من عداء تاريخي مرير إلى التحالف ضد روسيا، يبدو هذا شكل العلاقة الحالي بين أوكرانيا وبولندا، حيث لم تتحول وارسو فقط إلى واحد من أبرز داعمي كييف ضد روسيا، بل باتت بولندا بمثابة مثل أعلى لأوكرانيا وزعيمة اللوبي الأوكراني في الغرب الذي يطالب بضم كييف للاتحاد الأوروبي والناتو.
ويغضب البولنديون كثيراً عندما يصف أحدهم بلادهم بأنها جزء من أوروبا الشرقية، ويعتبرون أن أوروبا الشرقية تبدأ من أوكرانيا وتمتد لروسيا وبيلاروسيا.
وبينما تفضل الأدبيات الأوروبية تجاهل مصطلح أوروبا الشرقية باعتباره مسمى مرتبطاً بكتلة دول حلف وارسو المنحل والفترة السوفييتية المكروهة، لصالح استخدام مصطلح أوروبا الوسطى الذي يضم ألمانيا والنمسا إلى جانب دول كتلة أوروبا الشرقية السابقة، لكن تطورات الأزمة الأوكرانيا أظهرت فعلاً أن أوروبا ما زالت تنقسم إلى كتلتين إحداهما أوروبا الشرقية والثانية أوروبا الغربية.
وهو ما يظهر في التعاطف الواضح لدول أوروبا الشرقية مثل بولندا وجمهوريات البلطيق الثلاث مع أوكرانيا في أزمتها مع روسيا، بينما دول مثل فرنسا وألمانيا تتعامل مع الموضوع كأنه يدور في منطقة أخرى، حتى إن برلين أرسلت خوذاً ومعدات طبية، لكييف التي تتأهب لصد غزو روسي وفقاً للتحذيرات الأمريكية والأوروبية.
نحن جزء من أوروبا الوسطى وليس الشرقية
وبينما ينظر معظم الناس إلى أوكرانيا باعتبارها بلداً شرق أوروبي. لكنَّ وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، ليس أحدهم. فقال في خطابٍ العام الماضي: "لديّ قناعة عميقة بأنَّ أوكرانيا كانت دائماً ولا تزال دولة وسط أوروبية: تاريخياً وسياسياً وثقافياً. وسط أوروبا هو المكان الذي تنتمي إليه هويتنا".
لم يكن ذلك بياناً لحقيقة جغرافية بقدر ما هو محاولة تفسير الثقافة والتاريخ المعقدين لأوكرانيا الحائرة بين روسيا والغرب لا سيما بولندا.
وفقاً لوجهة النظر هذه فمستقبل أوكرانيا، كما هو الحال بالنسبة لماضيها، ليس مع روسيا، بل مع بلدان وسط أوروبا التي استقرت بقوة في حلف شمال الأطلسي "الناتو" والاتحاد الأوروبي: سلوفاكيا والمجر وليتوانيا، وخصوصاً بولندا، حسبما ورد في تقرير لمجلة Foreign Policy الأمريكية.
ومع أنَّ معظم البلدان الغربية كانت داعمة بقوة لأوكرانيا في موقفها ضد روسيا، لا يمكن لأيٍ منها ادعاء العلاقات الشخصية والتاريخ المشترك والقرب الجغرافي الوثيق الذي يربط أوكرانيا وبولندا.
أوكرانيا أمة حائرة بين روسيا وأوروبا
يمكن معرفة أهمية أوكرانيا من حقيقة أنها كانت الجمهورية الأكثر أهمية في الاتحاد السوفييتي السابق بعد روسيا، فلقد كانت الثانية في السكان والثالثة في المساحة، وكانت سلة قمح الاتحاد السوفييتي (وما زالت منتجاً مهماً للحبوب) وموطناً مهماً للصناعات السوفييتية الثقيلة والعسكرية والتكنولوجية (ورثت قدرات مهمة في هذا المجال رغم جمودها).
كان الأوكراني المواطن رقم اثنين في الاتحاد السوفييتي بعد الروسي من بين 15 جمهورية.
كما أن أوكرانيا كانت تمثل ممر الاتحاد السوفييتي الأساسي للبحر الأسود.
رغم تأكيد كثير من الأوكرانيين وحكومتهم أن مستقبلهم مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ولكن هذه اللهفة تخفي حقيقة وضع أوكرانيا المعقد، فأوكرانيا كانت دوماً إقليماً انتقالياً بين روسيا وبقية أوروبا، ولذا بقدر ما هناك مؤثرات أوروبية كبيرة في هذه البلاد، (جاءت عن طريق بولندا بشكل كبير) فإنها في الواقع جزء من العالم السلافي الكبير الذي تمثل روسيا محوره (وتعد روسيا البيضاء المكون الثالث فيه).
بينما يتطلع نسبة كبيرة من الأوكرانيين (على الأرجح أغلبيتهم) ليكونوا جزءاً من أوروبا أو بالتحديد الاتحاد الأوروبي، ورغم نظرتهم السلبية لتاريخ ارتباطهم مع روسيا، فإن الواقع أن روسيا وأوكرانيا تربطهما روابط ثقافية واقتصادية وسياسية عميقة، كما أن هناك نسبة لا يستهان بها مع الأوكرانيين لا سيما قبل ضم روسيا للقرم وتشجيعها لانفصال إقليم الدونباس، كانت ترى أن وجود علاقة قوية تربطهم بروسيا أمر طبيعي.
ومن المعروف أن الأوكرانيين والروس والبيلاروس يشتركون في أنهم ينتمون للعرق السلافي، الذي يتضمن أغلب شعوب أوروبا الشرقية (البولنديين، والتشيك والسلوفاك، والصرب، والكروات، والسلوفينين، والبلغار).
ولكن الأوكرانيين والروس والبيلاروس تحديداً يشكلون فرعاً محدداً من العرق السلافي يطلق عليه "السلافيون الشرقيون"، وتحول هذا العرق إلى شكل الدولة لأول مرة في أوكرانيا وليس روسيا، قبل أن ينتقل المركز الحضاري للسلاف الشماليين لموسكو بسبب الغزوات المغولية.
ويشار إلى كييف، عاصمة أوكرانيا، أحياناً على أنها "أم المدن الروسية"، على قدم المساواة من حيث التأثير الثقافي مع موسكو وسانت بطرسبرغ.
وفي كييف في القرنين الثامن والتاسع تم جلب المسيحية من بيزنطة إلى الشعوب السلافية الشرقية.
وكانت المسيحية بمثابة المرساة لدولة روس كييف، الدولة السلافية المبكرة التي استمد منها الروس والأوكرانيون والبيلاروسيون نسبهم.
وبينما تعرضت أوكرانيا لتأثيرات تترية وبولندية كبيرة (جراء خضوعها لحكم البولنديين والتتار لقرون)، فإن روسيا القيصرية طردت الدولتين، ثم قضت عليهما، وسيطرت على أوكرانيا وحاولت سواء في العصر القيصري أو السوفييتي فرض التأثير الروسي على البلاد.
النتيجة أن ما يقرب من ثمانية ملايين من أصل روسي يعيشون في أوكرانيا، وفقاً لتعداد عام 2001، معظمهم في الجنوب والشرق، حيث تشير تقديرات إلى أن الروس يمثلون نحو 17% من السكان، وزعمت موسكو أن من واجبها حماية هؤلاء الأشخاص كذريعة لأفعالها في أوكرانيا.
ولكن اللغة الروسية أكثر انتشاراً في أوكرانيا من الروس، إذ يعتقد أنه في عام 2001 كان نحو 30% من السكان يتكلمون الروسية، كلغة أولى، كما كانت اللغة الروسية هي اللغة المهيمنة فعلياً خلال العهد السوفييتي رغم أن الأوكرانية اللغة الرسمية.
وتصل نسبة المتكلمين باللغة الروسية 2001 إلى نحو 74.9% و68.8% في إقليمين من أقاليم شرق البلاد المتاخمة لروسيا، وبصفة عامة تنتشر الروسية في جنوبي وشرقي البلاد وبصورة أقل الشمال الشرقي، فيما تسود الأوكرانية في وسط وغربي البلاد.
ورغم حالة العداء لروسيا داخل أوكرانيا، حالياً، فإن هذا العداء قد يخفي حجم المتعاطفين مع موسكو داخل البلاد.
العلاقة المركبة بين أوكرانيا وبولندا
رغم التقارب الكبير بين الروس والأوكرانيين عرقياً وثقافياً ودينياً، والتأثير الروسي الذي لا يمكن إنكاره على تاريخ أوكرانيا، إلا أن هناك تقارباً وتأثيراً بولندياً كبيراً على أوكرانيا أيضاً، تأثيراً يرتبط بتقارب الأصل فالبولنديون هم أيضاً ينتمون للجنس السلافي مثل الأوكرانيين حتى لو كان لفرع مختلف (البولنديون ينتمون لفرع السلاف الغربيين والأوكرانيون لفرع السلاف الشرقيين مثل روسيا وبيلاروس).
ولكن إضافة للأصل المتقارب، هناك تأثير نتيجة قرون من الصلات بين أوكرانيا وبولندا.
إذ خضعت أوكرانيا قروناً للحكم البولندي عبر الكومنولث البولندي الليتواني، الذي مُحيَ من على الخارطة عام 1795 (عبر تقسيمه بين إمبراطورية روسيا القيصرية والنمسا وبروسيا أقوى دويلات ألمانيا قبل توحيدها).
وتعتبر فترة الهيمنة البولندية على أوكرانيا فترة مريرة في تاريخ كييف، حيث كان الأوكرانيون طبقة دنيا محرومة من استخدام لغتها، وكان الاختلاف المذهبي بين البولنديين الكاثوليك والأوكرانيين الأرثوذكس سبباً إضافياً للتباين بين الشعبين.
لكن تركت هذه الفترة المعقدة بصمتها على أوكرانيا، فللغة البولندية تأثير واضح على اللغة الأوكرانية، ويعتقد أن ذلك أحد أسباب تمايز الأوكرانية بشكل كبير عن الروسية التي يفترض أنهما تنحدران من أصل مشترك.
ويُعزى الكثير من تأثير اللغة البولندية على تطور اللغة الأوكرانية إلى فترة الكومنولث البولندي الليتواني، حيث كان النبلاء البولنديون هم المالكين لأراضي أوكرانيا ومنعت اللغة الأوكرانية لعقود طويلة، مما أثر على لغة الفلاحين الأوكرانيين.
وينعكس هذا التأثير في العديد من الكلمات والتركيبات المستخدمة في الخطاب الأوكراني اليومي المأخوذة من البولندية أو اللاتينية.
وبسبب الاقتراضات الثقيلة من اللغة البولندية والألمانية والتشيكية واللاتينية، كانت عامية الأوكرانيين الحديثة المبكرة تتشابه معجمياً مع اللغات السلافية الغربية (على رأسها البولندية) أكثر من اللغة الروسية أو الكنيسة السلافية التي ينتمي لها أغلب الأوكرانيين.
وبحلول منتصف القرن السابع عشر، أصبح الاختلاف اللغوي بين اللغتين الأوكرانية والروسية مهماً، لدرجة أنه كانت هناك حاجة إلى مترجمين أثناء المفاوضات بشأن معاهدة "بيرياسلاف"، عام 1645م وهي المعاهدة التي نقلت ولاء فرسان القوزاق (وهم القوة المهيمنة على أوكرانيا) من الكومنولث البولندي الليتواني إلى روسيا القيصرية.
القدر يجمع بين أوكرانيا وبولندا مجدداً تحت النير الروسي
خلال حقبة الوطنية الرومانسية في القرن التاسع عشر التي شهدت نشأة القوميات الحديثة، أذكى البولنديون والأوكرانيون مطالب إقليمية متعارضة حيال أراضٍ شاسعة في أوروبا الشرقية.
لكنَّ إحدى الأرضيات المشتركة التي لطالما تشاركاها الشعبان كانت عداءهما المشترك للهيمنة الروسية، حيث خضعت معظم أراضي البلدين لسيطرة القياصر الروس منذ نهاية القرن الثامن عشر، ثم أصبحت أوكرانيا جمهورية سوفييتية، فيما خضعت بولندا للهيمنة السوفييتية بعد ضم ستالين لها قسراً للكتلة الشرقية.
وبالتالي تأثيرات بولندا على أوكرانيا كبيرة خلال فترة حكم الكومنولث البولندي الليتواني الذي قادته بولندا إلى حد كبير، وهي تأثيرات ظلت باقية في الثقافة الأوكرانية حتى لو نظر الأوكرانيون لهذه الفترة على أنها احتلال بولندي اضطهد فلاحي البلاد.
أوكرانيا تنقسم لثلاث مناطق، وهذه أقربها لبولندا
ويعني تاريخ وجغرافية وثقافة أوكرانيا المعقدة الحائرة بين روسيا وبولندا (والغرب عامة خاصة الإمبراطورية النمساوية المجرية التي سيطرت على أجزاء من أوكرانيا أيضاً) أن أوكرانيا يمكن تقسيمها إلى ثلاث مناطق متميزة، كل منطقة لها ذاكرة جماعية مختلفة نسبياً بسبب علاقاتها الثقافية مع إمبراطورية هابسبورغ (النمسا) وبولندا أو الإمبراطورية الروسية.
وهذه المناطق الثلاث التي تختلف في تركيبتها الثقافية ونظرتها للعلاقة مع الغرب وروسيا هي:
الجزء الأول في غرب البلاد: هو الأكثر تأثراً بأوروبا خاصة بولندا وبصورة أقل النمسا (التي كانت تقود إمبراطورية الهابسبورغ والإمبراطورية النمساوية المجرية اللاحقة عليها) ويبلغ عدد سكان هذه المنطقة نحو 10 ملايين وفقاً لإحصاءات قديمة تعود لعام 2001 (أي قبل ضم روسيا للقرم وانفصال إقليم الدونباس).
وهذا الجزء الأكثر عداءً لموسكو والأقل تأثراً بالثقافة الروسية، خاصة أن موسكو لم تسيطر على هذه المنطقة سوى في القرن العشرين، وتزيد بغرب البلاد نسبة الكاثوليك حيث يمثلون أقلية كبيرة، مقارنة بهيمنة أكبر للكنيسة الأرثوذكسية على بقية البلاد، إذ تبلغ نسبة الكاثوليك في هذه المنطقة 30.9% مقابل 8.8% في إجمالي البلاد، ونسبة الأرثوذكس بهذه المنطقة تبلغ نحو 57.0%، مقابل 72.7 % في إجمالي البلاد.
وهذه المنطقة تقليدياً هي معقل القومية الأوكرانية المعادية لروسيا والمطالبة بالاقتراب من الغرب.
الجزء الثاني: هو الأهم وسط البلاد، وهي منطقة وسط بين الشرق والغرب، ليست موالية لروسيا أو متماهية معها كأجزاء من الشرق، ولم تكن قبل حرب عام 2014 معادية لموسكو كغرب البلاد.
كانت الانتخابات في المقاطعات الأوكرانية الوسطى تاريخياً عملية تنافسية بين المرشحين الموالين لروسيا والمؤيدين للغرب (عكس الشرق حيث تسود الأحزاب الموالية لموسكو، والغرب حيث تسود الأحزاب الموالية للغرب).
ومع ذلك، منذ الثورة البرتقالية عام 2004، بدأ الناخبون في وسط أوكرانيا يميلون أكثر إلى الأحزاب والمرشحين الرئاسيين الموالين للغرب، وتنتشر في هذه المنطقة لهجة خليط من الروسية والأوكرانية مع وجود قوي للغة الروسية، ولكنه لا يصل إلى نفس مستوى وجود الروسية في شرق وشمال شرق وجنوب البلاد.
الجزء الثالث: هو قريب لروسيا جداً إثنيا ولغوياً، وسياسياً، ويتركز في الجنوب ( يبلغ عدد سكانه نحو 12 مليوناً من بين سكان البلاد البالغ عددهم نحو 42 مليوناً وفقاً لإحصاءات 2012 أي قبل ضم القرم) والشرق (15.7 مليون وفقاً لإحصاءات 2012)، وهي منطقة كان لها وزن اقتصادي وسكاني كبير.
وهذه المناطق هي التي أوصلت المرشح فيكتور يانكوفيتش الموالي لروسيا للرئاسة والذي أدى رفضه لتوقيع اتفاقية الشراكة الأوكرانية مع الاتحاد الأوروبي إلى ثورة الميدان من قبل المعارضة الموالية للغرب، والتي أدت لعزله وهروبه لموسكو، مما أدى إلى اندلاع احتجاجات في شرق وشمال شرق وجنوب أوكرانيا ضد عزله، ولكن تم قمعها من قبل كييف.
ومن الواضح أنه رغم التأييد لعلاقة مع موسكو في المنطقة لم يكن هناك تأييد لفكرة الانضمام لروسيا، وهو ما ظهر في فشل محاولة اتباع موسكو في ضم خاركيوف (شمال شرقي) ثاني أكبر مدن البلاد وأوديسا (جنوب) إحدى أكبرها إلى روسيا في عام 2014.
والموالون لروسيا في هذه المناطق انكفأوا منذ أزمة عام 2014، بعد ابتلاع موسكو للقرم ودعمها لانفصال إقليم الدونباس، وبصفة عامة فإن قطاعاً من الشعب الأوكراني في هذه المناطق، كان ينظر لنفسه باعتباره أوكرانياً وروسياً في الوقت ذاته.
ويجب ملاحظة أن هذه المنطقة كان لها تأثير كبير في السياسة الأوكرانية، قبل أزمة 2014.
"المثل الأعلى".. كيف أثرت بولندا في أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي؟
أثَّرت بولندا على مدى السنوات العشرين الماضية في تطور أوكرانيا الثقافي والسياسي أكثر من أي بلد آخر باستثناء روسيا، حسب Foreign Policy.
فكانت بولندا داعمة كييف القوية داخل الاتحاد الأوروبي والناتو، واستقبلت ملايين الأوكرانيين للعيش والدراسة والعمل هناك، وقدَّمت وارسو نموذجاً بديلاً لما يمكن أن تصير عليه أوكرانيا باعتبارها بلداً وسط أوروبياً حقيقياً: النزعة الأوروبية، والوطنية، والمناهضة العلانية لروسيا، والنجاح الاقتصادي، كل ذلك تحت أمان المظلة الأمنية الأمريكية.
ومنذ غزت روسيا أوكرانيا وضمَّت شبه جزيرة القرم عام 2014، تحاول أوكرانيا بناء نفسها كدولة قومية على النموذج البولندي. إنَّها عملية أعطتها روسيا نفسها زخماً لها، وهي عملية من شبه المستحيل إعادتها إلى الوراء فيما تحتشد القوات الروسية مجدداً على حدود أوكرانيا، حسب المجلة الأمريكية.
أوكرانيا على خطى وارسو في محاربة الشيوعية
قدَّمت بولندا لأوكرانيا نموذجاً لكيفية شن الحرب التاريخية. فبعد سقوط الشيوعية في بولندا، أُعيدَ تصوير الاتحاد السوفييتي باعتباره مُحتلاً ومضطهداً للأمة البولندية لا مُحرِّراً لها مثلما كان بعد الحرب العالمية الثانية. ولها في ذلك أسباب وجيهة أيضاً. فقد أمر الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين سراً عام 1940 بالإعدام الجماعي لـ22 ألفاً من الضباط والمفكرين البولنديين في غابة كاتين البولندية بعد تقاسم الاتحاد السوفييتي وألمانيا النازية البلاد وتحويلها لشطرين محتلين. ولم يعترف الاتحاد السوفييتي بمسؤوليته إلا في عام 1990، بعدما ظل يحمِّل المسؤولية للألمان خلال الحرب الباردة.
وأسست الحكومة البولندية في عام 1998 ذراعها المثيرة للجدل للحرب التاريخية، معهد إحياء الذاكرة الوطنية- لجنة ملاحقة الجرائم المرتكبة بحق الأمة البولندية، بهدف التحقيق في جرائم النظامين الشيوعي والنازي في بولندا، مثل تلك المرتكبة في كاتين. كان ذلك يشير ضمناً إلى مضاهاة النظامين الشيوعي والنازي باعتبارهما شرَّين متساويين، وهو أمر شائع في بولندا ودول البلطيق، لكنَّه مبغوض في روسيا وبين حلفائها المقربين، حيث ما زال يُنظَر إلى الاتحاد السوفييتي إلى حدٍّ كبير باعتباره قوة إيجابية حررت أوروبا من العدوان النازي.
أسست أوكرانيا في عام 2006 معهد الذاكرة الوطنية الخاص بها، على غرار نظيره البولندي. (أُوقِفَت عمليات معهد الذاكرة الوطنية الأوكراني لفترة قصيرة بين عاميّ 2010 و2014 في عهد الرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش). وجرى منح المعهد مهمة مشابهة لنظيره البولندي: التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها السلطات السوفييتية منذ عام 1917 وحتى 1991. وكان ملايين الأوكرانيين قد ماتوا جوعاً في عهد ستالين في مجاعة من صنع الإنسان بين 1932 و1933، والتي تعتبرها أوكرانيا الآن إبادة جماعية. هذا فضلاً عن فظائع أخرى.
اضطلع المعهد بعد عام من تأسيسه بدور رئيسي في صياغة مجموعة مثيرة للجدل من قوانين تفكيك الشيوعية في أوكرانيا، والتي أدَّت إلى إسقاط النصب التذكارية السوفييتية المرتبطة بالحرب العالمية الثانية، وتغيير أسماء مناطق، وحظر كافة الرموز الشيوعية. ومثلما هو الحال مع المعهد، كانت القوانين قائمة على نموذج القوانين التي جرى تمريرها في بولندا ودول البلطيق.
لم تلاحق أوكرانيا، وبصورة متزايدة، إرث الشيوعية فحسب، بل كذلك الشيوعيين السابقين أنفسهم. فجرى في عام 2014 إصدار مجموعة مثيرة للجدل من قوانين التطهير لاستهداف المسؤولين الشيوعيين السابقين، سائرةً في ذلك على خطى بولندا ودول البلطيق، التي أصدرت جميعها قوانينها المماثلة الخاصة في التسعينيات. ولا يُعَد التطهير محاولة لاقتلاع جذور الإرث الثقافي للشيوعية وحسب، بل أيضاً إرثه المؤسساتي، وهو أمر يستهدف في الغالب سكان البلاد الموالين لروسيا وأولئك الذين يراودهم الحنين السوفييتي.
حين خضعت كلٌّ من بولندا وأوكرانيا للمظلة السوفييتية، لم تكن هناك علاقات مميزة بين أوكرانيا وبولندا، بالنظر إلى الخلافات التاريخية والإثنية.
لكنَّ ذلك تغيَّر بعد سقوط الشيوعية في بولندا عام 1989 وانهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، لكن لم يتم ذلك بين عشية وضحاها.
بولندا نجحت في تفادي مصير أوكرانيا عبر التهديد بالأسلحة النووية
واحدة من النقاط الجوهرية في العلاقة بين أوكرانيا وبولندا، هي أن الأخيرة نجحت في تفادي مصير كييف المؤلم كهدف للتنمر الروسي، كما أن بولندا تعلم أنه إذ تمكنت موسكو من فعل ما تريد مع أوكرانيا فقد تتجه إليها، إذ يقول مثل بولندي قديم: "لا يمكن أن تكون هنالك بولندا حرة دون أوكرانيا حرة، ولا أوكرانيا حرة دون بولندا حرة".
كان الهدف الأساسي لبولندا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، هو "الاندماج الأوروبي-الأطلسي": الانضمام للناتو والاتحاد الأوروبي في أقرب وقت ممكن، بالضبط من أجل تفادي ذلك الوضع الذي تواجهه أوكرانيا اليوم.
بل وصل الأمر ببولندا أنها هددت بتطوير قدراتها النووية الخاصة إذا لم تحظَ بعضوية الناتو. ودفع أول رئيس لبولندا، ليش فاليسا، الرئيس الروسي آنذاك، بوريس يلتسن، للموافقة على أنَّ الانضمام للحلف "لا يتعارض مع مصلحة أي دولة، بما في ذلك روسيا أيضاً". وسرعان ما أصبحت بولندا عضواً بالناتو عام 1999، وتبعت ذلك عضوية الاتحاد الأوروبي في 2004.
ومع تحقق هدف الاندماج الأوروبي الأطلسي، باتت بولندا الآن حرة للسعي نحو استراتيجية كبرى جديدة في الاتجاه الشرقي: ضمان ألا تكون حدود الغرب الشرقية مع روسيا هي حدود بولندا الشرقية، أي العمل وقف على تمدد النفوذ الروسي في أوكرانيا وجمهوريات البلطيق وبيلاروسيا.
حلف وارسو جديد لتطويق روسيا.. اقتراح بولندي بشراكة أوروبية تمتد لأذربيجان
اقترحت بولندا– إلى جانب السويد- في 2008 أن يسعى الاتحاد الأوروبي إلى شراكة شرقية مع جيرانه الأوروبيين، كطريق صريح لعضوية أوكرانيا ومولدوفا وبيلاروسيا وأذربيجان وجورجيا وأرمينيا. كانت الدول الأوروبية الكبرى فاترة في أحسن الأحوال إزاء المبادرة، وكانت مترددة في إثارة غضب الكرملين، الذي اتهم الشراكة بكونها محاولة لإنشاء مجال نفوذ جديد للاتحاد الأوروبي.
ورغم تاريخها المأساوي الذي عانت منه جراء سوء حظ جغرافي أوقعها بين ألمانيا وروسيا، فإن حاضر بولندا يبدو مختلفاً عن ماضيها، الأمر الذي قد يكون ملهماً لأوكرانيا.
فبولندا ليست دولة عادية، فهي أكبر دولة اقتصاداً وسكاناً بين دول الاتحاد الأوروبي والناتو التي تنتمي لأوروبا الشرقية، والتي كانت خاضعة للاتحاد السوفييتي، وهذا يعني أنها دولة مؤثرة في الناتو والاتحاد الأوروبي وإحدى أكثر الدول المعنية بالتصدي للنفوذ الروسي.
كما أن بولندا من أبرز دول الاتحاد الأوروبي تمرداً على القيادة الفرنسية الأوروبية للاتحاد الأوروبي، وهي القيادة التي تحاول تعكير علاقات الاتحاد الأوروبي مع أنقرة، لا سيما باريس.
جعل ذلك بولندا من الدول التي تدفع الاتحاد الأوروبي لتحسين العلاقة مع تركيا باعتبارها خصماً تاريخياً لروسيا، ومنافساً استراتيجياً لها، (حتى لو أصبحا ينسقان في ساحات النفوذ المشتركة) وكانت بولندا أول دولة في الناتو تشتري الطائرات المسيرة التركية).
ويعتقد الخبير الجيوسياسي البولندي ويتولد ريبيتوفيتش، أن "اللوبي التركي" في بولندا، الذي له تأثير قوي على الحكومة في وارسو، قرر ضرورة إبرام تحالف بولندي تركي.
لماذا أصبحت أوكرانيا الأسوأ حالاً بين دول كتلة أوروبا الشرقية؟
منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، كانت أوكرانيا تعاني أكثر من أي دولة أخرى خرجت من المظلة الشيوعية.
رغم أن أوكرانيا كانت أهم جمهورية سوفييتية اقتصادياً وعسكرياً بعد روسيا وواحد من أهم وأقوى اقتصادات دول أوروبا الشرقية، حيث ورثت جزءاً من تركة الاتحاد السوفييتي الصناعية والعسكرية، إلا أن تأثير انهيار الاتحاد السوفييتي على كييف أسوأ بكثير من تأثير تغيُّر النظام في وارسو.
إذ انكمش اقتصاد البلاد في كل سنة من سنوات عقد التسعينيات، ولم يتجاوز المستوى الذي بلغه في 1989 إلا في عام 2005. وكانت أسئلة الهوية الثقافية والسياسية قد بدأت بالفعل في تقسيم البلاد. وفي حين احتفلت بولندا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عام 2004، دخلت أوكرانيا سلسلة من الاحتجاجات بسبب التزوير الانتخابي المزعوم والذي تُوِّجَ بما يُعرَف بـ"الثورة البرتقالية".
ففي جولة إعادة محتدمة ومتقاربة في الانتخابات الرئاسية، هزم يانكوفيتش بفارق ضئيل المرشح الموالي للغرب فيكتور يوشينكو. لكنَّ يوشينكو وأنصاره طعنوا بالنتيجة وتدعَّم موقفهم بعدما ألغت المحكمة العليا الأوكرانية الانتخابات ودعت لإعادة الانتخابات، والتي خرج منها يوشينكو منتصراً.
غضبت روسيا، التي كانت قد اعترفت بالفعل بيانكوفيتش باعتباره المنتصر الشرعي. وكانت بولندا داعمة. فكان فاليشا والسياسيون البولنديون الآخرون يدعمون يوشينكو بالإجماع. ودفع الرئيس البولندي آنذاك ألكسندر كفاسنيفسكي لعقد مباحثات طاولة مستديرة بين الحكومة والمعارضة، كان حاضراً فيها إلى جانب عدد من القادة الأوروبيين الآخرين.
وبعد عقد من الثورة البرتقالية، أدَّت حركة احتجاجية أكثر أهمية إلى ما يُسمَّى بثورة "يوروميدان" (الميدان الأوروبي) بعدما رفض يانكوفيتش– الذي انتُخِبَ في النهاية رئيساً عام 2010- التوقيع على اتفاق شراكة مع الاتحاد الأوروبي، فوقعت ضده مظاهرات في كييف من قبل المعارضة الموالية للاتحاد الأوروبي، أفضت لعزله وهربه لروسيا، واندلاع مظاهرات في المناطق التي انتخبته في الشرق والجنوب والشمال الشرقي، ثم استغلت روسيا الأزمة، فضمَّت شبه جزيرة القرم وبدأت حرباً في منطقة دونباس شرقي أوكرانيا بعد فترة ليست بالطويلة، واصِفةً ثورة الميدان الأوروبي بأنَّها انقلاب ساعدت وارسو في تدبيره.
بولندا تصبح ملاذاً للأوكرانيين
ومنذ ذلك الحين، سعى ملايين الأوكرانيين لحياة أفضل في بولندا، أو على الأقل لرواتب أفضل. وأصبح الأوكرانيون الآن جزءاً منتشراً في كل مكان في نسيج المجتمع البولندي. وأصبحت أوكرانيا أيضاً أكثر الدول اعتماداً على الحوالات المالية في أوروبا.
وبعيداً عن الاقتصاد، تنظر بولندا إلى أوكرانيا باعتبارها شريكاً بالغ الأهمية في منطقة تهيمن عليها روسيا منذ قرون. وبدورها، تعتبر أوكرانيا بولندا بالغة الأهمية لتأمين العضوية في المؤسسات الغربية التي يمكن أن تساعدها في الإفلات من نفوذ موسكو.
وسعى الرئيس الأوكراني الحالي، فلوديمير زيلينسكي، عند وصوله إلى السلطة في 2019، إلى "إعادة ضبط" العلاقة بين أوكرانيا وبولندا، بعدما أدَّت النزاعات حول التاريخ في توتر العلاقات في عهد سلفه، بيترو بوروشينكو.
وقد أمضى زيلينسكي الذكرى السنوية الثمانين لبداية الحرب العالمية الثانية في وارسو، وهناك لم يعلن فقط حدوث ذوبان في جليد العلاقة بين الجانبين، بل أيضاً حدوث اختراق في العلاقات البولندية الأوكرانية. وكان للخطوة دلالة رمزية.
تحالف بولندي أوكراني
وفي عام 2020، اجتمع قادة بولندا وليتوانيا وأوكرانيا في مدينة لوبلين البولندية لإصدار إعلان مشترك يعلن تحالفاً جديداً يُدعى "مثلث لوبلين"، وهو مُكرَّس لتعزيز العلاقات الثقافية والاقتصادية والسياسية والعسكرية وكذلك دعم انضمام أوكرانيا في نهاية المطاف إلى الاتحاد الأوروبي والناتو. ودخلت بولندا وأوكرانيا هذا العام تحالفاً ثلاثياً آخر يهدف لحماية السيادة الأوكرانية، هذه المرة مع المملكة المتحدة.
وبالنظر إلى مشكلات أوكرانيا مع الفساد وسيادة القانون، وبالنظر إلى الحرب النشطة في شرقها، فمن المستحيل أن تنضم البلاد إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو في المستقبل القريب، حسب Foreign Policy.
وتطالب روسيا ببقاء الانضمام إلى حلف الناتو مستبعداً من الطاولة تماماً من خلال اتفاق مشترك بين موسكو وواشنطن. لكنَّ جزءاً من المشكلة أنَّه على الرغم من كون أوكرانيا ليست جزءاً من الناتو، فإنَّ بعض البلدان الأعضاء بالاتحاد الأوروبي والناتو تتعامل مع أمن أوكرانيا باعتباره مسألة أمن قومي، وهذه الدول تتركز في دول أوروبا الشرقية لا سيما شمالها مثل بولندا القريبة من روسيا وجمهوريات البلطيق الملاصقة لها.
البولنديون هم الأكثر تعاطفاً مع أوكرانيا مقارنة بكل الأوروبيين
وقد أدَّت رؤية أوكرانيا تعاني من العدوان الروسي اليوم إلى نيلها تعاطف البولنديين، الذين يعتبرون أنفسهم ضحايا العدوان الروسي بالأمس. وأظهر استطلاع رأي حديث أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أنَّ البولنديين هم الأكثر حسماً، وبفارق كبير، بين البلدان الأوروبية في اعتقادهم بأنَّ بلدهم يجب أن يدافع عن أوكرانيا من تجدد العدوان الروسي، ويقول 65% منهم إنَّه يجب أن يدافع عنها، مقارنةً بأقل من 50% في بلدان الاتحاد الأوروبي الرئيسية الأخرى. وأظهر نفس الاستطلاع أنَّ 80% من البولنديين يعتقدون أيضاً أنَّه يجب على الاتحاد الأوروبي والناتو التقدُّم للدفاع عن أوكرانيا في حال حدوث توغل روسي.
استغرق الأمر حتى عام 1991 كي تبرز بولندا وأوكرانيا باعتبارهما دولتين جارتين ذواتيّ سيادة. واستغرق عقداً آخر كي تكتشفا مصالحهما السياسية المشتركة، وعقداً آخر كي يندمج المجتمعان معاً على نحوٍ لا رجعة فيه بفعل أحداث العام 2014.
لكنَّ ذلك المصير كان، من نواحٍ عدة، مُقدَّراً مُسبَقاً بسبب تجربة أوكرانيا وبولندا المشتركة مع العدوانية الروسية.