في خطوة من شأنها التأثير على موازين القوى في ليبيا وخلط الأوراق مجدداً، صوّت المجلس الأعلى للدولة ضد التعديل الدستوري وتغيير الحكومة، ما يلغي التوافق مع مجلس النواب، ويُضعف من حظوظ فتحي باشاغا لقيادة الحكومة من العاصمة طرابلس.
حيث صوّت 51 عضواً في مجلس الدولة ضد تعديل مجلس النواب في طبرق من إجمالي 57 عضواً حضروا جلسة الخميس، التي عُقدت بطرابلس.
واقترح مجلس الدولة تشكيلَ لجنة مشتركة مع مجلس النواب تتولى إعداد قاعدة دستورية خلال مدة أقصاها 31 مارس/آذار 2022، ويتم بعدها التوافق على قوانين انتخابية بين المجلسين، وأن يتم تأجيل أي تعديل في السلطة التنفيذية "إلى حين استكمال وضع القاعدة الدستورية والقوانين".
ويتزامن هذا التطور السياسي مع استكمال فتحي باشاغا تشكيلة حكومته، وتوجيه رئيس مجلس النواب في طبرق دعوة أعضائه لحضور جلسة الإثنين المقبل، من المنتظر أن تخصص لبحث منح الثقة لحكومة باشاغا.
فشل التوافق
قبل الأربعاء 23 فبراير/شباط 2022، كان باشاغا الأقرب لحسم الصراع مع رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، بالنظر لأنه كان مسنوداً بـ"توافق" بين مجلسي النواب والدولة، حيث حظي "بإجماع" النواب الذين حضروا جلسة اختيار رئيس الحكومة في 10 فبراير/شباط الجاري، وتزكيات 51 عضواً من مجلس الدولة.
غير أن تحفظ 54 عضواً في مجلس الدولة على تغيير السلطة التنفيذية قبل إنهاء المسار الدستوري، والاكتفاء فقط بتعديل الدستور، دون انتظار مناقشة المسألة في جلسة رسمية للمجلس، أثار جدلاً بشأن موقفه النهائي، وتشكيكاً حول ما إذا كان هناك توافق فعلي حول خارطة الطريق التي صادق عليها مجلس النواب.
وبعد تأجيل عقد جلسة لمجلس الدولة أكثر من مرة لأسباب أمنية، انعقدت أول جلسة في 23 فبراير/شباط، بعد نحو أسبوعين من تكليف باشاغا برئاسة الحكومة، وشهدت نقاشات حادة بين أعضاء مجلس الدولة، انتهت بقطع التيار الكهربائي وإطلاق النار في محيط مقر الاجتماع بطرابلس، بل وحتى ضد عبد الرحمن السويحلي، الرئيس السابق للمجلس وعدد من أعضائه.
كان واضحاً أن أغلبية أعضاء مجلس الدولة ضد تغيير الحكومة وتعديل الإعلان الدستوري، وأن جهة ما داعمة لباشاغا حاولت بكل السبل إعاقة التصويت وتعطيله، أو على الأقل تأجيله، كما طالب بذلك عدد من أعضاء المجلس بحجة غياب الأمن.
وتبين فيما بعد أن قطع التيار الكهربائي على مقر جمعية الدعوة الإسلامية التي انعقد فيها الاجتماع كان متعمداً، بعد نفي شركة الكهرباء قطعها للتيار عن المنطقة، ما دفع خالد المشري رئيس مجلس الدولة لمراسلة رئيس الحكومة للتحقيق في هذا الأمر، وأيضاً بشأن إطلاق النار بالقرب من مكان الاجتماع.
وفي 24 فبراير/شباط، صوّت أعضاء المجلس بشبه إجماع على رفض تغيير السلطة التنفيذية والتعديل الدستوري، في ظل غياب الأعضاء الداعمين لباشاغا، وغالبيتهم من الحزب الديمقراطي، بقيادة محمد صوان.
ويتبين من خلال تغير مواقف بعض أعضاء مجلس الدولة من دعم خارطة الطريق التي تم التوافق بشأنها مع مجلس النواب، إلى التصويت ضدها، نجاح الضغط الشعبي الذي راهن عليه الدبيبة، للدفع نحو انتخابات عاجلة في يونيو/حزيران المقبل، بدل انتظار 14 شهراً أخرى.
الاعتراف الدولي أصبح صعباً
يثق باشاغا بقدرته على إزاحة حكومة الدبيبة من طرابلس، مثلما فعل ذلك ذات يوم مع حكومة الإنقاذ برئاسة خليفة الغويل (ثلاثتهم من مدينة مصراتة).
وخطة باشاغا، ببساطة، تتمثل في إقناع الكتائب المكلفة بحراسة المقرات الرسمية وعلى رأسها مقر رئاسة الحكومة بتغيير ولائها، وهذه المسألة شائعة في ليبيا، فالولاءات يمكن الحصول عليها بالإقناع أو حتى بالأموال.
ومعروف عن باشاغا أن العشرات من الكتائب المسلحة في مصراتة والغرب الليبي إجمالاً تدين بالولاء لشخصه، بما فيها وحدات تابعة للشرطة في طرابلس.
وكان باشاغا يعول على توافق مجلسي النواب والدولة، لإقناع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي باحترام الخيار الليبي، ما كان سيجعل من حصوله على الاعتراف الدولي تحصيل حاصل، وبالتالي استحواذه على الشرعية داخلياً وخارجياً.
ما يمكنه من الحصول على دعم مؤسسات الدولة، وعلى رأسها البنك المركزي ومؤسسة النفط، وسينتزع بذلك السلطة المالية من حكومة الدبيبة، ويضمن بها ولاء أغلبية الكتائب في المنطقة الغربية.
غير أن إعلان مجلس الدولة بشكل رسمي "رفض المخرجات الصادرة عن مجلس النواب، بخصوص التعديل الدستوري، وتعديل السلطة التنفيذية؛ لمخالفتهما الاتفاق السياسي، وشكل وروح التوافق بين المجلسين"، سيفسد بشكل كبير خطة باشاغا.
لأنه في غياب التوافق، لا يمكن لباشاغا إقناع الأمم المتحدة بشرعية حكومته، خاصة أن المستشارة الأممية ستيفاني وليامز أكدت في مختلف لقاءاتها بالفاعلين السياسيين في البلاد على "ضرورة التوافق للحفاظ على الهدوء والاستقرار".
بينما المجتمع الدولي الذي تقوده الدول الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة منشغل حالياً بالأزمة الأوكرانية، وإن كان إلى وقت قريب منقسماً ومتردداً وينتظر ما ستتمخض عنه تطورات الأحداث.
فبينما حسمت مصر وروسيا موقفهما لصالح دعم باشاغا، فإن لقاء الدبيبة بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في قطر على هامش قمة الدول المصدرة للغاز، منحه شرعية جديدة، ناهيك عن موقف الرئيس التركي المتعاطف مع الدبيبة، رغم علاقته الجيدة مع باشاغا.
فغياب التوافق بين مجلسي النواب والدولة سيجعل المجتمع الدولي ينتظر إلى غاية أن يحسم الطرفان خلافاتهما قبل اتخاذ أي موقف لصالح هذا الطرف أو ذاك، وخلال فترة الانتظار الدولي ستبقى حكومة الدبيبة تحظى بالاعتراف الدولي، وسلطة الآمر بصرف أموال البنك المركزي، ما يضمن لها ولاء الجيش الليبي، والكتائب المساندة ووحدات الأمن.
حكومة موازية
أما من الناحية العسكرية، فشكل الدبيبة "قوة دعم الانتخابات والدستور"، التي تتبع لوزارة الدفاع، التي يتولى حقيبتها بنفسه.
وتمثل هذه القوة المسلحة رسالة إلى باشاغا، باستعداده لاستعمال القوة إن اقتضى الأمر لمنعه من تثبيت حكومته في طرابلس.
حيث حذر الدبيبة، أثناء عرضه لخطته لإجراء الانتخابات، بأن مسار مجلس النواب "سيؤدي حتماً إلى الحرب"، ثم قال في لقاء منفصل إن "أي مخطط لنشر الفوضى والاقتتال لن ينجح، وسنقدم التضحيات من أجل بلادنا".
فخيار المواجهة العسكرية بين الكتائب الداعمة لباشاغا والقوات المساندة للدبيبة ليس مستبعداً، كما يرجح البعض، وما إطلاق النار على أعضاء من مجلس الدولة عشية التصويت على خارطة طريق مجلس النواب سوى بروفة لهذا العنف المحتمل.
ويسعى المجلس الرئاسي وحكماء مصراتة للتوسط بين الدبيبة وباشاغا لدرء مثل هذه المواجهات المحتملة، التي من شأنها تقسيم المنطقة الغربية.
وإذا نجح الدبيبة، في منع باشاغا من إقامة حكومته في طرابلس، فسيضطر الأخير إلى البحث عن مدينة آمنة للتمركز بها، وقد تكون سرت (450 كلم شرق طرابلس) الخاضعة لسيطرة حفتر، أو مدينة البيضاء (شرق)، التي كانت مقراً للحكومة المؤقتة بقيادة عبد الله الثني.
وحسب هذا السيناريو، فسيقود باشاغا حكومة موازية تفتقد لأدنى مقومات النجاح، وسيكون حينها تحت حماية خليفة حفتر، قائد قوات الشرق، ما سيضعف نفوذه على كتائبه، ويسيء إلى سمعته في المنطقة الغربية، ويفقده السلطة على مؤسسات الدولة، الأمر الذي سيرفضه حتماً، لأنه سينتهي به إلى مصير حكومة الثني غير المعترف بها دولياً (2014-2021).
وشخصية باشاغا، المتطلعة إلى توحيد ليبيا، لن تسمح له بأن يشكل حكومة موازية من شأنها ترسيخ الانقسام، بل سيسعى بكل الوسائل الممكنة بما فيها العسكرية، لتركيز حكومته في طرابلس.
أما إذا فشل في تحقيق ذلك خلال أشهر، فقد يفضل الانسحاب من السلطة على أن يكون مصدراً لتقسيم البلاد، خاصة إذا نجحت الوساطات المحلية والدولية في حدوث توافق يسمح للخصوم السياسيين بدخول حلبة المنافسة الانتخابية على السلطة بدلاً من المواجهة في ميادين القتال.