تواصل الدول الغربية فرض عقوبات اقتصادية مشددة تهدف إلى ردع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وإجباره على وقف الهجوم على أوكرانيا، لكن خبراء غربيين يرون أن روسيا حصَّنت نفسها جيداً، فماذا يعني ذلك؟
كان الهجوم على أوكرانيا قد بدأ فجر الخميس 24 فبراير/شباط 2022، فيما وصفه الرئيس الروسي بأنه "عملية عسكرية، هدفها منع عسكرة أوكرانيا"، بينما تصف أوكرانيا والغرب ذلك بأنه عدوان روسي هدفه الغزو الشامل للأراضي الأوكرانية وإسقاط الحكومة وتنصيب حكومة موالية لموسكو.
الهجوم الروسي لم يكن مفاجئاً لا لأوكرانيا ولا للغرب ولا للعالم، فالأزمة الأوكرانية مشتعلة منذ عام 2014 عندما ضمت موسكو شبه جزيرة القرم ودعمت حركات انفصالية في دونيتسك ولوغانسك بإقليم دونباس شرق أوكرانيا، والأزمة بالأساس جيوسياسية تتعلق برغبة الحكومة الأوكرانية، المدعومة من الغرب، في الانضمام إلى حلف الناتو مقابل اعتبار روسيا ذلك خطاً أحمر، لأنه يمثل تهديداً مباشراً لأمنها، بحسب وجهة النظر الروسية.
الحديث عن العقوبات لم يردع بوتين
وعلى مدار أكثر من عام كامل، منذ وصول الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى البيت الأبيض، بدأت الأزمة الأوكرانية تتخذ منحىً تصعيدياً واضحاً وتبادلاً للاتهامات بين كييف وموسكو وواشنطن، وصولاً إلى تقديم موسكو طلباتها الأمنية لواشنطن والناتو ورفض تلك المطالب واعتراف بوتين باستقلال دونيتسك ولوغانسك حتى بداية العملية العسكرية. وخلال تلك الشهور كانت التهديدات الغربية تنصبُّ على فرض عقوبات اقتصادية "كارثية" على موسكو إذا ما أقدمت على غزو أوكرانيا.
صحيفة The Guardian البريطانية نشرت تقريراً عنوانه "قوى الغرب أدركت أن روسيا أجادت تحصين نفسها من العقوبات الاقتصادية"، رصد كيف أن دول الغرب تريد أن تكون حربها الحالية على روسيا حرباً بالعقوبات الاقتصادية فحسب، وليس بالسلاح.
لكن كان يُفترض بالعقوبات الاقتصادية أن تكبح الهجوم الروسي على أوكرانيا بمجرد إعلان الغرب عن قيوده المالية الجديدة على النظام الروسي ورموزه، وأنها كافية لردع بوتين حتى وإن كان هو وأنصاره في الكرملين قد تهيَّأوا لها منذ زمن طويل. وتوقعت دول الغرب أن تشهد أوكرانيا بعض المناوشات العسكرية، لكنها ظنَّت أن الأمر لن يزيد على بضع ضحايا وأن ترتدع موسكو بمجرد أن ينالها أثر العقوبات.
لكن قوى الغرب سرعان ما أدركت أن بوتين أجاد تحصين بلاده من العقوبات، على الأقل في المدى القصير، وأنها ما دامت غير مستعدة لشنِّ حرب اقتصادية شديدة الأثر على روسيا والمجازفة بأن تطالها تبعات ذلك، فإن عقوباتها الاقتصادية غير كافية لردع روسيا.
وكان الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، قد شن هجوماً عنيفاً على زعماء أوروبا والغرب، متهماً إياهم بالخوف من بوتين وترك كييف وحيدة في مواجهة ما وصفه بالعدوان والغزو الروسي، ومؤكداً أن العقوبات المفروضة على موسكو غير كافية.
ويبدو أن هجوم زيلينسكي على الزعماء الغربيين قد أدى بالفعل إلى زيادة الضغوط عليهم، إذ قررت الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا والاتحاد الأوروبي، السبت 26 فبراير/شباط، اتخاذ خطوات لاستبعاد روسيا من نظام سويفت المالي، في إطار جولة أخرى من العقوبات ضد موسكو. كما قالت تلك الدول في بيان مشترك، إن الإجراءات التي ستشمل أيضاً قيوداً على الاحتياطيات الدولية للبنك المركزي الروسي، ستنفَّذ في الأيام المقبلة.
ما التأثير المتوقع للعقوبات الغربية على روسيا؟
بحسب تقرير "الغارديان"، على مدى عقد من الزمان، اعتنت سياسة الكرملين بخفضِ الديون المحلية للقطاعين العام والخاص، وهيَّأت للبنك المركزي الروسي الوقت اللازم لبناء درعٍ مالية من الأصول الأجنبية الضخمة بما يكفي لأن تعتمد عليها البلاد في إدارة شؤونها المالية أشهراً طويلة، أو حتى سنوات.
ويعني ذلك أنه من المستبعد أن يكون للعقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا واليابان وكندا خلال اليومين الماضيين، أيُّ تأثيرٍ كبير على الاقتصاد الروسي أو استقراره المالي، وأن قوى الغرب إذا أرادت أن تكبح جماح روسيا بالعقوبات الاقتصادية، فإنها تحتاج إلى حزمة عقوبات شاملة تماثل تلك التي فرضتها على إيران، وأن تشمل تلك العقوبات إخراج روسيا من نظام المدفوعات الدولي "سويفت"، وحظر شراء النفط والغاز منها.
لكن هوسوك لي ماكياما، رئيس المركز الأوروبي للاقتصاد السياسي الدولي، قال للصحيفة البريطانية، إن أوروبا فتحت الباب أمام اندماج أكبر لاقتصادها مع الاقتصاد الروسي، أما روسيا فقد عزلت جزءاً من اقتصادها عن أوروبا.
ولفت لي ماكياما إلى أن دول الاتحاد الأوروبي تملك أصولاً مالية في روسيا يبلغ إجماليُّ قيمتها نحو 300 مليار يورو (نحو 338 مليار دولار)، وكلُّ هذه الأصول معرضة للمصادرة إذا اندلعت حرب مالية شاملة على روسيا. وتملك بريطانيا مليارات أخرى في الاقتصاد الروسي، عبر شركات مثل "بريتش بتروليوم" BP، التي تمتلك حصة تقارب نحو 20% من إجمالي أسهم شركة النفط الروسية "روسنفت" Rosneft.
وفي تصريحات لشبكة BBC News، أوضح لي ماكياما: "العقوبات هي أحد الخيارات القليلة التي تملكها الدول الأوروبية في مثل هذه النزاعات. فهي إذا فصلت كوريا الشمالية أو إيران عن النظام الدولي، فلن تكون عرضة لأضرار جسيمة. لكن الأمر يختلف مع روسيا، وأنا لا أقول إن إخراج روسيا من نظام سويفت خيارٌ يستحيل تصوره، لكنه خيار فادح الأثر ستعاني تداعياته الدول الأوروبية أيضاً".
نظام سويفت، الذي يحمل اسمه اختصاراً لـ"جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك"، هو أبرز نظم المراسلة الآمنة بين البنوك وتمرير إجراءات المدفوعات بطريقة سريعة وآمنة عبر حدود الدول، وهو شديد الأهمية في تسيير معاملات التجارة الدولية بسلاسة.
يُستخدم نظام سويفت لتسيير صفقات بقيمة تريليونات الدولارات كل يوم، لكنه يواجه منافسة من نظام المدفوعات الدولي الصيني "سيبس" Cips، الذي تلجأ إليه روسيا لتسيير التعامل المالي لصفقاتها التجارية بطريقة مباشرة مع الأطراف الأخرى.
الغاز الروسي سلاح لا يستهان به
تستطيع دول مجموعة السبع والاتحاد الأوروبي أيضاً أن تفرض حظراً على شراء غاز روسيا ونفطها، لكن خبراء اقتصاديين أجمعوا على أنه حتى وإن كان فائض النفط المتوافر في الأسواق يمكن استخدامه لتعويض الإمدادات الروسية مع المجازفة بارتفاع أسعار النفط إلى 140 دولاراً لكلّ برميل، فإنه من الصعوبة بمكانٍ أن يسد العالم فجوة احتياجاته من الغاز إذا فرض حظراً على الغاز الروسي.
ويتوقع الخبراء أنَّ حظر الغاز الروسي سيُجبر بلدان أوروبا على اتخاذ تدابير لترشيد استخدامها من الغاز، وأن أسعاره قد ترتفع إلى تسعة أضعافها في الأوقات العادية، كما شهدت أوروبا قبيل أعياد الميلاد، وقد يستجلب ذلك تداعيات مشابهة لأزمة أسعار النفط عام 1974.
وفي هذا السياق، يقول أندرو كينينغهام، كبير خبراء الاقتصاد الأوروبي بشركة الاستشارات "كابيتال إيكونوميكس"، إن بعض الدول، مثل جمهورية التشيك ودول البلطيق، طالبت بحظر شراء الغاز الروسي، لكن "الدول الأخرى ترددت، وبدا أن الإقدام على مثل هذه الإجراءات يحتاج إلى تطورات أشد حدة في النزاع القائم".
ومع ذلك، قال توم ماين، خبير الشؤون الروسية في مركز الأبحاث البريطاني "تشاتام هاوس"، إن هناك بعض التدابير الأخرى التي كان يمكن اتخاذها لتشديد العقوبات الحالية وسد الثغرات التي تسمح لنخب الفساد الروسية بالوصول إلى أسواق المال في لندن.
واستدل ماين بتقرير أصدره مركز "تشاتام هاوس" العام الماضي، خلص الباحثون فيه إلى أي حملة فعالة للحد من الوسائل التي تتسلل من خلالها نخب الفساد الروسية يجب أن تتضمن: "إغلاق الثغرات القانونية، ومطالبة المؤسسات العامة بالشفافية، وفرض عقوبات خاصة بمكافحة الفساد على النخب الروسية التي اتخذت من بريطانيا مقراً لها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ومقاضاة البريطانيين المشاركين في تبييض أموال الفاسدين من مختلف المهن".
ومن الجدير بالذكر أنه حتى العقوبات التي فرضتها بريطانيا ووصفها رئيس الوزراء بوريس جونسون بأنها مشدَّدة، لا ترقى إلى مستوى الحظر الفعال على دخول أموال روسيا غير المشروعة إلى اقتصاد المملكة المتحدة. ومع أن بريطانيا حرصت على تجاوز العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي وفرضت قيوداً على واردات الطاقة الروسية، لم يبلغ درجة العقوبات التي فرضتها بريطانيا، وهو ما جعل حكومتها أقل إقبالاً على فرض مزيد من العقوبات.
والخلاصة أنه ما لم يُفرَض حظر على صادرات الغاز والنفط الروسية، وتُطرد روسيا من أنظمة المدفوعات الدولية، فإن أي عقوبات اقتصادية عليها ستكون محدودة الأثر.