بينما العالم منشغل بالحرب الأوكرانية على روسيا، فاجأ الحرس الثوري الإيراني الجميع، (بما في ذلك المسؤولين الإيرانيين على الأرجح) بشن هجوم على القنصلية الأمريكية في أربيل، فما سر اختيار الحرس الثوري لهذا التوقيت الذي يأتي في ظل الاقتراب من إحياء الاتفاق النووي الإيراني، والأهم لماذا تبنى الهجوم بهذه الفجاجة على غير عادته؟!
وأعلنت وزارة الداخلية في إقليم كردستان العراق أن 12 صاروخاً باليستياً سقطت على عاصمة الإقليم أربيل في الساعة الواحدة من صباح الأحد 13 مارس/آذار 2022، مستهدفةً المبنى الجديد للقنصلية الأمريكية والمنطقة السكنية المجاورة لها، لكنها لم تتسبب إلا في خسائر مادية، فيما أصيب مدني واحد بجروح، بحسب رويترز.
الهجوم على القنصلية الأمريكية في أربيل جاء من إيران
وقال جهاز مكافحة الإرهاب في إقليم كردستان العراق في بيان إن الصواريخ أطلقت "من خارج حدود إقليم كردستان والعراق وتحديداً من جهة الشرق".
متحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية وصف ما حدث بأنه "هجوم شائن"، لكنه قال إنه لم يصِب أي أمريكي بأذى ولم تلحق أضرار بالمنشآت التابعة للحكومة الأمريكية في أربيل.
وأعلن الحرس الثوري الإيراني في بيانٍ تبنّيه مسؤولية الهجوم الصاروخي، قائلاً إن الصواريخ استهدفت ما وصفه البيان بأنه "مركز إسرائيلي" في أربيل تستخدمه تل أبيب لأنشطة تآمرية واستخباراتية ضد إيران، معتبراً أن هذا يأتي رداً على الهجوم الإسرائيلي على قاعدة في سوريا أدت إلى مقتل اثنين من القادة الإيرانيين.
وأضاف البيان، الذي نقلته وسائل إعلام إيرانية، أن الحرس الثوري يحذّر إسرائيل من "ردٍّ قاسٍ وحاسم ومدمر" في حالة وقوع هجمات مستقبلية.
أعلن التلفزيون الرسمي الإيراني، الأحد، أن الهجمات الصاروخية على أربيل عاصمة إقليم كردستان بشمال العراق استهدفت "قواعد اسرائيلية سرية".
كانت إسرائيل قد أعلنت قبل يومين "حالة التأهب القصوى" بالبلاد؛ تحسباً لأي هجمات انتقامية من جانب طهران في أعقاب مقتل عضوين بالحرس الثوري الإيراني في هجمات إسرائيلية على الأراضي السورية.
وقوبل الهجوم بانتقادات شديدة من قبل الولايات المتحدة، ومن قبل الأطراف العراقية ومنها التيار الصدري المعروف عنه عداؤه تجاه الولايات المتحدة الأمريكية، وقال زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، في بيان، على تويتر: "أربيل تحت مرمى نيران الخسران والخذلان.. وكأن الكرد ليسوا عراقيين".
وفي سياق متصل، قال رئيس حكومة إقليم كردستان العراق، مسرور بارزاني، إن "أربيل لا تنحني للجبناء وعلى الأهالي اتباع توجيهات الأجهزة الأمنية".
وبدوره علق رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي على الاعتداء مؤكداً أن "استهداف مدينة أربيل وترويع سكانها هو تعدٍّ على أمن شعبنا".
هذا ليس الأسلوب التقليدي للحرس الثوري
الغريب في هذه العملية ليس فقط التوقيت ولا الطريقة والهدف فقط بل الإعلان الفج، من قبل الحرس الثوري عن مسؤوليته عن العملية.
وعادة فإن إيران وبالأخص حرسها الثوري، لا يتبنى معظم العمليات التي ينفذها، خاصة لو كانت ضد هدف عالي الحساسية مثل بعثة دبلوماسية أمريكية.
فإيران تفضل أسلوب التنصل من مسؤولية الهجمات أو ترك حالة من الغموض حول الهجمات التي تنفذها ويساعدها على ذلك تعدد وكلائها وحلفائها وتباين درجة صلاتها بهم.
فأشهر الهجمات التي نفذتها إيران في المنطقة مثل الهجوم على منشأة شركة أرامكو السعودية عام 2019، والذي أدى إلى توقف إنتاج نحو 5% من النفط العالمي، قد نفت إيران مسؤوليته عنه، وتحمل الحوثيون المسؤولية عنها رغم أن أغلب الشكوك وطبيعة الهجمات المعقدة تشير إلى أنها نفذت من قبل إيران، وأنها انطلقت من العراق أو الأراضي الإيرانية.
وينطبق الأمر على العديد من الهجمات مثل تلك التي نفذت في مياه الخليج مثل تلك التي استهدفت السفينة المملوكة لشركة إسرائيلية بطائرة مسيرة في صيف 2021.
ومنذ اغتيال الولايات المتحدة لقائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، ونائب رئيس الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس، في يناير/كانون الثاني 2020، استهدفت عشرات الهجمات مصالح أمريكية في العراق بصواريخ وطائرات مسيرة.
ولا تتبنى أي جهة تلك الهجمات عادةً، لكن واشنطن تنسبها إلى فصائل عراقية موالية لإيران تطالب بانسحاب كامل القوات الأمريكية الموجودة في العراق في إطار التحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش.
ويمثل هذا التصرف استفزازاً نادراً من قبل الحرس الثوري الإيراني، واللافت أيضاً أن الجهات الأخرى في إيران، مثل وزارة الخارجية لم تعلن عن الواقعة ولم تعلق على إعلان الحرس الثوري.
وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد برر قراره باغتيال قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، بأن أحد أسبابه مسؤولية قاسمي عن اقتحام متظاهرين عراقيين مواليين لطهران لساحة السفارة الأمريكية في بغداد في عام 2019.
الهجوم جاء في وقت تقترب فيه المفاوضات النووية من النجاح ولا يعرقلها سوى روسيا
النقطة الغريبة الثانية أن الهجوم على القنصلية الأمريكية في أربيل يأتي في وقت أفادت تقارير بأن المفاوضات النووية في فيينا أوشكت على الوصول للاتفاق، وباتت الخلافات محدودة وأبرزها الضمانات التي طلبتها إيران من الولايات المتحدة بعدم التخلي عن الاتفاق، وهو ما رفضته الولايات المتحدة.
ولكن ما يعرقل المفاوضات حالياً بشكل أساسي هو طلب روسيا ضمانات من الولايات المتحدة بعدم التعرض لعقوبات جراء تعاملها مع إيران ضمن الاتفاق، في ظل احتمال أن تكون موسكو هي الطرف الرئيسي الذي سيستقبل اليورانيوم المخصب الإيراني الزائد عن المستوى الذي يحدده الاتفاق النووي، والذي خصبته إيران بعد انتهاكها للاتفاق إثر خروج أمريكا منه في عهد ترامب.
ويأتي هذا الشرط الروسي في ظل توتر العلاقات الأمريكية الروسية، وفرض واشنطن سلسلة من العقوبات على موسكو، وبدا واضحاً أن روسيا تستخدم وضعها في المفاوضات النووية الإيرانية لمحاولة تحقيق مكاسب في الأزمة الأوكرانية أو على الأقل تقليل خسائرها، عن طريق محاولة تأجيل عودة طهران للسوق النفطية، وهو الأمر الذي إذا حدث سيقلل الضغط الاقتصادي على الغرب، وقد يقلل إيرادات موسكو النفطية ويسرع مساعي واشنطن وأوروبا لإيجاد بديل للنفط والغاز الروسيين.
المفارقة أنه في حالة نادرة، اتفقت الدول الغربية وإيران على انتقاد الموقف الروسي الذي اعتبرته طهران معرقلاً للاتفاق، حيث ذكرت وكالة تسنيم الإيرانية شبه الرسمية للأنباء، الإثنين 7 مارس/آذار 2022، أن مسؤولين إيرانيين انتقدوا "التدخل" الروسي في المراحل النهائية للمحادثات التي تهدف إلى إحياء اتفاق طهران النووي مع القوى الكبرى.
ونقلت وكالة تسنيم للأنباء الإيرانية عن مسؤولين إيرانيين قولهم إن المطالب الروسية تهدف إلى ضمان مصالح موسكو في مجالات أخرى وإنها "غير بناءة".
وقالت الوكالة، دون أن تذكر مصدراً لهذا التقييم، إن روسيا تسعى من خلال تأجيل إحياء الاتفاق بين إيران والقوى الغربية وتأخير عودة طهران إلى سوق النفط العالمية إلى رفع أسعار الخام وزيادة عائداتها من الطاقة.
وفي حال إنهاء العقوبات الأمريكية عليها، يريد المنتجون الآخرون، وخاصة روسيا والسعودية، عودة إيران إلى سوق النفط بشكل تدريجي، لكن طهران تريد استعادة حصتها في السوق في أقرب وقت ممكن.
وقد تكون عودة إيران المحتملة كمورد للنفط الخام إلى مصافي التكرير الأوروبية أسرع مما كان متوقعاً الآن، يساعد على ذلك أن صادرات النفط الروسية تواجه تحديات لوجستية وقلقاً من التجار لا سيما الأوروبيين، والأهم فرض حظر محتمل نتيجة توسيع العقوبات الغربية.
وتشير التقديرات إلى أن إيران قد خزنت أكثر من 85 مليون برميل من مكثفات النفط والغاز في البحر. يمكن تصدير هذه الإمدادات بسرعة إذا تم رفع العقوبات.
وقال مسؤول نفطي إيراني كبير لموقع "إنيرجي إنتليجنس": "المشترون الآسيويون يريدون نفطنا بشكل خاص. الطلب الأوروبي ليس جيداً، لكن هذا قد يتغير بسبب الوضع الروسي".
وهناك أيضاً احتمال أن تلعب إيران دوراً في استبدال صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا، التي تلبي نحو 40% من احتياجات القارة، بالنظر إلى أن طهران تمتلك ثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم بعد روسيا.
وقد يجعل كل ذلك إيران واحدة من أكثر الدول التي يمكنها الاستفادة من الأزمة الروسية الأوكرانية.
وقد يفسر ذلك حماس الإيرانيين إلى الوصول لاتفاق، بينما يبدو أن الروس يحاولون عرقلته عبر طلب ضمانات مكتوبة من واشنطن، كما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت قلق جداً من إتمام الاتفاق، وقال إنه بلاده لن تكون ملزمة به.
لماذا يفعل الحرس الثوري ذلك؟
ويثير الموقف التصعيدي المفاجئ من قبل الحرس الثوري، تساؤلات ما هو الهدف من توتير العلاقة بين أمريكا وطهران في وقت تبدو أمريكا تريد عودة طهران لسوق النفط، بينما موسكو هي التي تعرقلها.
قد يكون هدف الحرس الثوري استغلال انشغال أمريكا في الأزمة الأوكرانية وحرصها على عدم إفساد الأجواء مع إيران، للانتقام من إسرائيل أو ادعاء ذلك، وهو انتقام لا يكلفه شيئاً باعتبار أن الهدف الذي تعرض للهجوم أمريكي بالأساس، وإسرائيل لا تعترف بوجود مراكز استخباراتية لها في المنطقة، ولذلك فضلت الصمت.
وقد تمرر أمريكا الأمر لأنها تعلم أن الهجوم الإسرائيلي هو بدوره يهدف إلى إفساد الأجواء المحيطة بالمفاوضات النووية الإيرانية، وكأن الطرفين يستغلان انشغال أمريكا بالأزمة الأوكرانية ورغبتها في المضي قدماً بالمفاوضات النووية، للتوسع في مغامراتهما.
ولكن يظل هناك احتمال لا يمكن استبعاده، وهو أن الهجوم على القنصلية الأمريكية في أربيل، ليس مجرد انتقام من قتل إسرائيل لقائدين إيرانيين بسوريا، بل قد يكون مرتبط بتوجه للحرس الثوري ينحو لتصعيد موقف إيران في المفاوضات النووية استغلالاً لتركيز الولايات المتحدة على الأزمة الأوكرانية، أو تصعيد سقف المطالب الإيرانية في المفاوضات.
والأخطر أن هذا التصرف قد يكون سببه رغبة من الحرس الثوري الإيراني في عرقلة إحياء لاتفاق نووي، فمن المعروف أنه كان هناك توجهات في طهران في بعض أوساط المحافظين وكذلك في الحرس الثوري، تعتبر الاتفاق النووي منذ بدايته ضاراً لمصالح إيران، كما لا تأبه بالحصار المفروض أمريكياً، وترى أن ما تسميه باقتصاد المقاومة أو الممانعة أفضل لإيران وأكثر ضماناً لعدم التعرض البلاد والنظام للتأثيرات الخارجية ولتقلبات السياسات الغربية.