قبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، كانت قضية المدنيين تُستغل كأحد مبررات الصراع، والآن بعد اندلاع الحرب اكتسب المدنيون أهمية خاصة للطرفين، فما سر تمسك الروس والأوكرانيين بالمدنيين؟
ويعيش في أوكرانيا، التي يبلغ عدد سكانها نحو 44 مليون نسمة، أقلية روسية تتركز بالأساس في الأقاليم الشرقية المتاخمة للحدود مع روسيا وبيلاروسيا، ومع اشتداد الأزمة الجيوسياسية بالأساس بين الغرب وروسيا وبينهما أوكرانيا التي تريد حكومتها الاندماج أكثر مع الغرب والانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وربما حلف الناتو أيضاً، أصبحت الأقلية الروسية بأوكرانيا حجر الزاوية في تلك الأزمة.
إذ دعمت روسيا الحركات الانفصالية المسلحة في شرق أوكرانيا منذ أواخر عام 2013، وضمت إقليم شبه جزيرة القرم عام 2014. وأصدر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط، مرسوماً اعترف من خلاله باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس بالاستقلال، ثم شن الهجوم على أوكرانيا بعدها بأربعة أيام، وهكذا بدأت الحرب المستمرة منذ 12 يوماً.
الممرات الآمنة للمدنيين
بشكل عام تتحمل الأطراف المتحاربة مسؤولية مباشرة في تجنيب المدنيين التعرض للقتل أو الإصابة، وهذا ما تنص عليه المعاهدات الدولية، لكن حقيقة الأمر هي أن المدنيين يدفعون ثمناً باهظاً للحروب ربما أكثر من العسكريين أنفسهم.
ومنذ أن بدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، تتصدر معاناة المدنيين الأوكرانيين التغطية الإعلامية من الجانبين، فروسيا تقول إنها شنت ما تسميها "عملية عسكرية خاصة"، بهدف معاقبة من تصفهم بالقوميين الأوكرانيين الذين يشنون إبادة جماعية ضد الأقلية الروسية، بينما تتهم كييف موسكو باستهداف المدنيين الأوكرانيين في أنحاء البلاد، خاصةً المدن الكبرى.
وفي ظل تبادل الاتهامات بين موسكو وكييف بشأن المدنيين، غادر أوكرانيا حتى اليوم الثاني عشر من الحرب مئات الآلاف من المدنيين أصبحوا لاجئين في بولندا ودول أخرى بأوروبا، وتتوقع بعض المنظمات الدولية أن يتخطى عدد اللاجئين الأوكرانيين أكثر من 5 ملايين، دون تقديم تفاصيل أو مدى زمني.
في هذا السياق، بدأ الحديث يتكرر حول إنشاء ممرات آمنة لخروج المدنيين الراغبين في مغادرة المدن الأوكرانية الكبرى التي تحاصرها القوات الروسية من العاصمة كييف إلى ماريوبول في الشرق وأوديسا بالغرب وخاركيف في الشمال الشرقي وغيرها.
وعلى الرغم من أن المفاوضات المباشرة بين الروس والأوكرانيين بدأت منذ الإثنين 28 فبراير/شباط وأجريت أكثر من جولة من تلك المفاوضات وكان إنشاء ممرات آمنة لخروج المدنيين البند الرئيسي على أجندة تلك المفاوضات، فإن تلك الممرات الآمنة لا تزال لم تعمل بالفعل حتى الإثنين 7 مارس/آذار.
وتدخّل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بشكل مباشر، في قضية وجود ممرات آمنة لخروج المدنيين من المدن المحاصرة، وخلال اتصالاته مع نظيره الروسي بوتين أكد ماكرون تلك القضية، بحسب البيانات الصادرة عن الإليزيه، والأمر نفسه تكرر خلال اتصالاته مع نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي.
وتم الإعلان أكثر من مرة عن اتفاق الروس والأوكرانيين على ممرات آمنة لخروج المدنيين، لكن في كل مرة تفشل الجهود ويتبادل الطرفان الاتهامات بشأن أسباب الفشل. والأحد 6 مارس/آذار، أعلنت اللجنة الدولية للصليب الأحمر عن فشل محاولة جديدة لإجلاء المدنيين من مدينة ماريوبول المحاصرة الواقعة جنوب شرقي أوكرانيا، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
لماذا يتمسك الروس بالمدنيين لهذه الدرجة؟
في كل مرة يفشل الاتفاق على الممرات الآمنة لخروج المدنيين يتبادل الجانبان الروسي والأوكراني الاتهامات بشأن مسؤولية ذلك الفشل. وفي ماريوبول، أعلن المجلس البلدي للمدينة أن القصف الروسي جعل عملية الإجلاء الآمن للمدنيين أمراً مستحيلاً، بحسب الرواية الأوكرانية.
بينما يصر الجانب الروسي على أن المسؤولية تقع على عاتق الحكومة الأوكرانية ويتهمها باستغلال المدنيين كدروع بشرية لتعطيل تقدُّم القوات الروسية، في ظل ما تقول موسكو إنه سعي من جانبها لتجنب وقوع ضحايا من المدنيين.
والإثنين 7 مارس/آذار، أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن وقف إطلاق النار بدءاً من الساعة العاشرة صباحاً بالتوقيت المحلي، لتأمين ممرات إنسانية لخروج المدنيين من مدن كييف وماريوبول وخاركوف وسوم-جومشافت، استجابة لطلب توجه به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى نظيره الروسي فلاديمير بوتين.
وطلبت الوزارة من الجانب الأوكراني استيفاء شروط إنشاء ممرات إنسانية وضمان انسحاب السكان المدنيين والمواطنين الأجانب، وأضافت أنه ستتم مراقبة العملية من خلال طائرات بدون طيار، حيث لن يكون أمام الجانب الأوكراني أي حجج لاتهام الجانب الروسي بالإخلال بالاتفاقية، بحسب وكالة سبوتنيك.
كما أكدت الوزارة الروسية أنه سيتم إرسال جميع المعلومات المتعلقة بإنشاء الممرات الإنسانية في أوكرانيا إلى الأمم المتحدة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، واللجنة الدولية للصليب الأحمر والمنظمات الدولية الأخرى.
كما تحدث بوتين هاتفياً مع رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، وتمت مناقشة الوضع في أوكرانيا، وقالت الخدمة الصحفية بالكرملين: "الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أوضح لرئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، الموقف الروسي فيما يتعلق بالعملية الخاصة لحماية جمهورية دونباس".
"تمت مناقشة الجوانب الإنسانية للوضع الحالي في البلاد بالتفصيل. أوجز الرئيس الروسي موقف موسكو فيما يتعلق بإجراء العملية الخاصة لحماية جمهوريتي دونباس، وشدد بوتين على أن الجيش الروسي يتخذ كل الإجراءات الممكنة لإنقاذ أرواح المدنيين". ووفقاً للكرملين، قال بوتين أيضاً إن التهديد الرئيسي في أوكرانيا يأتي من القوميين الذين يستخدمون التكتيكات الإرهابية، ويختبئون وراء السكان.
لكن تلك الممرات الآمنة لم يتم تنفيذها وفشل الاتفاق على وقف إطلاق النار، بعد أن اتهمت كييف موسكو بإجبارها المدنيين الأوكرانيين على المغادرة إلى روسيا أو بيلاروسيا فقط.
واتهمت نائبة رئيس الوزراء الأوكراني، إيرينا فيريشوك، روسيا بمحاولة تضليل ماكرون وزعماء غربيين آخرين من خلال المطالبة بأن يكون أي ممر إنساني للخروج الآمن من أوكرانيا عبر روسيا أو روسيا البيضاء.
ودعت فيريشوك روسيا إلى الموافقة على وقف إطلاق النار اعتباراً من صباح اليوم؛ للسماح بإجلاء الأوكرانيين باتجاه مدينة لفيف في غرب أوكرانيا، وأضافت في إفادة أذاعها التلفزيون، أن أوكرانيا تلقت الاقتراح الروسي في وقت مبكر من صباح اليوم، بعد أن أجرى ماكرون محادثات مع الرئيس الروسي بوتين، بحسب رويترز.
"أتمنى أن يدرك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن اسمه ومساعيه المخلصة للمساعدة… تُستغل في الواقع للتضليل من قبل الاتحاد الروسي".
واتهمت أوكرانيا القوات الروسية بقصف مناطق مخصصة للممرات الإنسانية؛ وذلك لمنع السكان من الفرار من مدن تتعرض للهجوم، بينما قالت موسكو إن "ممرات" جديدة ستُفتح من كييف ومدينتي خاركيف وسومي الشرقيتين إضافة إلى مدينة ماريوبول الساحلية. وألقت موسكو بالمسؤولية على أوكرانيا في الإخفاق حتى الآن في تأمين ممرات إنسانية، ونفت استهداف مدنيين.
لماذا ترفض أوكرانيا رحيل المدنيين ناحية روسيا؟
وجهة النظر الروسية تتلخص في نقطتين رئيسيتين هما: أن استضافة المدنيين الأوكرانيين على أراضيها أو أراضي حليفتها بيلاروسيا يخدم روايتها الخاصة بأن هدفها من الهجوم ليس غزو أوكرانيا وإنما حماية المدنيين من الحكومة الأوكرانية، والنقطة الثانية تتعلق بتوظيف ورقة المدنيين في أي مفاوضات بشأن مستقبل البلاد بشكل عام.
أما الحكومة الأوكرانية فهي لا تريد أن يتوجه أي من مواطنيها إلى موسكو أو مينسك، وتفضل إما بقاءهم للمشاركة في الدفاع عن البلاد في مواجهة الهجوم الروسي وإما الخروج ناحية الغرب كلاجئين بالدول الأوروبية، إذ سيخدم وجود عدد كبير من اللاجئين القضية الأوكرانية على المدى الطويل، إذا ما سيطرت روسيا على البلاد وتم تشكيل حكومة أوكرانية في المنفى.
وقبل حتى أن يبدأ الهجوم الروسي على أوكرانيا، أعلنت الحكومة عن تسليح المدنيين وتدريبهم استعداداً للدفاع عن البلاد، ومع الأيام الأولى للهجوم، نشرت وزارة الدفاع الأوكرانية إرشادات لمواطنيها عن كيفية إعداد قنابل المولوتوف ومقاومة القوات الروسية في شوارع المدن الأوكرانية؛ لمنعها من التقدم.
وأعلن الرئيس زيلينسكي التعبئة العامة في البلاد داعياً جميع الأوكرانيين إلى حمل السلاح، وشمل القرار جميع المواطنين من سن 18 حتى 60 عاماً، وبالتالي فإن السماح بمغادرة المدنيين يكاد يكون محصوراً على كبار السن والأطفال وربما بعض النساء الحاضنات لأطفال صغار أو رُضع.
وأفادت تقارير إعلامية روسية، بأن عمدة مدينة سومي الأوكرانية، ليسينكو ألكسندر نيكولايفيتش، هدد السكان الذين يحاولون عبور الممرات الإنسانية "بإطلاق النار عليهم".
وأعلن ذلك للصحفيين رئيس المركز الوطني لقيادة الدفاع في روسيا، العقيد ميخائيل ميزينتسيف، حيث قال: "في ماريوبول، تم قمع شديد لأي محاولات من قبل السكان المدنيين والمواطنين الأجانب للتقدم في اتجاه أماكن التجمع للقوافل الإنسانية، ومن ضمن ذلك القتل".
"إضافة إلى ذلك، أعلن عمدة مدينة سومي، ليسينكو ألكسندر نيكولايفيتش، مع قائد الكتيبة الوطنية، الساعة 11:50، وأقتبس، لن تكون هناك ممرات خضراء، ولن يذهب أي مدني إلى روسيا، وأولئك الذين يحاولون القيام بذلك سيتم إطلاق النار عليهم"، بحسب تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية.
وفي ظل صعوبة التحقق مما يقوله الروس أو الأوكرانيون بشأن الفشل في الاتفاق على ممرات آمنة ووقف مؤقت لإطلاق النار بغرض مغادرة المدنيين من المدن المحاصرة، فالواضح أن الجانبين يتمسكان بورقة "المدنيين" ولكلٍّ أسبابه ومبرراته، فهل يؤدي ذلك إلى ارتفاع كبير في أعداد ضحايا الحرب من المدنيين؟ يرى فريق من المحللين أن إجابة هذا السؤال بالإيجاب قد تكون ضمن ذرائع الحكومة الأوكرانية لرفض مغادرة المدنيين، فالجانب الروسي هو من سيتحمل تبعات هذا السيناريو الكارثي بطبيعة الحال.