أثارت التسريبات التي خرجت من بنك كريدي سويس سويسرا الكثير من ردود الفعل العالمية، نظراً لحجم المعلومات التي خرجت أو أسماء أصحاب هذه الحسابات البنكية، نظراً لوضعهم السياسي، كون أغلبهم إما مسؤولين حاليين أو سابقين في بعض دول العالم.
ويوم الأحد نشرت العديد من وسائل الإعلام الدولية بيانات مسربة تحتوي على تفاصيل عن آلاف الحسابات البنكية في بنك "سويس كريدي"، التي يعود تاريخها لأربعينيات القرن الماضي حتى عام 2010.
هذه الوثائق "الهائلة" كشفت عن إخفاقات واسعة على ما يبدو في اتباع متطلبات الحيطة الواجبة من جانب البنك، كما كانت لها تداعياتها على الاقتصاد السويسري كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية، التي لمحت إلى إمكانية إضافة البلاد إلى القائمة السوداء لغسيل الأموال.
هذه التسريبات أثارت التساؤل لماذا أصبحت سويسر ملاذاً آمناً ووجهة للراغبين في إخفاء ثرواتهم بعيداً عن أعين العالم؟
تاريخ النظام المصرفي السويسري
وللإجابة عن هذا التساؤل فلا بد من العودة للتاريخ الخاص بالنظام المالي في سويسرا، الذي سمح بهذا الأمر منذ القرن الثامن عشر.
وبحسب تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية، وجد الملوك الفرنسيون الملاذ المثالي لثروتهم في سويسرا، حين توافد الملوك الكاثوليك إلى جنيف في القرن الثامن عشر، في محاولة لإخفاء تعاملاتهم مع المصرفيين البروتستانت.
وبحلول عام 1713، أدخلت السلطات في جنيف، التي اكتسبت سمعةً لحسن تقديرها، قواعد تمنع المصرفيين من الكشف عن تفاصيل حول عملائهم.
أصبح قانون الصمت الذي يعود إلى قرون، والذي كُرِّسَ لاحقاً في القانون السويسري، موضع تركيزٍ متجدِّدٍ هذا الأسبوع بعد تسريب البيانات التي كشفت عن تورُّط عملاءٍ في عمليات تعذيبٍ واتجارٍ بالمخدرات وغسيل أموال، وغيرها من الجرائم الخطيرة، ما يشير إلى إخفاقات واسعة النطاق في العناية الواجبة من قبل البنك.
أثار الإفصاح نقاشاً وطنياً في سويسرا، رغم أن "إنهاء السرية المصرفية كما نعرفها" كان من المفترض أن يحدث في عام 2014، عندما وافق وزراء من 50 دولة وإقليماً على تبادل عالمي فيما بينهم للمعلومات المالية لدافعي الضرائب لأول مرة.
كان الاجتماع الوزاري في باريس في ذلك العام هائلاً، لأسباب ليس أقلها أن سويسرا وافقت على مضضٍ على الانضمام إلى الاجتماع. وعدت سويسرا بمشاركة المعلومات حول الحسابات المصرفية للعملاء مع السلطات الضريبية المشاركة في جميع أنحاء العالم.
بالنسبة لدولة جرّمت مشاركة معلومات العملاء مع دول أجنبية لأكثر من 80 عاماً، كان اعتماد ما يسمى بمعيار الإبلاغ المشترك (CRS) خطوة مهمة، كان هذا يعني أن سويسرا ونظراءها الموقِّعين سيتبادلون المعلومات حول الأجانب، الذين لديهم حسابات مصرفية في بلدانهم، كجزء من الجهود المبذولة للقضاء على التهرب الضريبي والاحتيال.
ومع ذلك، حتى بعد أن بدأت بيانات معيار الإبلاغ المشترك السويسرية في التغيير، في عام 2018، جادَلَ النقَّاد بأن التزام الدولة بالنظام قد خَلَقَ استراتيجيةً غير متكافئة. فمن ناحية يمكن للمصارف السويسرية أن تأخذ أموالاً "نظيفة" من العملاء في البلدان الصناعية والمتقدمة، والتي كانت جزءاً من اتفاقيات التبادل التلقائي للمعلومات، لكن الباب لم يُغلق أمام قبول الأموال من العملاء المشكوك فيهم من البلدان النامية، حيث لم يكن لدى السلطات التي تحقق في التهرب الضريبي إمكانية الوصول التلقائي إلى الحسابات السويسرية السرية لمواطنيها.
قال دومينيك جروس، محلل الضرائب والمالية في مؤسسة الأبحاث "ألاينس سود" المتخصصة في التنمية العالمية بسويسرا: "رغم الادِّعاءات العديدة التي تشير إلى عكس ذلك، فإن السرية المصرفية لم تنته".
لم تتبادل أكثر من 90 دولة، من بينها بعضٌ من أقل البلدان نمواً في العالم، المعلومات المصرفية بعد مع سويسرا.
وفيما يتعلَّق بهذه البلدان "لم يتغير شيء مقارنة بالماضي"، على حد قول سيباستيان جويكس، الخبير المصرفي والأستاذ بجامعة لوزان، الذي أضاف: "لا يزال المصرفيون السويسريون يساعدون الأثرياء في هذه البلدان لإخفاء أصولهم عن سلطات الضرائب في بلادهم".
قال بنك كريدي سويس إنه "يرفض بشدة المزاعم والاستنتاجات حول الممارسات التجارية المزعومة للبنك"، المنبثقة عن تسريب بياناته، مؤكِّداً أنه حافَظَ على "سياسةٍ صارمة لعدم التسامح تجاه التهرُّب الضريبي، في التزامٍ بالامتثال بجهود الشفافية الضريبية العالمية"، بما في ذلك معيار الإبلاغ المشترك.
سمعةٌ كملاذٍ من الضرائب
رغم التسجيل في معيار الإبلاغ المشترك، فإن النظام المالي لبلد جبال الألب غير الساحلي هو ثالث أكثر الأنظمة سرية في العالم، بعد جزر كايمان والولايات المتحدة، وفقاً لشبكة العدالة الضريبية، ويمثل 21 مليار دولار من عائدات الضرائب المفقودة للدول الأجنبية كل عام.
ما يقرب من نصف الأصول المدارة في البلاد البالغة 7.9 تريليون فرنك سويسري (8.6 تريليون دولار) مملوكة لعملاءٍ أجانب. وقد ساعَدَ ذلك في بناء صناعة تمثل 10% من الناتج المحلي الإجمالي السويسري، ونسبة مماثلة من الوظائف السويسرية. وفي حين أن سويسرا موطن لحوالي 243 بنكاً، فإن كريدي سويس، ومنافسه الأكبر بنك يو بي إس جروب، يشكِّلان معاً حوالي نصف الأصول المصرفية للبلاد.
وفي حين أن تقليد السرية المصرفية في سويسرا يمكن إرجاعه إلى القرن الثامن عشر، إلا أن مزاياها أصبحت أبرز في مطلع القرن العشرين، عندما أصبح المُقرِضون السويسريون نقطة جذبٍ للنخب الراغبة في تخزين ثرواتهم المتنامية والمتزايدة في دولةٍ محايدة سياسياً.
ونمت سمعة سويسرا كملاذٍ من الضرائب، حيث سارعت العائلات الثرية للبحث عن مكانٍ لإخفاء ثرواتها، وسط إدخال ضرائب الميراث في بلدان، بما في ذلك فرنسا في عام 1901.
ولكن وسط الغضب المتزايد من فقدان عائدات الضرائب وهروب رأس المال، شنَّت فرنسا حملةً على المصرفيين السويسريين في باريس عام 1932. وكشفت العملية عن أسماء مئات العملاء الفرنسيين الأثرياء الذين لديهم حسابات سويسرية سرية، بما في ذلك الأساقفة والجنرالات والوزراء السابقون، كان المجتمع المصرفي في سويسرا، بدوره، غاضباً ومارَسَ ضغوطاً للانتقام.
الفضائح تنكشف
حتى هذا الأسبوع كانت معارضة السرية المصرفية داخل سويسرا صامتة نسبياً، عندما أجرى الحزب الاشتراكي استفتاء في منتصف الثمانينيات، كان من شأنه أن يلغي قوانين السرية ويجبر البنوك على التعاون مع السلطات الأجنبية، التي تحقق في المتهربين من الضرائب، وعارَضَت الحكومة الاقتراح. وقد انتُقِدَ باعتباره انتهاكاً لخصوصية المواطنين وتهديداً للنظام المصرفي والاقتصاد في البلاد، وجرى التصويت ضده.
ولكن في أماكن أخرى كان المنظمون العالميون محبطين بشكلٍ متزايد، بسبب عدم قدرتهم على اختراق النظام المصرفي السويسري، من أجل التحقيق في الاحتيال العالمي والتهرُّب الضريبي.
وبحلول أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين كانت البنوك السويسرية تسوّق خدماتها بقوة للعملاء الأثرياء، الذين أرادوا تفادي سلطات الضرائب المحلية، هذه المرة في الولايات المتحدة. ظهرت التفاصيل بعد أن تبادل برادلي بيركينفيلد، المصرفي في بنك يو بي إس، المعلومات مع السلطات الأمريكية في عام 2007، والتي أظهرت كيف ساعد البنك آلاف الأمريكيين الأثرياء على تجنب دفع الضرائب عن طريق إخفاء مليارات الدولارات في حسابات سرية.
تأثير السرية المصرفية على فقراء العالم
في ظل هذه الخلفية تقول الصناعة المصرفية السويسرية إن قوانين السرية لديها أصبحت شيئاً من الماضي. قالت جمعية المصرفيين السويسريين: "لم تعد هناك سرية عملاء البنوك السويسرية للعملاء في الخارج"، مضيفة أن التبادل التلقائي للمعلومات المصرفية "أصبح هو القاعدة لكلٍّ من البنوك وعملائها".
وقالت الجمعية: "قامت البنوك السويسرية بواجبها، ونفذت جميع اللوائح الدولية، نحن نتحلى بالشفافية، ليس هناك ما نخفيه في سويسرا".
لا يزال نشطاء الحملة قلقين بشأن السلطات "الضعيفة" للجهة التنظيمية المحلية، والطريقة التي يبدو أن المجرمين والمتهربين من دفع الضرائب من البلدان النامية يواصلون الوصول إليها في النظام المالي السويسري.
وقالت منظمة Public Eye السويسرية، وهي هيئة مراقبة مكافحة الفساد، إن منظمات مثل جمعية المصرفيين السويسريين تقلِّل من "التأثير الضار لنموذج الأعمال الناجح بشكل كبير للصناعة المالية السويسرية، وخاصة البلدان الفقيرة".