تتجاهل الشرطة الإسرائيلية القيام بدورها الطبيعي في محاربة الجريمة، ما دام ذلك يعرض حياة المواطنين العرب للخطر، وترفع شعار "دعوهم ليقتلوا بعضهم البعض"، بحسب ما كشفه تقرير لصحيفة بريطانية.
ويُعرَّف حوالي 20% من سكان إسرائيل، البالغ عددهم 9 ملايين نسمة، بأنهم عرب. ويضم هؤلاء البدو والدروز، بجانب الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين. ومن الناحية النظرية يُمنح هؤلاء نفس الحقوق المدنية والسياسية المكفولة للمواطنين اليهود، ولكن عند التطبيق العملي تعاني هذه المجتمعات من تمييز مؤسسي شديد.
ففي مناطق العرب والمناطق ذات الأعراق المختلفة حول البلاد تعرض أزمة عنف الأسلحة النارية صورة قاتمة للمشكلات التي تواجهها الأقليات التي تعيش في الدولة اليهودية.
الطفل عمار ضحية طلق ناري طائش
ونشرت صحيفة The Guardian البريطانية تقريراً عنوانه "الشرطة لا تكترث": عنف الأسلحة يحيط بالمجتمع العربي في إسرائيل"، رصد عدداً كبيراً من حالات القتل العشوائي بين المواطنين العرب، وردود الفعل السلبية من الشرطة الإسرائيلية تجاه تلك النوعية من الجرائم.
ورصد تقرير الصحيفة كيف فقد الطفل عمار، البالغ من العمر ثلاث سنوات، حياته في إحدى ساحات اللعب في بئر المكسور، وهي قرية بدوية هادئة بالقرب من الناصرة شمال إسرائيل.
وكان عمار يلعب خارج منزل عائلة حجيرات، حسبما قالت عمته، فأُطلق الرصاص على الصبي الصغير وقُتل في إحدى ساحات اللعب، بسبب رصاصة طائشة أُطلقت أثناء مطاردة بالسيارة، وتحاول العائلة المكلومة استيعاب الطريقة التي انتهت بها حياة الصغير.
قالت إيمان، ابنة عم عمار، بينما كانت تجلس مع أمه عائشة: "الشرطة لا تكترث لما يحدث للفلسطينيين، ولذا تستطيع [العصابات] قتل الأطفال بينما يلهون ولن يحدث شيء. إننا غاضبون للغاية". أما عائشة، التي لا تزال مفجوعة من الصدمة، فكانت تضع يديها في حجرها، وتظهر عيناها حمراوين بسبب البكاء.
كان عمار أول ضحية في عام 2022 تُحصد روحه من جراء وباء عنف الأسلحة النارية الذي يحيط بالمجتمع العربي في إسرائيل: ففي العام الماضي فَقَدَ 127 شخصاً حياتهم لنفس السبب، والعدد يأخذ في التزايد عاماً بعد عام منذ 2013. وفي الوقت ذاته تزايد بيع الأسلحة النارية غير القانونية في الشوارع، وتشير بعض التقديرات إلى أن عدد الأسلحة النارية يبلغ مئات الآلاف، وهي في الأساس إما مسروقة من مستودعات الجيش الإسرائيلي أو مهربة عبر الحدود الأردنية.
ماذا تقول الشرطة الإسرائيلية؟
بحسب صحيفة The Guardian، فإن عنف الأسلحة هذا يعني أن احتمالية مقتل أبناء الأقلية العربية في إسرائيل، البالغ عددهم مليوني نسمة، على يد إخوانهم العرب، أكبر من احتمالية مقتل الفلسطينيين في الضفة الغربية على يد قوات الأمن الإسرائيلية. والفرضية السائدة لدى الشرطة حتى هذا التاريخ بلغت حد قولهم: "ما داموا يقتلون بعضهم بعضاً فتلك مشكلتهم"، وذلك وفقاً لما صرح به مسؤول إسرائيلي كبير.
وتقول الصحيفة البريطانية إن شبكات الجريمة المنظمة متأصلة بعمق في المجتمع العربي، الذي يلجأ إلى زعماء العصابات للحصول على قروض عندما ترفض البنوك الإسرائيلية طلباتهم، ينتشر الفساد والابتزاز في السياسات المحلية، مثلما تنتشر عصابات الحماية.
ولا يثق أبناء هذه المجتمعات في الشرطة ويخشونها، ما دفع المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل للجوء إلى الطرق التقليدية لحل الخلافات التي تقع بين العشائر والعائلات المتناحرة، مثل جلسات الصلح العرفية.
ولكن نظراً إلى أن الشباب العرب من الذكور هم الأشد تضرراً من أزمة البطالة التي سببتها جائحة كوفيد-19، فإن الشوارع الآن تمتلئ بمجندي العصابات المسلحين العازمين على تنفيذ هجمات لصالح زعمائهم، أو الثأر نيابة عن شخص ما إذا دفع السعر المناسب، والنتيجة هي تمزق النسيج المجتمعي الذي يحافظ على هذه المجتمعات المهمشة.
على مدى الشهر الماضي، التقت صحيفة The Guardian بأكثر من عشرة أشخاص في مدينة اللد وسط إسرائيل والبلدات المحيطة بـ "المثلث العربي". وجميع هؤلاء فقدوا ذويهم الأبرياء، بسبب جرائم عنف الأسلحة النارية.
في مدينة الرملة، قُتلت المعلمة المحبوبة شريفة، زوجة محمد أبو معمر، في تبادل لإطلاق النار وقع في أغسطس/آب 2020، بينما كانت تقف أمام حوض المطبخ في شقة العائلة الكائنة بالطابق الثاني. وقد عُثر عليها ميتة بعد أن حاول ابنها البالغ من العمر عامين إيقاظها. قال أبو معمر: "لا أستطيع أن أعمل، إنني أكافح مع أطفالي، لا أستطيع حتى العودة إلى داخل الشقة الآن، إنه شيء مؤلم للغاية".
بينما تكون عمليات قتل أخرى نتيجة أعمال وحشية متعمدة. في العام الماضي قُتل الطالب المتفوق والمتطوع لدى خدمات الإسعاف أنس الوحواح، 18 عاماً، بعد أن أُطلق عليه الرصاص بينما كان داخل سيارته، وبينما كانت والدته تجلس بجواره في أحد مقاعد الركاب، في جريمة تبدو أنها انتقامٌ لإساءات ارتكبها أحد أبناء العائلة الذي تجمعه بالقتيل صلة قرابة من بعيد.
وأحياناً تشتد العداوات نتيجة انتشار الأسلحة، في مدينة قلنسوة فقدت عبير خطيب وزاهية نصرة ابنيهما المراهقين، اللذين كانا صديقين مقربين أيضاً، بعد أن فتح أبناء عشيرة منافسة النار على مجموعة من الشباب كانوا يتنزهون في الخارج في إحدى عطلات الأسبوع من شهر مارس/آذار. وكان القتال قد بدأ في الأساس قبل أشهر من ذلك، بسبب خلاف حول ركن السيارات.
كذلك تتصاعد وتيرة قتل النساء عن طريق أزواجهن، أو عن طريق أقاربهن الآخرين. قالت فداء شحادة، عضو المجلس المحلي في اللد، وواحدة من النساء العربيات الكثيرات حول إسرائيل اللواتي يساعدن في حشد عائلات الضحايا داخل جماعة ضغط سياسية مفوهة، تسمى أمهات من أجل الحياة: "غالبية هذا المجتمع تأثر بشدة في عام 1948 [بعد إعلان تأسيس دولة إسرائيل على أجزاء من أرض فلسطين]. شُرد الناس، وأُلقي بهم تحت وطأة الفقر، لقد اضطروا أن يبدأوا من جديد، ولذا هناك جريمة بكل تأكيد". وأوضحت: "ما يحدث الآن هو الواقع الذي يحدث عندما تُحجب المدارس وفرص العمل عن شعب بأكمله".
لم يتغير شيء بعد دخول حزب عربي الحكومة
وأضافت شحادة: "قبل حوالي عقد من الزمان شنت الشرطة حملة أمنية ضد المافيا اليهودية، ووضعت قادة العائلات في السجن. لدى إسرائيل أفضل بنية تحتية أمنية في العالم، ولكن ألا تستطيع الشرطة إلقاء القبض على بعض المراهقين العرب الذين يحملون أسلحة داخل بلدنا؟ هيهات، إنه يوضح تماماً كيف يجري تقديرنا بوصفنا مواطنين".
لم تُحل من قضايا قتل المواطنين العرب إلا ربعها في العام الماضي، مقارنة بحل حوالي 70% من قضايا قتل المواطنين اليهود، وهو فارق قالت الشرطة الإسرائيلية في بيان أُرسل عبر البريد الإلكتروني إنه يعكس أن تحقيقات جرائم القتل تكون "ممتلئة بالتحديات (التي تتضمن) غياب التعاون من جانب المواطنين".
لكن جميع العائلات التي قابلتها صحيفة The Guardian، قالت إن جهودها للمساعدة في التحقيقات، أو توسلاتها من أجل الحصول على معلومات حول سير القضايا، قوبلت بالتجاهل. أبو معمر، الذي وافق على الاعتراف ضد قتلة زوجته، واجه تهديدات بالقتل من العصابة، لكنه لم يتلق أي مساعدة من الشرطة، فيما عدا وضع حاجز عند نهاية الشارع الذي يعيش فيه.
وتجدر الإشارة إلى أن الائتلاف الحكومي الحالي -الذي يضم للمرة الأولى حزباً عربياً- قد جعل التصدي للجريمة في المجتمع العربي أحد الوعود الرئيسية التي قدمها للجمهور، وحدد ميزانية بقيمة مليار شيكل (حوالي 312.5 مليون دولار) لنشر مزيد من أقسام الشرطة في البلدات العربية، واستحداث وحدة خاصة مكرسة لشؤون المجتمع العربي.
ولكن في مقابلة مع وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي، عومر بارليف، الذي يحمل مسؤولية تنظيم أعمال الشرطة، أقر بارليف بأن الأمر سيستغرق بعض الوقت من الناس حتى يقتنعوا حقاً "بأن هناك تغييراً". وأوضح قائلاً: "في الأشهر الستة الماضية، كانت هناك زيادة بنسبة 30% في عدد الأشخاص الذين يُلقى القبض عليهم ويُحاكَمون. لم تكن الأمور تسير بهذه الكثافة من قبل، وإننا نفعل ذلك الآن".
بالنسبة للضحايا الذين ينظمون أنفسهم ويدعم بعضهم بعضاً من خلال جماعة أمهات من أجل الحياة، وهي مظلة تضع أصوات النساء العربيات في صدارة اهتمام السياسات للمرة الأولى، لا يمكن أن يأتي التغيير بالسرعة الكافية.
في بئر المكسور، كان منزل عائلة حجيرات في القرية ممتلئاً بالجيران والأقارب والغرباء القادمين من كل حدب وصوب ليقدموا واجب العزاء.
قالت عائشة أم الطفل: "التضامن من جميع هؤلاء الأشخاص، من المسلمين والمسيحيين واليهود، هو الشيء الوحيد الذي يبقيني قوية الآن. أؤمن بالخير في الناس، لم أتوقع قط أن هذا يمكن أن يحدث لنا… أتمنى أن يفعل هذا الغضب شيئاً. يجب أن يتوقف القتل".