هل تؤدي الحرب الأوكرانية إلى تشكيل الصين وروسيا محوراً عسكرياً وسياسياً ضد الولايات المتحدة وحلفائها؟
إذ ينذر الهجوم العسكري الذي تشنه روسيا على أوكرانيا بأول صدام كبير في نظام جديد للسياسة الدولية، ومن الواضح أن التنافس بين الولايات المتحدة والصين وروسيا الملمح الأبرز لهذا النظام، حسبما ورد في صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.
وقبيل الحرب الأوكرانية بأسابيع، أعلنت الصين وروسيا شراكة "بلا حدود"، تدعم خلالها كل منهما الأخرى في الأزمات بشأن أوكرانيا وتايوان، مع تعهد بزيادة التعاون في مواجهة الغرب، وذلك في إعلان مشترك على هامش مشاركة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين الجمعة 4 فبراير/شباط 2022.
واستضاف الرئيس شي جين بينغ نظيره الروسي فلاديمير بوتين الجمعة مع إعلان البلدين أن علاقتهما كانت متفوقة على أي تحالف في حقبة الحرب الباردة وأنهما سيعملان معاً في مجال الفضاء وتغير المناخ والذكاء الاصطناعي والتحكم في الإنترنت.
ودعمت بكين مطلب روسيا بضرورة عدم ضم كييف إلى حلف شمال الأطلسي مع حشد الكرملين 100 ألف جندي بالقرب من جارتها، بينما عارضت موسكو أي شكل من أشكال استقلال تايوان في الوقت الذي تتصارع فيه القوى الكبرى على مناطق نفوذها.
كما وقع البلدان صفقة غاز ضخمة بقيمة 117 مليار دولار.
أمريكا قد تواجه أياماً أسوأ من الأيام الباردة
تختلف المحن الحالية عن تلك التي واجهتها الولايات المتحدة وشبكة تحالفاتها في الحرب الباردة. وأول ملامح الاختلاف أن روسيا والصين أقامتا الآن شراكة ناجحة استندت بعض أسبابها إلى غاية مشتركة تجمعهما على العمل من أجل تقليص قوة الولايات المتحدة وهيمنتها.
وعلى خلاف الحالة التي كانت عليها الكتلة الصينية السوفييتية في خمسينيات القرن الماضي، فإن روسيا في الوقت الحالي أكبر مورّد للغاز إلى أوروبا، والصين لم تعد شريك الاتحاد السوفييتي الفقير الممزق تحت وطأة الحروب، بل مركز التصنيع في العالم وقوة عسكرية تزداد نفوذاً كل يوم.
قبيل إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يوم الخميس 24 فبراير/شباط عما سماه "عملية عسكرية خاصة" في أوكرانيا، قال بوتين إن الغرب عليه أن يعيد النظر في تدابير الحفاظ على أمن أوروبا التي وضعت بعد الحرب الباردة ويعدِّلها، مستدلاً بأن روسيا تمتلك القوة العسكرية اللازمة لفرض إرادتها رغماً عن اعتراض الغرب وعقوباته على الاقتصاد الروسي.
ولكي يبرهن بوتين على ما قاله، نقل وحدات عسكرية من حدود روسيا مع الصين، مبرزاً الثقة بعلاقاته مع بكين. والواقع أن القوتين تتحركان الآن في تعاونٍ يرمي إلى إعادة تشكيل النظام العالمي في هيئة جديدة تخدم مصالح كل منهما، وإن كانت العلاقات لم تبلغ حتى الآن التحالف الرسمي.
فهي ستصارع خصمين في وقت واحد
هذا النظام الناشئ يجعل الولايات المتحدة تُصارع خصمين في وقت واحد وفي مناطق تتباين جغرافياً لكن يجمعها أن لأمريكا في كلٍّ منها شركاء مقربين ومصالح اقتصادية وسياسية عميقة. ومن ثم، فإن الرئيس الأمريكي جو بايدن عليه الآن أن يحسم أموراً مهمة، منها تعديل الولايات المتحدة لوجهة تركيزها على الساحة الدولية، وزيادة الإنفاق العسكري، ومطالبة الحلفاء بمزيدٍ من التعاون في هذا السياق، ونشر قوات إضافية في الخارج، والسعي إلى تنويع مصادر الطاقة لتقليل اعتماد أوروبا على موسكو.
تقول ميشيل فلورنوي، التي كانت أكبر مسؤول سياسي في البنتاغون في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما: "ما نشهده يدل على أن الصين، وإن لم تكن في وفاق تام مع خطط بوتين حقاً، إلا أنها على استعداد للتعاون معه في تحالف من الدول السلطوية ضد الدول الديمقراطية الغربية، وإننا سنرى مزيداً من ذلك في المستقبل".
أمريكا كانت قد بدأت تركز على الصين وتقلل من الخطر الروسي
على مدار العقد الماضي، بدأت المؤسسة الأمنية الأمريكية في التنبُّه لما أطلقت عليه وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) في عام 2015 "عودة التنافس بين القوى العظمى"، ومن ثم قررت الانصراف بتركيزها عن عمليات مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط وجنوب غرب آسيا إلى جنوب شرقها.
وفي معرض تحديد البنتاغون لأولوياته وإعداد العدة لنزاعات الولايات المتحدة المتوقعة في المستقبل، وصف لويد أوستن، وزير الدفاع الأمريكي، الصين مراراً بأنها "خطر يتنامى باطراد"، في حين وُصفت روسيا بأنها أقل خطراً لمدى طويل.
في غضون ذلك، حاول بوتين أن ينتهز انصراف واشنطن عنه وانهماكها في أماكن أخرى ليحقق غاياته في إيقاع بيلاروسيا وأوكرانيا تحت هيمنة النفوذ الروسي، وأبرز خطواته إلى ذلك هو حشد قواته على حدود حلفاء الولايات المتحدة في أوروبا، والهجوم الجديد على أوكرانيا.
في عام 2018، صدرت دراسة أمريكية كانت قد أُجريت بتكليف من الكونغرس وشارك فيها ضباط جيش ومسؤولون عسكريون سابقون، منهم كاثلين هيكس التي تشغل الآن منصب نائب وزير الدفاع في إدارة بايدن، وخلصت الدراسة إلى أن "الولايات المتحدة قد تقع في إنهاك جسيم إذا أُجبر جيشها على حشد استعداده للقتال على جبهتين أو أكثر في وقت واحد".
أمريكا قد تحتاج إلى ترسانة نووية لردع الصين وروسيا معاً
جعلت هذه المخاطر تدفع الولايات المتحدة إلى نقل المزيد من القوات إلى أوروبا، والأقرب أنها ستدفعها إلى البحث في زيادة إنفاقها الدفاعي وربما حتى حجم قواتها المسلحة. كما أن المجريات الجديدة قد تسدل الستار على حقبة الحدِّ من الانتشار النووي، فالمؤسسة العسكرية الأمريكية قد تطالب بترسانة نووية كبيرة بما يكفي لردع كل من ترسانة روسيا الهائلة من الأسلحة النووية وقدرات الصين النووية سريعة النمو، لا سيما أن الأخيرة غير مقيدة بأي اتفاقية للحد من الأسلحة النووية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اضطرار الولايات المتحدة إلى مواجهة كل من روسيا والصين سيدفع إدارة بايدن إلى مزيد من التعويل على التحالفات التي لطالما استخدمتها الولايات المتحدة لتعزيز قوتها في العالم. ومما يدل على انتباه الصين وروسيا لذلك أن البيان الصادر عن اجتماع بوتين وشي الذي عقداه في وقت سابق من هذا الشهر اختصَّ بالاستنكار تحالفات الولايات المتحدة مع أستراليا ودول أخرى في آسيا، ووصفها بأنها تحالفات تسعى إلى "أفضلية عسكرية أحادية تضر بأمن الآخرين".
الصين تحول موانئها الخارجية إلى قواعد
على الجانب الآخر، عززت الصين قواعدها العسكرية في بحر الصين الجنوبي، وبدأت في إنشاء شبكة من القواعد التي تستطيع قواتها البحرية استخدامها في جميع أنحاء العالم، والزعم في الوقت نفسه بأنها ليست إلا مرافق تابعة للموانئ التي تبنيها ضمن البنية التحتية لخطة الحزام والطريق. ولهذا، حشدت الولايات المتحدة ضغوطها على غينيا الاستوائية للحيلولة دون بناء الصين قاعدة عسكرية على أراضيها، كي لا تحصل البحرية الصينية على موطئ قدم لها على المحيط الأطلسي.
يقول إليوت كوهين، وهو مؤرخ عسكري في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إن "الولايات المتحدة يتعين عليها أن تعتاد العمل مرة أخرى في جبهات عديدة في وقت واحد، ليس عسكرياً فحسب، بل نفسياً، وعلى مستوى السياسة الخارجية".
بكين وموسكو تحاولان إيجاد نظام مدفوعات منفصل عن الغرب
من جانب آخر، فإن المواجهة الجديدة مع موسكو تدقُّ مزيداً من الشقوق في أركان العولمة الاقتصادية في العالم، لا سيما أن الصين والولايات المتحدة تحاولان بالفعل تفكيك التشابك بينهما في سلاسل توريد التقنيات الهامة. وإذا فرض الغرب عقوبات شديدة على بنوك روسيا وشركاتها الكبرى، فمن المتوقع أن يزيد اعتماد موسكو على بكين، التي أصدرت عملة رقمية وشرعت بالفعل في بناء نظام مدفوعات منفصل عن نظام الغرب.
علاوة على ذلك، يتوقع أن تشغل الطاقة مكانةً أبرز في سياق الأمن القومي، لاعتماد أوروبا على إمدادات الغاز الطبيعي من روسيا، حتى إن الإمدادات الروسية بلغت نحو 29% من إمدادات الغاز الطبيعي الواردة إلى أوروبا العام الماضي.
وقال دانييل يرغين، نائب رئيس شركة IHS Markit لأبحاث السوق، إن الأزمة في أوكرانيا "أفاقت [الغرب] من غفلته عن أهمية أمن الطاقة. ويُتوقع أن يزيد التركيز على تنويع مصادر الطاقة لأوروبا وتقويم الولايات المتحدة لسياسات الطاقة المحلية والدولية".
في أوروبا، زعزعت الأزمة أركان الناتو، وقال ينس ستولتنبرغ، أمين عام حلف الناتو، إن الحلف يتعين عليه إعادة تهيئة نفسه للتعامل مع "الوضع الطبيعي الجديد للأمن في أوروبا".
هل ينتهك الناتو اتفاقه بشأن الحد من قواته في أوروبا الشرقية؟
يقول مسؤولون في الناتو إن الحلف قد يرسل قوات جديدة إلى جنوب شرق أوروبا لتعزيز قوات الحلف في بولندا ودول البلطيق على الحدود الشرقية لحلف الناتو. ومع أن القانون التأسيسي للعلاقات المشتركة والتعاون والأمن بين حلف الناتو وروسيا لعام 1997 يمنع أي انتشار لتعزيزات عسكرية كثيفة أو دائمة للناتو في أراضي الدول التي انضمت إليه حديثاً في شرق أوروبا ووسطها، فإن هذا البند معرض للإلغاء الآن.
وفي هذا السياق، أجرى المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية استطلاعاً حديثاً كشفت نتائجه أن معظم الأوروبيين يرون أن الأزمة في أوكرانيا تنطوي على تهديد تطال تداعياته أوروبا بأكملها. ومع ذلك، فإن بعض المسؤولين الحاليين والسابقين أعربوا عن قلقهم من تلاشي التضامن بين دول أوروبا في السنوات المقبلة، لا سيما مع التفات كل دولة إلى البحث عن سبل لزيادة إنفاقها العسكري والخلافات حول الموقف من موسكو.
والناتو يريد من أعضائه زيادة النفقات الدفاعية بنسبة 50%
في يونيو/حزيران، يعتزم الناتو اعتماد "مفهومه الاستراتيجي" الجديد في اجتماعه المنتظر في مدريد، ويحدد فيه القواعد العامة التي ستحكم تدابير الحلف للتعامل مع تحديات الأمن في العقد المقبل. أشرف على صياغة التقرير فريق Alphen Group، الذي يضم مجموعة من الخبراء الاستراتيجيين البارزين ومسؤولين سابقين، وحثَّت توصياته كندا ودول أوروبا المنتمية إلى الحلف على زيادة إنفاقها العسكري للوفاء بنحو 50% من متطلبات الناتو العسكرية بحلول عام 2030، حتى تدع الولايات المتحدة قادرة على الالتفات إلى ردع الصين.
يقول ألكسندر فيرشبو، سفير الولايات المتحدة السابق لدى الناتو: "كل الدول متحدة في الوقت ويجمعها الغضب على الروس. لكن هذا الاتحاد قد يبدده الانقسام الشديد حول التدابير طويلة المدى لتعزيز قدرات الدفاع العسكرية للناتو، علاوة على الموقف من الأسلحة النووية"، ومطالب بعض دول الحلف بعودتها إلى أوروبا لمواجهة الخطر الروسي.