يعمل زعماء دول الشرق الأوسط، مثلهم مثل الزعماء على مستوى العالم، على تهيئة أنفسهم للعصر الجيوسياسي الجديد الذي بدأته أكبر حرب شهدتها أوروبا منذ عام 1945. وفيما تحتدم حرب روسيا في أوكرانيا، تتوجه العديد من حكومات دول الخليج– بالإضافة إلى إسرائيل– بأنظارها إلى ما يحدث على بعد 1287 كم جهة الغرب، وتحديداً في فيينا، حيث تقترب مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني من نهايتها.
وترى إدارة بايدن أن التوصل إلى اتفاق في فيينا تتويج لإنجاز دبلوماسي، بل يبدو أن واشنطن تتعجل إنهاء العقوبات المفروضة على إيران على أمل- بعيد المنال- أن يتدفق النفط الإيراني إلى السوق ويساعد في خفض الأسعار التي رفعها الصراع. ومن الواضح إذاً أن حرب روسيا في أوكرانيا تلقي بظلالها على الشرق الأوسط.
دول الخليج تتحوط خياراتها وتتعلم ألا تعتمد على أمريكا
يقول تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية، إن شركاء واشنطن في المنطقة لن يفوتوا أيضاً أن الولايات المتحدة أعطت ضماناً أمنياً لأوكرانيا عام 1994، مقابل تخلي أوكرانيا عن الأسلحة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفييتي. وفي يناير/كانون الثاني الماضي فقط، منح البيت الأبيض برئاسة جو بايدن ضمانات مماثلة للإمارات بعد تعرضها لهجوم بصواريخ وطائرات مسيرة من ميليشيا الحوثي اليمنية المدعومة من إيران.
ورغم أن إدارة بايدن تبعت ضماناتها الأمنية الأخيرة بنشر طائرات مقاتلة من طراز F-22 وإرسال مدمرة صاروخية موجهة إلى الإمارات، لا يبدو أن أبوظبي تثق في الالتزامات الأمريكية. فبعدها، أعلنت الإمارات شراء 12 مقاتلة صينية من طراز L-15، وتدرس إمكانية شراء 36 طائرة أخرى.
جاء هذا الإعلان بعد أشهر قليلة من كشف صحيفة The Wall Street Journal أن الصين تبني منشأة عسكرية في مطار بشمال العاصمة الإماراتية. وبُعيد هذا الكشف، علقت أبوظبي المفاوضات مع واشنطن على صفقة شراء 50 طائرة من طراز F-35 بقيمة 23 مليار دولار.
تقول فورين بوليسي، إن هذا التحوط الإماراتي ليس استثنائياً بأي حال. فقد تعلمت السعودية أيضاً ألا تعتمد على الولايات المتحدة. إذ تشير صور أقمار صناعية إلى أن السعودية تتعاون مع الصين لبناء صواريخها الباليستية.
ورفضت الرياض أيضاً طلبات إدارة بايدن بزيادة إنتاج النفط للمساعدة في تخفيف الارتفاع الحاد في أسعاره العالمية بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا.
ومن المؤكد أن المستفيدين من ضمانات الأمن الأمريكية في الشرق الأوسط لا يتوهمون أن روسيا أو الصين ستعوضان الولايات المتحدة. لكن تحوُّل تركيز واشنطن نحو آسيا وانسحابها الفوضوي من أفغانستان، وإحجامها الواضح عن استخدام القوة العسكرية، واعتمادها المتزايد على العقوبات الاقتصادية، دفع العديد من الدول المتعاونة أمنياً مع الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إلى تنويع شراكاتها.
ولعل مصر، التي تستعد لتسلم طائرات مقاتلة روسية الصنع من طراز Su-35- وهي صفقة قد تؤدي إلى فرض عقوبات عليها من الكونغرس الأمريكي- أبرز مثال على هذه الظاهرة.
دول المنطقة تتطلع إلى مصالحها في عالم جديد متعدد الأقطاب
وإذا كان شركاء أمريكا يخشون الاعتماد على الولايات المتحدة واعتبارها المورد الرئيسي لأسلحتهم، فالتحول نحو الأسلحة الروسية والصينية له أسباب أخرى أيضاً. فالقيود المفروضة على استخدام هذه الأسلحة ليست مرهقة مثل تلك التي تفرضها الولايات المتحدة. بل لا توجد قيود أصلاً. والتحول إلى موردين آخرين أيضاً يشير إلى عالم جديد متعدد الأقطاب أصبحت فيه روسيا طرفاً في سوريا وليبيا، ومن المرجح أن تظل كذلك حتى بعد حرب أوكرانيا.
وروسيا والصين تتمتعان أيضاً بعلاقات اقتصادية مهمة مرتبطة بالطاقة في منطقة الخليج. فالصين، على سبيل المثال، استوردت ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما استوردته الولايات المتحدة من النفط الخام من الشرق الأوسط عام 2021.
وهذه الحقائق الجديدة لا تؤثر على صفقات الأسلحة فحسب، بل تؤثر أيضاً على المبادرات الدبلوماسية الأمريكية. فخلال رئاسة ترامب وبايدن، ورغم الطلبات الأمريكية العديدة رفيعة المستوى، لم تُقدِم أي دولة خليجية على إدانة الصين على خلفية إبادتها الجماعية للمسلمين الإيغور.
ولم تندد أي دولة شريكة للولايات المتحدة في الخليج- باستثناء الكويت- بالهجوم الروسي على أوكرانيا في الأيام الأولى من الحرب. وحتى الأردن، أحد المستفيدين الرئيسيين من المساعدات العسكرية الأمريكية، التزم الصمت. وبعد رفض الإمارات إدانة روسيا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الأسبوع الماضي، لم تفعل دول الخليج أكثر من توجيه اللوم إلى موسكو في تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الأربعاء 2 مارس/آذار.
ورغم انتقاد إسرائيل لروسيا، أفادت تقارير أنها عارضت بيع نظام القبة الحديدية الدفاعية المضادة للصواريخ- الذي تعاونت إسرائيل والولايات المتحدة في تطويره- لأوكرانيا. ويبدو أن الإسرائيليين يخشون أن يؤدي بيعه لإثارة غضب الروس، وبالتالي زيادة تعقيد تنسيق العمليات الجوية التي تنفذها على أهداف عسكرية إيرانية في سوريا، التي تحرس صواريخ موسكو المتطورة المضادة للطائرات مجالها الجوي.
الثقة بواشنطن تتراجع في الشرق الأوسط
تقول فورين بوليسي إنه رغم تحول الولايات المتحدة إلى آسيا، يظل وجودها الدبلوماسي والعسكري في الشرق الأوسط ملحوظاً. لكن تضاؤل ثقة المنطقة في واشنطن يقوض جهود الولايات المتحدة للرد على نفوذ الصين وروسيا المتنامي في المنطقة. وعلى واشنطن، في ظل تزايد الطلب وتناقص الموارد، أن تكون أكثر حكمة في التزاماتها وأكثر حرصاً على الإيفاء بها، خشية ألا تنجح ضماناتها في طمأنة شركائها.
وعلى المدى القريب، سواء عاد بايدن إلى الاتفاق النووي الإيراني أم لم يفعل، لا يوجد التزام أمريكي في المنطقة أهم من تعهدها بمساعدة شركائها في مواجهة التهديدات الإيرانية، حتى لو لم يكن سلاحاً نووياً، خاصة أن ارتفاع أسعار النفط يملأ خزائن إيران بمزيد من الأموال.
وبغض النظر عن الأوصاف التي يمنحها المسؤولون الأمريكيون لالتزامهم- "حازم" أو "ثابت" أو "صارم" أو أي وصف دبلوماسي آخر- فوقوف واشنطن إلى جانب شركائها القدامى أفضل طريقة أمامها للحفاظ على مصداقيتها وردع خصومها، كما تصف ذلك المجلة الأمريكية.