تأثير الأزمة الأوكرانية على العلاقات التركية اليونانية وتوازن القوى بين البلدين سيكون كبيراً على الأرجح، فالبلدان تاريخياً مرتبطان بمنطقة البحرالأسود، كما أن التغييرات الاستراتيجية في سياسات أوروبا ستنعكس على البلدين وعلى طريقة تعامل أوروبا مع الخلافات بينهما.
وتعتبر تركيا من أكثر دول العالم تأثراً من الناحية الاقتصادية بالأزمة الأوكرانية في ظل علاقاتها الوثيقة مع روسيا وأوكرانيا، كما أن اليونان بدورها ستتأثر اقتصادياً بالأزمة، ولكن بشكل أقل بفضل الدعم الأوروبي السخي من ناحية، ولأن ارتباطها بالاقتصاد الروسي والأوكراني أقل من أنقرة، ولكن من الناحية السياسية، فإن خسائر اليونان من الأزمة قد تكون أكبر من تركيا.
وبحث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مع رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، الأحد 12 مارس/آذار 2022، في لقاء جمعهما بقصر وحيد الدين في إسطنبول، مستقبل العلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية والدولية.
بيان صادر عن رئاسة دائرة الاتصال في الرئاسة التركية ذكر أن الجانبين بحثا في اللقاء التطورات الجيوسياسية الراهنة وانعكاسات الحرب الروسية الأوكرانية، وجرت الإشارة خلال اللقاء إلى المسؤولية الخاصة التي تتحملها تركيا واليونان في الهيكلية الأمنية الأوروبية التي تغيرت مع الهجوم الروسي على أوكرانيا.
يذكر أن رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، قد وصل أمس الأحد، إلى إسطنبول؛ للمشاركة في قداس ديني ببطريركية فنر للروم الأرثوذكس، ولقاء الرئيس أردوغان.
روسيا لها تأثير تاريخي على العلاقات التركية اليونانية
للوهلة الأولى قد يبدو أن العلاقات التركية اليونانية قد لا تتأثر كثيراً بالأزمة الأوكرانية، ولكن التاريخ والجغرافيا يجعلان للأزمة الأوكرانية تأثير كبير على البلدين وعلاقتهما.
تاريخياً، ومنذ أن كانت اليونان جزءاً من الإمبراطورية العثمانية، كانت تعتمد على دعم روسيا والغرب في مواجهة تركيا، دعمت روسيا اليونان ضد الدولة العثمانية في محاولتها وراثة الأخيرة في مناطق البحر الأسود والبلقان والقوقاز (شبه جزيرة القرم كانت تابعة للدولة العثمانية).
كما أن روسيا اعتبرت نفسها قد ورثت زعامة العالم الأرثوذكسي من الإمبراطورية البيزنظية (التي كانت إمبراطورية يونانية) لحد كبير، وهذا اعتبرته مبرراً (إضافة للعوامل السياسية والجغرافية) لتشجيع القوميات الأرثوذكسية في الدولة العثمانية- لاسيما بمنطقة البلقان- للتمرد على الدولة العثمانية.
كل ذلك خلق تقارباً تاريخياً بين اليونان وروسيا، وزاد من هذا التقارب أن اليونان عكس كل دول أوروبا الوسطى والشرقية، لم تعانِ يوماً من نير الحكم الروسي سواء في عهد القياصرة أو في عهد السوفييت.
وفي الوقت ذاته كان الغرب يدعم اليونان أيضاً في مواجهة الدولة العثمانية، باعتبار أنها موطن نشأة الحضارة الغربية.
ومن هنا كان اجتماع الدعم الروسي والغربي لليونان أو أي من دول البلقان الأخرى، بمثابة خبر سيئ للدولة العثمانية، ولكن دوماً كان هناك حدود للدعم الغربي لليونان ودول البلقان الأخرى؛ خوفاً من انهيار تركيا أمام روسيا وبالتالي سيطرة الأخيرة على المضايق التركية ووصولها للبحر المتوسط.
ماكرون واليونان حاولا خلق خصومة مع تركيا، ولكن دول شرق وجنوب أوروبا اعترضت
وها هو التاريخ يتكرر من جديد ولكن بشكل عكسي.
ففي السنوات الأخيرة تسببت عوامل عديدة، منها الخلافات بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وصعود ما يمكن تسميته بشوفينية أوروبية تقودها فرنسا وبعض الأوساط الألمانية والشمال أوروبية، تجعل من تركيا خصماً للغرب وتؤيد اليونان في خلافها مع تركيا بدلاً من محاولة الوساطة، وحتى لو كانت اليونان قد أخلت باتفاقات مع أنقرة عقدت بوساطة ألمانية مثلما حدث في عهد ميركل.
وهكذا رأينا فرنسا ترسل قطعاً حربية بحرية وطائرات لدعم اليونان، في مواجهة تركيا، وكان هناك ما يشبه التحالف اليوناني الفرنسي ( يضم أحياناً النمسا وهولندا) يحاول أن يجعل أنقرة خصماً، ويحاول أن يجعل مطالبات وشروط اليونان في الخلافات مع تركيا، سواء في قبرص أو الحدود البحرية، كأنها شروط أوروبية، وكان ماكرون دوماً يتحدث عن السيادة الأوروبية في مواجهة التحركات التركية بالمناطق المتنازع عليها، دون الإشارة إطلاقاً إلى الخطر الروسي أو انتهاكات طائرات بوتين للمجالات الجوية للعديد من الدول الأوروبية.
المفارقة أن من تصدى لهذا التوجه المعادي لتركيا كان دول جنوب أوروبا مثل إيطاليا وإسبانيا، والتي تربطها علاقات قوية مع أنقرة اقتصادياً وسياسياً، ودول شرق أوروبا مثل بولندا ولاتفيا، والتي ترى في أنقرة حليفاً محتملاً ضد روسيا.
أما ألمانيا، فالمستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل نفسها، كانت ميّالة إلى التهدئة والتفاهم مع تركيا ودفع اليونان إلى التفاوض، بينما الأوساط السياسية الألمانية تتبنى نهجاً أكثر حدة منها.
وكانت وساطة ألمانية قد منعت وقوع معركة بحرية بين البلدين، في يوليو/تموز 2020، حسبما قالت صحيفة بيلد الألمانية الشعبية الواسعة الانتشار، التي قالت إن "البوارج البحرية كانت في طريقها (للمعركة)، كما أن الطائرات الحربية كانت تحلق في الجو، لكن الإنقاذ جاء من ألمانيا".
ووفقاً للتفاهمات التي أبرمتها ألمانيا، فإن تركيا أوقفت أنشطة التنقيب، ولكن اليونان خرقت التفاهمات بتوقيع اتفاق ترسيم الحدود مع مصر، الأمر الذي دفع تركيا إلى استئناف التنقيب.
في المقابل، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لم يورط نفسه في الخلافات اليونانية التركية، خاصةً أنه يعلم أن أنقرة أكثر قوة وأهمية من الناحية الاستراتيجية من أثينا، ولذا حاول استقطابها مع الحفاظ على العلاقات اليونانية الروسية، بينما لم تنجح محاولة أثينا لاستقطاب روسيا لموقف ضد تركيا مشابه لموقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
وكان التقارب مع تركيا مع استمرار التنافس سمة أساسية للعلاقة بين بوتين وأردوغان، وكان واضحاً أن بوتين مرتاح للموقف التركي الرافض لاستبعاد أنقرة من تقسيم الثروة الغازية في شرق المتوسط، حيث تمثل هذه الثروة منافساً أساسياً للغاز الروسي.
كيف ستنعكس الأزمة الأوكرانية على موازين القوى بين تركيا واليونان؟
ولكن اليوم وبعد الأزمة الأوكرانية ذهبت أدراج الرياح كل مساعي تنصيب تركيا خصماً لأوروبا والتي كانت تقودها اليونان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي كان يتحدث عن وحدة أوروبية عابرة للأورال تضم روسيا، وتستبعد تركيا.
وبالتالي رهان اليونان التقليدي على تحريض أوروبا والولايات المتحدة على تركيا لا محل له من الإعراب السياسي.
وهذا سيؤدي في الأغلب إلى تقارب يوناني تركي، لأن اليونان تميل إلى إقامة علاقات قوية مع تركيا على المستوى الثنائي الواقعي بمجال الاقتصاد، والتنسيق في الأزمات وأنماط الحياة اليومية، بينما تحرّض أوروبا عليها على المستوى الكبير.
ولكن اليونان تعلم اليوم أن لا أوروبا ولا أمريكا لديهما الوقت ولا الجهد لدعمها في مواجهة تركيا، وأن الناتو بحاجة لترميم وحدته، خاصة في ظل أهمية تركيا في عملية احتواء روسيا.
تركيا مهمة للغرب في ظل التوتر المتصاعد مع روسيا
فبعد أن أصبحت عملية احتواء روسيا هي الهدف الأول للاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة، فإن أهمية تركيا ازدادت بشكل كبير للغرب.
بدءاً من سيطرة تركيا على المضائق الخاصة بالبحر الأسود، وهو ما ظهر في إعلانها تفعيل اتفاقية مونتري بما يعني منع السفن الحربية الروسية من دخول البحر الأسود باستثناء السفن التي توجد موانئها الأصلية بهذا البحر.
كما تظهر أهمية تركيا بالمجال العسكري، خاصةً دورها في تزويد أوكرانيا بطائرات بيرقدار المسيَّرة التي أشاد الأوكرانيون بأدائها أمام القوات الروسية لدرجة أنهم ألفوا لها أغنية، إضافة إلى أهمية الجيش التركي باعتباره ثاني أكبر جيش بالناتو بعد الجيش الأمريكي نفسه.
وهي منافس روسيا التاريخي ولديها ثاني أكبر جيش بالناتو
وبالنظر إلى أن تركيا هي المنافس التاريخي لروسيا في ساحات عدة وعلى رأسها البحر الأسود والقوقاز وآسيا الوسطى والشرق الأوسط (وفعلياً هي الدولة الوحيدة بالناتو التي تصدَّت للنفوذ الروسي في هذه الساحات)، فإنَّ دعم الجيش التركي يكتسب أهمية لسياسة احتواء روسيا، وهو ما عبَّر عنه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في اتصال هاتفي، مع الرئيس الأمريكي جو بايدن، بدعوته واشنطن إلى الإسراع بتلبية طلب تركيا شراء نحو 40 طائرة إف 16 وتحديث 80 أخرى.
ومع أنه من الصعب تصوُّر أن يصل الأمر إلى إعادة تركيا لمشروع إنتاج وحيازة الطائرة الشبحية الأمريكية إف 35 التي أُخرجت منه أنقرة بسبب شرائها صواريخ إس 400 الروسية، فلقد يكون البديل أن تعطي الولايات المتحدة الضوء الأخضر لبريطانيا لتعزيز تعاونها مع أنقرة في مجال إنتاج الطائرة الشبحية التركية التي تراها أنقرة بديلاً للـ"إف 35″، خاصة في مجال تطوير محرك هذه الطائرة، وهو المشكلة الأكبر أمام تركيا في هذا المشروع.
هل يضغط الغرب على أنقرة لقطع شعرة معاوية مع بوتين؟
وعلى الأرجح، لن يقلل من أهمية تركيا للغرب احتفاظها بشعرة معاوية مع روسيا وعدم انضمامها إلى العقوبات الغربية ضدها مثل إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية، بل العكس فهذا الوضع التركي يظل مواتياً للأهداف الغربية، لأن أنقرة تمثل أحد الوسطاء الأساسيين في التحدث مع الروس وبين الروس والأوكرانيين.
ووسط هذه الضجة وعملية إعادة الترتيب الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، يبدو أن لا مكان لخطط اليونان التقليدية الهادفة إلى حشد الدعم الأوروبي لها وراء خلافها مع تركيا حول ترسيم الحدود البحرية أو في الأزمة القبرصية، وهي أهداف يعلم الأوروبيون أنها غير واقعية.
الغاز قد يأتي لأوروبا عبر تركيا
وقبل ذلك تخلت الولايات المتحدة عن دعمها لمشروع خط غاز شرق المتوسط، الذي كانت تقوده اليونان وإسرائيل، وكان أحد أسباب القرار الأمريكي القناعة باستحالة تنفيذه في ظل اعتراض تركيا عليه.
في المقابل، تحسنت العلاقات التركية الإسرائيلية بعد سنوات من الجفاء والتوتر. وقبيل زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ، لتركيا مؤخراً، تحدث الرئيس التركي عن رغبة بلاده في نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر تركيا، وهي مسألة يمكن أن تكتسب دفعاً، بسبب حاجة أوروبا الماسة لإيجاد بديل للغاز الروسي.
وأفاد مسؤولون حكوميون كبار من تركيا وإسرائيل بأن أنقرة وتل أبيب مستعدتان للتعاون في مجال الغاز الطبيعي بشرق البحر المتوسط.
كما تزداد أهمية تركيا في هذا الملف، بالنظر إلى أنها قد تكون ممراً لنقل مزيد من الغاز الأذربيجاني إلى أوروبا، وكذلك الغاز الإيراني في حال رفع العقوبات عن طهران وتطبيع علاقتها بأوروبا.
هل تتخلى أنقرة عن تعاونها التنافسي مع روسيا؟
تاريخياً، كانت أوروبا تنظر إلى الآخر على أنهم المسلمون العرب ثم الأتراك وكذلك الروس (رغم أنهم أوروبيون ومسيحيون).
وكانت هناك توجهات غربية خلال السنوات الماضية، تحاول تأكيد أن روسيا جزء من أوروبا بل مُعجبة ببوتين، بينما تركز على الخصومة تجاه الآخر العربي والتركي، رغم أن أنقرة ترغب في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتؤكد إيمانها بالقيم الأوروبية وفي مقدمتها الديمقراطية، ولكنها تريد معاملة بنديَّة وكشريك وليس تابع.
واليوم شكَّل الهجوم الروسي على أوكرانيا ضربة للمعجبين ببوتين، وهذا لن يؤدي بالتأكيد إلى تغيير وجهة نظر المعادين لتركيا في الغرب، واعتبارهم أنقرة دولة أوروبية وحليفة دائمة، ولكن الأزمة الأوكرانية ستجعل أوروبا تتعامل مع تركيا من منطلق المصالح المشتركة، التي من بينها جعل أنقرة قوة موازنة لروسيا.
لن تُكرر ما حدث في سوريا
ولكن محاولة إجبار أنقرة على قطع علاقتها مع روسيا تماماً، أو استخدامها من قِبل الغرب كمخلب قط ضد روسيا، لن تفلح في الأغلب.
فتجربة تركيا خلال الأزمة السورية، حينما شجعت الدول الغربية أنقرة على دعم المعارضة السورية وزودتها بالسلاح عبرها ثم تركتها وحدها عندما أرسل الروس جيشهم إلى سوريا، لدعم الأسد، بل وسحبت دول الناتو أنظمة صواريخ باتريوت التابعة لها والتي كانت تحمي سماء تركيا، في وقت كانت الطائرات الروسية القادمة من سوريا تنتهك الأجواء التركية، وهي الأزمة التي وصلت لذروتها بإسقاط تركيا طائرة روسية من طراز سوخوي 24 في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 ، وتعاملت معها دول الناتو، وضمنها الولايات المتحدة، كأنها أطراف محايدة وليست حليفة لأنقرة، الأمر الذي دفع الأخيرة إلى تغيير سياستها والعمل على إيجاد قدر من التقارب والتنسيق مع روسيا.
وبالتالي فإن تركيا قد تعزز توجهاتها الحالية لتحقيق التوازن وأحياناً للمنافسة مع روسيا، ولكن في إطار الحفاظ على علاقة غير عدائية مع موسكو، عبر حالة التعاون التنافسي التي ميزت علاقة البلدين خلال السنوات الماضية.
وقد تسعى أنقرة لتحقيق بعض المكاسب الإضافية في مناطق التنافس مع روسيا، خاصة في الشرق الأوسط والقوقاز، ولكن مع الحفاظ على العلاقة مع موسكو.