كانت أوكرانيا يوماً ثالث قوة نووية في العالم، والآن يتحسر ساستها على قرارهم التخلي عن الأسلحة النووية الأوكرانية، وهدد رئيسهم الممثل الكوميدي السابق فولوديمير زيلينسكي، مؤخراً بالعمل على إنتاجها، فهل تستطيع كييف حقاً ذلك؟ وهل كان لديها خيار آخر غير تسليم الأسلحة النووية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؟
وخلال مؤتمر ميونيخ الأمني، لوح الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ضمنياً بمراجعة وضع بلاده كدولة غير حائزة للأسلحة النووية، وقال إن كييف يمكن أن تنسحب من مذكرة بودابست التي وقعت عام 1994، والتي ألزمت بلاده بالتخلي عن ترسانتها النووية الضخمة التي ورثتها من الحقبة السوفيتية.
واستغل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا التصريح على الفور حيث اعتبر في خطاب موجه لشعبه أن أوكرانيا تعتزم صنع أسلحة نووية خاصة بها، محذراً من أنه إذا تمكنت كييف من إنتاج أسلحة دمار شامل فسيكون لذلك تأثير كبير على أوروبا كلها.
مقابل ورقة تخلت أوكرانيا عن ثالث قوة نووية في العالم
في مطلع التسعينيات، كانت الأسلحة النووية الأوكرانية، أكثر عدداً وأقوى من تلك التي تمتلكها بريطانيا أو فرنسا أو الصين، وتضمنت صواريخ لم تنشر في روسيا وقاذفات (Tu-160) الأحدث والأٌقوى في أسطول القاذفات السوفيتية.
وتخلت كييف عن كل ذلك مقابل ورقة موقعة من القوى العظمى ومن بينها روسيا عام 1994 تتعهد بضمان أمنها.
والآن ابتلعت موسكو القرم، وفصلت إقليم الدونباس وتهدد بابتلاع المزيد، وتنقل أسلحتها النووية إلى بيلاروسيا، والغرب يكتفي بإرسال خوذات وبعض الأسلحة المضادة للدبابات لكييف مع تأكيده منذ بداية الأزمة، أنه لن يتدخل عسكرياً لحماية أوكرانيا.
ومن الصعب الجدال بأن الأسلحة النووية قد أثبتت أنها الرادع النهائي لأي دولة، فلقد منعت القوى النووية من خوض حرب بوعي ضد بعضها البعض لمدة 76 عاماً، حسبما ورد في تقرير لموقع صحيفة Los Angeles Times.
كما أن دولة مثل كوريا الشمالية، لم تهاجمها أمريكا رغم سياستها الجريئة، بينما هاجمت العراق قبل استكمال برنامجه النووي وليبيا بعد تفكيكها البرنامج الخاص بها.
قصة الأسلحة النووية الأوكرانية
أدى الانهيار السوفييتي في ديسمبر/كانون الأول 1991، إلى حصول أوكرانيا المستقلة حديثاً على ما يقرب من 5000 سلاح نووي كانت موسكو قد وضعتها على أراضيها، في صوامع تحت الأرض تحوي صواريخ بعيدة المدى تحمل ما يصل إلى 10 رؤوس حربية نووية حرارية، كل منها أقوى بكثير من القنبلة التي دمرت هيروشيما.
مقابل التخلي عن الأسلحة النووية الأوكرانية، تلقت كييف ضمانات أمنية من روسيا وأمريكا وبريطانيا وغيرها من القوى العظمى، من خلال مذكرة بودابست لعام 1994.
في هذه الوثيقة، التزمت الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا "احترام استقلال وسيادة" أوكرانيا و"الامتناع عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها" ضد البلاد.
وكانت الولايات المتحدة من أشد الدول حرصاً على نقل الأسلحة النووية الأوكرانية لروسيا.
وقال أوليكسي دانيلوف، سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني، لصحيفة Politico الأمريكية، إنه "بناءً على طلب الولايات المتحدة، تخلت بلادنا عن 176 صاروخاً باليستياً عابراً للقارات و6000 رأس نووي".
"مجرد ورقة".. ليست معاهدة ملزمة قانوناً بل مجرد مذكرة تفاهم
حاول المفاوضون الأوكرانيون الحصول على ضمانات أمنية أمريكية في معاهدة ملزمة قانوناً، ولكن رفض الأمريكيون ذلك لأن هذا سيتضمن الذهاب إلى الكونغرس للتصديق عليه.
وبالتالي فإن ما تم الحصول عليه في النهاية ضمانات لم تصل لدرجة معاهدة ملزمة قانوناً، ولكن جاءت في مذكرة تفاهم وقعتها كل من روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأوكرانيا في 5 ديسمبر/كانون الأول 1994.
كما رفضت الولايات المتحدة أن تعطي كييف نوع الضمان الأمني الذي تقدمه إلى حلفائها في الناتو مثل أن أي هجوم على أوكرانيا سيعامَل على أنه هجوم على الولايات المتحدة.
ظروف تسليم هذه الأسلحة رغم المخاوف من موسكو.. فتِّش عن تشيرنوبيل
يصف الدبلوماسيون ونشطاء السلام أوكرانيا كدولة نموذجية في مجال نزع السلاح النووي.
ولكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، يُظهر البحث التاريخي أن مسألة التخلي عن الأسلحة النووية الأوكرانية كانت محل خلاف بين الحكومة والجيش في البلاد آنذاك، ففي ذلك الوقت، شكك الخبراء الأوكرانيون في الحكمة من نزع السلاح النووي، جادل البعض بأن الأسلحة الفتاكة كانت الوسيلة الوحيدة الموثوقة لردع أي عدوان روسي محتمل.
ولكن كانت أسباب قرار أوكرانيا أن تصبح دولة غير نووية، متعددة.
في الواقع، لعب الخوف من تكرار كارثة مفاعل تشيرنوبيل النووي التي وقعت في أوكرانيا خلال العهد السوفييتي، دوراً مهماً في هذا القرار، حسب ماريانا بودجيرين الباحثة ببرنامج الأمن الدولي ومشروع إدارة الذرة بجامعة هارفارد الأمريكية.
كما لم يكن قادة أوكرانيا في نهاية العهد السوفييتي يعرفون حتى الأسلحة التي تم نشرها وما هي الأسلحة الموجودة في جمهوريتهم.
وكان أحد أهداف قرار التخلي عن الأسلحة النووية الأوكرانية بالنسبة للحكام الجدد هو فك الارتباط بموسكو.
وكانت هناك عوائق هائلة أمام أوكرانيا للاحتفاظ بالأسلحة النووية ولكي تصبح دولة نووية.
كان أحدها تقنياً: فعلى الرغم من أن أوكرانيا ورثت قاعدة تقنية وعلمية وصناعية سخية، فإنها تفتقد أجزاء رئيسية من دورة الوقود النووي الكاملة، إضافة إلى مشكلات البلاد الاقتصادية الكبيرة في ذلك الوقت.
هل كان بإمكان أوكرانيا السيطرة على أسلحتها النووية؟
لو قررت أوكرانيا الاحتفاظ بالأسلحة النووية في أوائل التسعينيات، لكان يتعين عليها أولاً انتزاع السيطرة العملياتية على هذه الأسلحة من موسكو.
من الناحية التكنولوجية، كان المهندسون الأوكرانيون من دنيبرو وخاركيف قادرين على القيام بذلك بسرعة معقولة، حسب الباحثة ماريانا بودجيرين.
ولكن نظراً إلى أن الصواريخ في أوكرانيا كانت تستهدف الولايات المتحدة، فستحتاج أوكرانيا إلى إعادة توجيهها إلى روسيا، وهي عملية تحتاج إلى جهد فني، كما أن مدى الصواريخ التي كانت تمتلكها أوكرانيا في ذلك الوقت يتراوح بين 8000 و10000 كم، وهو مدى غير مفيد لردع موسكو، لأن العديد من الأصول الرئيسية الروسية على أراضيها الأوروبية تتطلب نطاقات أقصر.
لذلك كان سيتعين على أوكرانيا تصميم صاروخ جديد بمدى أقصر وينتهك معاهدة الأسلحة النووية الوسيطة التي تحظر الصواريخ التي يتراوح مداها بين 500 و5500 كيلومتر.
لم تكن روسيا تجلس بهدوء وتراقب، لكنها كانت ستحاول إجبار أوكرانيا على وقف هذا المسار بكل الطرق، وضمنها التدخل العسكري.
الاحتمال الأكبر هو أن الأسلحة النووية الأوكرانية، بدلاً من أن تحمي البلاد، كانت ستصبح ذريعة روسية للحرب قبل وقت طويل من الآن، بل كان يمكن أن تقنع أمريكا أن تنضم إليها في الضغوط على كييف، حسب تقرير للمجلس الأطلسي.
دولة متقدمة في المجال النووي السلمي
تعتمد أوكرانيا على الطاقة النووية السلمية إلى حد كبير، حيث لديها أربع محطات للطاقة النووية مع 15 مفاعلاً، واحتلت في عام 2016 المرتبة السابعة في العالم بمجال القدرات النووية السلمية. وفي عام 2014، وفرت الطاقة النووية 49.4% من إنتاج الكهرباء في أوكرانيا، ولديها أكبر محطة للطاقة النووية في أوروبا.
وشركة Turboatom الأوكرانية من بين أكبر عشر شركات لبناء التوربينات في العالم، منها توربينات محطات الطاقة النووية.
وخططت الحكومة الأوكرانية لبناء 11 مفاعلاً جديداً بحلول عام 2030، وهو ما سيضاعف تقريباً المقدار الحالي من قدرة الطاقة النووية.
بصفة عامة ورثت أوكرانيا عن الاتحاد السوفييتي قدرة علمية وتكنولوجية وصناعية قوية في المجال النووي.
هل تستطيع أوكرانيا الآن تصنيع أسلحة نووية لردع روسيا؟
اللافت أن البرلمانيين الأوكرانيين، عند تصويتهم للانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية كدولة غير حائزة للأسلحة النووية في نوفمبر/تشرين الثاني 1994، أدرجوا بنداً يحتفظ بحق أوكرانيا في الانسحاب من معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في حالة تعريض مصالحها الوطنية العليا للخطر.
بالطبع تطوير أسلحة نووية أمر يستغرق سنوات، وبالتالي لا مجال للتفكير في تطوير أسلحة نووية أوكرانية للتعامل مع الأزمة الحالية، ولكن بعد مرور هذه الأزمة سواء بسلام أو بكارثة بالنسبة لكييف وإذا بقيت أوكرانيا كدولة متماسكة، هل تستطيع تطوير أسلحة نووية؟
ترى الباحثة ماريانا بودجيرين أنه في حين أن أوكرانيا ربما لا تزال تمتلك الخبرة التقنية والعلمية الكافية لإطلاق برنامج أسلحة نووية، فإنها تفتقر إلى موقع اختبار نووي، مما يجعل تطوير الأسلحة النووية أكثر صعوبة، إضافة إلى أنها تفتقد أجزاء رئيسية من دورة الوقود النووي الكاملة اللازمة لصنع أسلحة نووية، مثل مرافق تخصيب اليورانيوم أو إعادة معالجة البلوتونيوم وإنتاج الرؤوس الحربية.
وترى أن بناء هذه القدرة يمكن أن يتم في غضون من 5 إلى 7 سنوات، إلا أن الأمر سيحتاج أموالاً واستثمارات كبيرة.
ولكن رغم المشكلات الفنية فإنه يمكن القول إنه من الناحية التكنولوجية تحديداً قد تكون أوكرانيا أكثر قدرة على برنامج إنتاج أسلحة نووية من أغلب دول العالم، وأنها في وضع أفضل مما كان عليه بلد مثل باكستان وكوريا الشمالية، اللذين استطاعا امتلاك أسلحة نووية بالفعل.
فالعائق الأكبر أمام الأسلحة النووية الأوكرانية سياسي بدءاً من إمكانية اعتراض الولايات المتحدة نفسها وهي التي ترفض امتلاك حلفائها المقربين مثل ألمانيا واليابان وكوريا الجنوبية هذه الأسلحة.
ولكن حتى لو تقبّل الغرب الفكرة بعد الأزمة الحالية، فإن روسيا لن تسمح بالمضي قدماً في هذا الأمر بأي شكل، ولأنها عملية سوف تستغرق سنوات فإن موسكو قادرة خلال هذه الفترة على التدخل عسكرياً لمنع كييف من تنفيذ هدفها.
المشكلة ليست تقنية بل في أوكرانيا هي نفسها
المشكلة في أوكرانيا نفسها وتمزقها السياسي والاجتماعي، فهي دولة مخترقة من الغرب من ناحية ومازال هناك نفوذ روسي كبير بها من ناحية أخرى، وحتى ولو كان متوارياً، حيث يمثل ذوو الأصول الروسية نحو 17% من سكان البلاد، كما يشكل المتحدثون بالروسية نحو ثلث سكان البلاد، وهذا يعني صعوبة أن يتم تطوير برنامج نووي عسكري سري دون أن تعرف روسيا.
فدولة مثل كوريا الشمالية التي استطاعت إنتاج أسلحة نووية أو إيران التي كادت توشك لفترة على ذلك، لديهما نظام حاكم ذو طبيعة أمنية مغلقة مكنتهما من توفير الظروف المناسبة للوصول لمثل هذه المرحلة.
وحتى باكستان، التي قد لا تقل كثيراً في فوضاها السياسية والاجتماعية عن أوكرانيا، لديها في المقابل، جيش قوي مشهور بانضباطه وروحه القومية المعادية للهند، وأجهزة استخباراتها معروفة بدهائها وجرأتها، وكذلك هنالك موقف شعبي موحد ضد الهند إضافة إلى الدعم الصيني، الأمر الذي مكّنها من إنتاج قنبلة ذرية رغم القيود الدولية والظروف السياسية والاقتصادية.
أما أوكرانيا فكما دفعت من أراضيها ثمن اهتراء نظامها السياسي والاجتماعي، فإن هذا النظام غير قادر على توفير حاضنة لإنتاج الأسلحة النووية الأوكرانية.
فعكس كثير من دول العالم، معضلة تصنيع الأسلحة النووية ليست لدى علماء أوكرانيا بل لدى جيشها ورجال استخباراتها والأهم لدى سياسيها.
ويعد تصريح الرئيس الأوكراني أبرز دليل على ذلك، فهل هناك دولة تريد فعلاً تطوير أسلحة نووية تقول ذلك على الملأ، وتعطي عدوها فرصة لتشويه سمعتها كما فعل بوتين بعد تصريح الرئيس الأوكراني؟