يشير بودي: "نأمل أن يستقبلنا كل مرشح للرئاسة حتى نتمكن من إطلاعهم على تطلعاتنا فيما يتعلق بسياسة المدينة".
ويطلب المنتخبون من المرشحين في هذه الرسالة "التعبير بوضوح عن مقترحاتهم التي من الممكن أن تحسن مستقبل سكان هذه الأحياء". وتطرح الرسالة الإشكاليات المرتبطة بهذه المناطق، كالتعليم والشباب والسكن السيئ.
كما يقدم هؤلاء المنتخبون أنفسهم أيضاً كقوة اقتراحية، تملك جملة من الحلول لقضايا تخص مناطقهم الترابية، ولا ينقصهم لأجل تفعيلها على أرض الواقع إلا الدعم المادي للدولة، وخاصة في مجال التعليم والرياضة والثقافة.
الأحياء الشعبية.. كتلة انتخابية "راكدة" قد يحركها الهجوم اليميني
لكن هذه التحركات لمسؤولين محليين لا تشكل ثقلاً كبيراً في المعادلة الانتخابية، ولا يمكن أن يكون لها صدى كبير لدى المرشحين، إلا إذا كانوا محاطين بكتلة ناخبة، لا تترد في الإدلاء بصوتها عندما يحين الوقت لذلك.
فهناك أطراف سياسية تدرك أن هذه الأحياء ليس لها وزن انتخابي بسبب العزوف عن التصويت فيها، ولا تقيم حسابات كثيرة لمواقفها نحوها، بل تستغل تفاعلها الضعيف مع الواقع السياسي في تحميلها كل المشاكل بأهداف انتخابية بالدرجة الأولى.
فإذا كان اليمين المتطرف بوجهه "اللوباني" المعهود، الوالد سابقاً جان ماري لوبان، وابنته فيما بعد مارين، حزب "الجبهة الوطنية" ثم "التجمع الوطني"، يستغل كل فرصة لانتقاد هذه الأحياء، فالوافد الجديد على هذا الصف السياسي، وهو مرشح حزب "الاسترداد" إيريك زمور، الذي عززت صفوفه حفيدة لوبان، أمعن في الراديكالية، وكانت انتقاداته لهذه الأحياء قاسية جداً.
ومعظم سكان هذه الأحياء فضلوا الدخول في شبه قطيعة مع الأحزاب السياسية التقليدية، خاصة الحزب الاشتراكي، الذي ظلوا يصوتون له لسنوات، ومراقبة الحياة السياسية من بعيد في وقت تتزايد فيه شعبية اليمين المتطرف بشكل أصبح يطرح الكثير من الأسئلة.
"فالنقلة والمنعطف الكبير ليس في اليمين المتطرف المعروف برئاسة مارين لوبان" يقول الطوسة، بل "جاء رجل اسمه إيريك زمور وأغرق هذه الأحياء بالشتائم والانتقادات، وحملها مسؤولية الأزمة الفرنسية، وكل تصريحاته النارية كانت بمثابة تهديد بنشوب حرب أهلية في هذه الأحياء".
هل يكون اليسار وماكرون أكبر المستفيدين من تحريك كتلة الأحياء الشعبية؟
لكن هذا الإمعان في التطرف السياسي والأيديولوجي من قبل زمور "غير من المعادلة، وأصبح الكثيرون داخل هذه الأحياء يرون أن اليمين المتطرف بمثابة خطر على وجودهم، ويجب بطريقة أو بأخرى الذهاب بكثافة لمراكز الاقتراع للتصويت"، بحسب الطوسة.
"وإذا صوّتت هذه الأحياء فعلاً بشكل واسع فهذا قد يصب في صالح مرشح اليسار المتشدد جان لوك ميلنشون". فهو، يضيف الطوسة، "عندما يعلن أنه "هذه المرة يشعر بنوع من التفاؤل"، فلأنه يراهن بشكل أو بآخر على هذه الأحياء التي تعيش عدة أشكال من الحرمان، ويمكن اليوم أن تأخذ مصيرها بيدها وتتوجه بكثافة إلى مراكز الاقتراع، وفي هذه الحالة قد يكون المستفيد هو ميلنشون، لأن المصوتين له يرون أنه يحمل البديل، وهو من يشكل في رأيهم صمام أمان أمام السهام الحادة والانتقادات اللاذعة لليمين المتطرف".
وليس ميلنشون وحده من يمكن أن يحصد أصواتاً كبيرة من الأحياء الشعبية، بل يرى الطوسة أنها "يمكنها أن تصوت لماكرون أيضاً، لأنه قاد البلاد وأدار أزمات بطريقة فعالة وذكية"، إضافة إلى رفضه الدائم في جميع المحطات السياسية لخطاب اليمين المتطرف.
وهذه التعبئة الممكنة وسط سكان الأحياء الشعبية للتصويت في الانتخابات الرئاسية، حدثت، بحسب الطوسة، بفعل "الصدمة التي تسببت فيها التصريحات النارية والملتهبة لإيريك زمور، والذي استهدف بطريقة واضحة الفرنسيين الأفارقة والعرب والمسلمين، وجعلهم شماعة علق عليها كل المشاكل الفرنسية".
المتاجرة بالإسلاموفوبيا لإرضاء اليمين المتطرف الفرنسي
ويبدو أن مسألة تأثير الإسلام على المجتمع الفرنسي قد أصبحت الورقة الرابحة للانتخابات الرئاسية المقررة في أبريل/نيسان المقبل، بعد أن ذهبت فرنسا أبعد من أي بلد غربي آخر في مواجهة ما تسميها "التيارات الراديكالية" داخل الإسلام.
وهذه هي المرة الأولى في تاريخ الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي يتقاسم فيها اليمين واليمين المتطرف المراتب الأربع الأولى في استطلاعات الرأي، وهو ما يضع مسلمي فرنسا أمام خيارات صعبة، في ظل تصاعد الخطاب المعادي للإسلام والمهاجرين في الحملات الانتخابية، بحسب تحليل لوكالة الأناضول.
وأظهر استطلاع للرأي أجرته شركة "إيبسوس-سوبرا ستيريا" ونشرت نتائجه السبت 22 يناير/كانون الثاني، أن الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون، ما زال يتصدر نوايا التصويت بـ25%، متقدماً بنحو 10 نقاط عن أقرب منافسيه. وحازت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان 15.5% من نوايا التصويت.
وبالنسبة نفسها حلّت فاليري بيكريس، مرشحة حزب الجمهوريين، الذي يمثل اليمين الديغولي التقليدي، في المركز الثالث. أما اليميني المتطرف إريك زمور، اليهودي من أصول جزائرية، فتراجع إلى المرتبة الرابعة بـ13%.
ويختلف المرشحون الأربعة حول عدة ملفات، لكن الشيء الوحيد الذي يجمعهم هو خطابهم المعادي للمسلمين والمهاجرين، والتهويل من خطر التهديد الذي يمثله الإسلام على هويتهم العلمانية.