لم يكُن الفشل في إنجاز الانتخابات في ليبيا مفاجئاً لأحد، كما يبدو أن التحالف غير المعلن بين فتحي باشاغا وخليفة حفتر في مواجهة عبد الحميد الدبيبة لن ينجح أيضاً في إقامة الانتخابات هذه المرة.
وكان من المقرر أن تجرى الانتخابات الرئاسية الليبية في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن العملية فشلت وعادت الأوضاع في البلاد إلى نقطة الصفر وربما أسوأ، بعد أن اختار مجلس النواب فتحي باشاغا رئيساً للوزراء ورفض الدبيبة رئيس الوزراء الحالي للقرار.
وكالة Associated Press الأمريكية نشرت تقريراً عنوانه "لماذا تنزلق ليبيا مجدداً نحو الانقسام السياسي؟"، رصد كيف أن شمل ليبيا يتمزق مجدداً في ظل تنافس رئيسيّ وزراء على السلطة.
تنافس الدبيبة وباشاغا
يبدو في نظر الكثير من الليبيين والمراقبين أنَّ العودة إلى عهد الحكومتين المتوازيتين وشيكاً، فضلاً عن احتمال نشوب المزيد من القتال. وأُحبِطَت محاولات المجتمع الدولي للمساعدة في توحيد البلاد في ظل رفض الأطراف الليبية القوية وداعميها الأجانب تقديم تنازلات.
قال فولفرام لاخر، الخبير بالشأن الليبي في مركز أبحاث المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ببرلين، للوكالة الأمريكية إنَّه يمكن أن يُصوِّر فتحي باشاغا أو عبد الحميد الدبيبة الوضع باعتباره صراعاً "بين الشرعي وغير الشرعي. في الحقيقة، إنَّه صراع بين طرفين يسعى كلاهما لممارسة السلطة إلى أجل غير مسمى ودون مساءلة".
وينحدر كلٌّ من باشاغا والدبيبة من مصراتة، وهي مدينة تقع في غرب ليبيا كانت ميليشياتها المسلحة جيداً ذات أهمية بالغة في المعركة المدعومة من الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" عام 2016، ومؤخراً في 2019 خلال التصدي لهجوم ميليشيات شرق ليبيا بقيادة خليفة حفتر على العاصمة طرابلس.
ويُعَد باشاغا (59 عاماً) طياراً سابقاً في سلاح الجو الليبي ورجل أعمال. وقد تولى منصب وزير الداخلية في الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس منذ 2018 وحتى مارس/آذار 2021، حين قادت المباحثات التي قادتها الأمم المتحدة إلى تشكيل الحكومة الانتقالية.
جعل باشاغا نفسه واحداً من أقوى الشخصيات في غرب ليبيا، مع أنَّه تصادم مع بعض أقوى الميليشيات المحلية. وقد كوَّن علاقات مع كلٍ من تركيا وفرنسا والولايات المتحدة، وكذلك مع مصر وروسيا، وهما خصماه اسمياً خلال الهجوم على طرابلس.
سعى باشاغا لقيادة الحكومة الانتقالية، لكنَّه انهزم أمام الدبيبة في عملية تمت بوساطة من الأمم المتحدة وشابتها مزاعم فساد، وكان أيضاً أحد المرشحين لمنصب الرئيس.
ويُعَد الدبيبة، الحاصل على شهادة جامعية في الهندسة من كندا، مبتدئاً نسبياً في السياسة، ويُعتَقَد أنَّه يعتمد على ثروة قريبه، علي الدبيبة، وهو واحد من أغنى الليبيين وكان سياسياً في عهد القذافي. وتحالف آل الدبيبة بعد ثورة 2011 مع ميليشيا قوية تُعرَف باسم كتائب مصراتة.
واكتسب عبد الحميد الدبيبة (59 عاماً) بعض العداوات السياسية خلال عمله رئيساً للوزراء. فكان قد تعهَّد بألا يترشح لمنصب الرئيس، لكنَّه تراجع عن تعهُّده وأعلن ترشُّحه، ما أدَّى إلى استعداء بعضٍ من أقوى داعميه. وكان الدبيبة في كثير من الأحيان في خلاف مع رئيس البرلمان عقيلة صالح وخليفة حفتر.
ترحيب حفتر بتولي باشاغا رئاسة الحكومة
رحَّبت قوات حفتر بتعيين باشاغا، وشكَّلا بالتالي تحالفاً ضد الدبيبة. لكنَّ شراكة كهذه من السهولة بمكان أن يتضح كونها مكلفة بالنسبة لرئيس الوزراء المعين. إذ قال جلال الحرشاوي، الباحث في الشأن الليبي، إنَّ هذه الشراكة من المرجَّح أن تُعقِّد مساعي باشاغا للإشراف على عملية إصلاح حقيقية لقطاع الأمن وإنفاذ القانون.
وأضاف الحرشاوي أنَّ باشاغا يواجه أيضاً تحديات أخرى. إذ يتعين عليه إيجاد طريقة للتعامل مع صادق الكبير، محافظ مصرف ليبيا المركزي، المصرف الذي أعلن مؤخراً خطوات باتجاه توحيد فروعه في الشرق والغرب. والبنك هو مستودع لمليارات الدولارات سنوياً من عائدات مخزونات النفط الضخمة في ليبيا، فضلاً عن الاحتياطي النقدي الأجنبي.
ويتمثل مبعث قلق رئيسي آخر بالنسبة لباشاغا في حالة انعدام الثقة العميقة التي يتشاطرها كثيرون في الغرب تجاه حفتر.
نجل القذافي أيضاً مدعاة للقلق
أُطلِقَ سراح سيف الإسلام القذافي، الذي كان على ما يبدو وريث العرش سابقاً، من سجن تشرف عليه ميليشيا في عام 2017، لكنَّه لا يزال مطلوباً من جانب المحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية خلال ثورة 2011.
وقد دبَّر رويداً رويداً عودته إلى الحياة السياسية، مُستغلاً حالة الخلل التي خلَّفتها الحرب. ويعتمد إلى حدٍّ كبير على صلاته بقبائل في مختلف أنحاء البلاد، وقد تصالح مع ميليشيات كانت في السابق من ألد خصومه. وقد أثبت ترشُّحه للرئاسة أنَّه تهديد كافٍ لتوحيد فصائل أخرى متنافسة في الأصل فيما بينها للعمل ضده. لكن الحرشاوي يقول إنَّ التطورات الأخيرة همَّشت سيف الإسلام القذافي على الرغم من شعبيته، لأنَّه لا يحظى بولاء عددٍ كافٍ من المسلحين.
الواضح هنا أن الأوضاع في ليبيا الآن عادت إلى نقطة الصفر تقريباً، وبالتالي فمن المهم التوقف عند أسباب الفشل المتكرر في العمليات السياسية منذ سقوط القذافي قبل أكثر من 11 عاماً، وهذا ما تناولته مجلة Foreign Policy الأمريكية في تقرير عنوانه "ما الأخطاء التي وقعت في الانتخابات الفاشلة في ليبيا؟".
فالعملية السياسية الحالية تنبع من محاولات لتجاوز أزمة ما بعد انتخابات 2014 التي أدَّت إلى خروج ادعاءات متضاربة من جانب مجلسين برلمانيين: مجلس النواب الذي كان مُنتَخَباً حديثاً آنذاك ومقره في شرق البلاد، والذي قضت المحكمة العليا في نهاية المطاف بإبطال انتخاباته، والبرلمان السابق، المؤتمر الوطني العام في الغرب، والذي ادَّعى استمرار شرعيته.
ولتجاوز هذا الصراع، وقَّع المجلسان اتفاقاً بوساطة الأمم المتحدة يُعرَف باسم "الاتفاق السياسي الليبي" في ديسمبر/كانون الأول 2015 بالمغرب، إذ أبقى الاتفاق على كلا المجلسين، وجعلهما مجلسين تشريعيين مشتركين في كافة القوانين والترتيبات الدستورية اللازمة للعملية الانتقالية.
لكنَّ كلا المجلسين فشلا بصورة كبيرة في التوصل إلى توافق، وظلَّت بالبلاد حكومتان متنافستان حتى عام 2019، وتعرضت جهود الأمم المتحدة لدفع العملية إلى الأمام آنذاك من خلال عقد مؤتمر وطني إلى الإحباط على يد خليفة حفتر. إذ حاول حفتر تسوية الصراع عسكرياً من خلال حربه على طرابلس. وعقب هزيمته، سمح توافق دولي وإقليمي لجهود الأمم المتحدة المتجددة بتنشيط العملية السياسية. وانعكس ذلك في مؤتمر برلين في يناير/كانون الثاني 2020.
الأسباب الأبرز للفشل لا تزال قائمة
ورصد تقرير فورين بوليسي خمسة أسباب لفشل إجراء الانتخابات الليبية في موعدها للمرة الثانية. فأولاً، هنالك إطار عمل نتج عن الاتفاق السياسي الليبي، والذي منح المجلسين (المجلس الرئاسي ومجلس النواب) حق النقض (الفيتو) على الانتخابات التي ستؤدي إلى زوالهما. ولم يقدم منتدى الحوار السياسي الكثير لمعالجة ذلك.
وثانياً، كان قرار الاندفاع بإجراء الانتخابات إشكالياً. إذ تُظهِر الدروس المستفادة من التجارب المقارنة، بما في ذلك العراق وأفغانستان، أنَّ الانتخابات المبكرة في مجتمعات ما بعد الصراعات تنطوي على مخاطر استئناف الصراع.
ولا تزال بليبيا جيوش أجنبية ومجموعات مرتزقة أجنبية تعمل على أراضيها، فضلاً عن الجماعات الإرهابية وعدد لا يُحصى من الميليشيات المحلية، ولا يمكن لرئيس وزرائها الحالي زيارة مناطق داخل البلاد، ولم يتم توحيد مؤسسات الدولة الحيوية بعد. ويشير هذا إلى أنَّ البيئة المواتية للانتخابات غير متوفرة.
ثالثاً، أُهمِل عددٌ من العناصر التي كان من شأنها المساعدة في بناء تلك البيئة المواتية، مثل المصالحة الوطنية، واللامركزية، وتوحيد مؤسسات الدولة، أو في أحسن الظروف جرى التعامل معها باعتبارها مسائل ثانوية. لم يكن مجرد تحديد موعد صارم للانتخابات كافياً لإيجاد البيئة الضرورية لإجرائها هي نفسها.
رابعاً، قدَّمت خارطة طريق منتدى الحوار السياسي تاريخين متعارضين: 24 ديسمبر/كانون الأول 2021 للانتخابات، ومرحلة تحضيرية مكونة من 18 شهراً تُتوَّج بإجراء الانتخابات. جرى تبنّي تاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول بطريقة ارتجالية وجرى تكييفه مع الجدول الزمني القائم فعلاً والبالغ 18 شهراً.
وانعكس هذا اللبس فقط في النسخة العربية من خارطة الطريق، النسخة التي تفاوض الليبيون واتفقوا عليها، في حين أشارت النسخة الإنجليزية، التي عمل المجتمع الدبلوماسي استناداً إليها، فقط إلى تاريخ 24 ديسمبر/كانون الأول، ما تسبب في سوء فهم بين الليبيين وشركائهم الدوليين.
خامساً، ثَبُتَ أنَّ السوابق التي ترسَّخت عند اختيار السلطة التنفيذية في فبراير/شباط 2021 كانت كارثية. إذ سُمِح آنذاك لعسكريين في الخدمة، بل حتى لقضاة على رأس عملهم، بالترشح في انتهاكٍ للقوانين الليبية. أدَّى ذلك إلى إضعاف قواعد أحقية الترشح وحرم العملية من وجود سوابق قوية متجذرة في القانون والممارسة الليبية.
باختصار، تسبب الاندفاع نحو إجراء انتخابات وفق إطار عمل مُختَلَف حوله في تقويض مكانة وسلطة الإطار الحاكم للعملية، بما في ذلك قرارات مجلس الأمن. وقد وضع أيضاً سوابق سيئة لقوانين يتم إصدارها من جانب فرد واحد، وقوَّض مصداقية الهيئة الانتخابية المستقلة في البلاد، وأخيراً، عرَّض السلام الهش في ليبيا للخطر.
إنَّ فشل الانتخابات يعكس مخاوف وجودية بين الكثير من الليبيين، وهو تذكرة بأنَّ الانتخابات في ليبيا يجب أن تسهم في عملية ونتيجة سلميتين، لا أن تُعامَل باعتبارها غايةً نهائية بحد ذاتها. يجب أن يتم تأطيرها بصورة تخلو من الاستقطاب، وإجراؤها في بيئة مواتية. إنَّ الجداول الزمنية مهمة، لكن يجب أن تنبع من تقييمات شاملة معتمدة على السياق.
الخلاصة أن فضل الانتخابات كان نتيجة متوقعة لعملية انطوت على عوامل فشلها داخلها وكان تنفيذها يجنح إلى الاعتماد على الحيل السياسية والدستورية والقانونية. وقُوِّضَت العملية بمسألتين مترابطتين: الخلاف حول فكرة إجراء انتخابات رئاسية في السياق الحالي، وما نجم عن ذلك من إخفاق في التوصل إلى التوافق المطلوب على إطار عمل للانتخابات.
ويُرجَّح أن يؤدي انهيار هذه العملية إلى التفكك السياسي، بما في ذلك ظهور حكومتين متنافستين ووجود خطر حقيقي بحدوث تصعيد عسكري. ونتيجة لذلك، فإنَّ الانتخابات التي كانت مدعومة على نطاق واسع بهدف إيجاد مؤسسات موحدة وشرعية في البلاد وتخليصها من المجالس والهيئات المتنافسة ستصير بعيدة المنال.