قطعت إيران إمدادات الغاز عن تركيا لأسباب لم تكن مقنعة، ما جعل أنقرة تكثف سبل البحث عن بديل، وتسعى إلى استيراد الغاز الطبيعي من إقليم كردستان العراق، لكنها مهمة ليست سهلة من الناحية العملية والقانونية.
موقع Middle East Eye البريطاني تناول القصة في تقرير عنوانه "نقل غاز كردستان العراق إلى تركيا.. القول أسهل من الفعل"، رصد الصعوبات القانونية واللوجستية التي تواجه ذلك الحل لأزمة اعتماد أنقرة على طهران بشكل كبير لتلبية الاحتياجات من الغاز الطبيعي.
فحينما قطعت إيران إمدادات الغاز عن تركيا الشهر الماضي، يناير/كانون الثاني، مُلقيةً باللوم عليها في خطأ فني في خط الأنابيب، وجدت أنقرة نفسها أمام معضلة: إمَّا أن تمنع إمدادات الغاز عن المناطق السكنية في وقتٍ كان الطقس الشتوي القارس يضرب البلاد فيه، أو وقف الإمدادات عن المناطق الصناعية.
وفي النهاية، خفَّضت الحكومة التركية تدفق الغاز إلى المناطق الصناعية بواقع 40%، ما أوقف عملياً إنتاج بعض الشركات لـ72 ساعة. وعقب احتجاج وضغط دبلوماسي شديد استأنفت إيران الإمدادات قبل اليوم العاشر من المهلة التي تعهَّدت بها طهران.
هل يحل الغاز العراقي محل الإيراني؟
صحيح أن إمدادات الغاز الطبيعي عادت إلى طبيعتها، لكن بقيت التساؤلات حيال موثوقية إيران. فالكثير من المُطّلِعين في أنقرة لا يصدقون أعذار الخلل الإيرانية، ويعتقدون أنَّ طهران فضَّلت استخدام الغاز لاستهلاكها الداخلي.
ولهذا التقى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، رئيس إقليم كردستان العراق المتمتع بحكم شبه ذاتي، نيجيرفان بارزاني، في وقتٍ سابق من هذا الشهر، فبراير/شباط. طلب أردوغان من نظيره الكردي المساعدة في استيراد الغاز من الاحتياطيات غير المُستغَلة إلى حدٍّ كبير في كردستان العراق، والتي تُقدَّر بـ25 تريليون قدم مكعبة.
لكنَّ الفكرة تواجه الكثير من العقبات القانونية والفنية، بعدما ألغت المحكمة الاتحادية العليا في العراق هذا الأسبوع قانوناً يتعلَّق بالنفط والغاز يعود لعام 2007، مَنَحَ حكومة إقليم كردستان السلطة لإدارة موارد القطاع من الطاقة بصورة مستقلة، بما في ذلك إصدار التراخيص والتصدير. وأعلن الحكم أيضاً أنَّ كل عقود إقليم كردستان الحالية باطلة.
وقال مسؤولان تركيان بارزان لموقع Middle East Eye البريطاني، إنَّ أنقرة كانت تنوي مناقشة المسألة مع بغداد أولاً، حتى قبل قرار المحكمة. وقال أحدهما: "نعرف أنَّ هذا أمر يتعين علينا الحديث بشأنه مع الحكومة العراقية والحصول على موافقتها، وبالتالي فإنَّ حكم المحكمة الأخير غير مهم، لكنَّ التطبيق لن يكون سهلاً أيضاً".
يتقاضى العراق وتركيا بالفعل حول اتفاق أُبرِمَ بين أنقرة وأربيل عام 2014، سمح للأخيرة بضخ النفط الخام إلى تركيا عبر خط أنابيب كركوك-جيهان. وقاضت بغداد أنقرة عام 2015، من خلال محكمة التحكيم الدولية، قائلةً إنَّ الاتفاق مخالف للقانون، وطلبت تعويضاً بقيمة 25 مليار دولار عن الأضرار.
وبين الحكومة الفيدرالية العراقية وحكومة إقليم كردستان خلافٌ حول بيع الأخيرة النفط والغاز بصورة مستقلة، وحصولها على كل العائدات. ومع أنَّ قرار المحكمة العليا يعزز الموقف القانوني لبغداد أكثر في مواجهة الصفقة التركية الكردية، يُعتَقَد أنَّ الحكومة العراقية ليست مهتمة كثيراً في الوقت الراهن بمتابعة القضية إلى النهاية وتحصيل التعويضات.
إذ قال مسؤول تركي إنَّ رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، الذي يُنظَر إليه باعتباره مُقرَّباً من أنقرة، أجَّل معاملات التحكيم بسبب تحسن العلاقات بين البلدين.
تأثير مفاوضات تشكيل الحكومة
يخوض العراق حالياً مفاوضات سياسية محتدمة في ظل محاولة الأحزاب العراقية تشكيل الحكومة المقبلة عقب الانتخابات البرلمانية، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
قال سردار عزيز، الخبير في شؤون العراق وإقليم كردستان العراق، للموقع البريطاني: "توقيت قرار المحكمة العراقية ليس مصادفة. وفي حال تطبيقه سيغير اتفاقات النفط والغاز في البلاد، لكنَّه سيؤثر أيضاً على المفاوضات بخصوص الحكومة، القرار ليس دستورياً على الإطلاق".
وكانت القوى السياسية الشيعية القريبة من إيران الخاسر الأكبر في الانتخابات البرلمانية المبكرة، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، وشهد العراق أحداثاً مقلقة للغاية بعد ظهور النتيجة، وحتى 27 ديسمبر/كانون الأول، بسبب تهديدات الميليشيات المسلحة، وتعرض رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لمحاولة اغتيال، لكن في نهاية المطاف وبعد ثلاث جلسات عقدتها المحكمة الاتحادية العليا في العراق، أعلى سلطة قضائية لفض النزاعات الدستورية، ردت المحكمة جميع الطعون التي تقدم بها "الإطار التنسيقي" الممثل للأحزاب الخاسرة وصدقت رسمياً على نتائج الانتخابات.
ويجري الحزب الديمقراطي الكردستاني، أقوى حزب في إقليم كردستان، مباحثات مع تحالف "سائرون" بقيادة رجل الدين الشيعي النافذ مقتدى الصدر -الذي فاز بأكبر عدد من المقاعد- حول تشكيل ما يسميها الصدر "حكومة أغلبية وطنية".
ومن شأن التحالف المُقتَرَح، الذي يجري أيضاً نقاشات مع أحزاب سياسية سُنّيّة، إقصاء الأحزاب الشيعية الأخرى المقربة من طهران، ما أثار ردود فعل غاضبة، ولا تزال المفاوضات مستمرة.
ووسط هذه التطورات، دُعيَت المحكمة الاتحادية العليا في العراق للبت في الالتماسات المختلفة المعروضة عليها، بما في ذلك اتفاق أنقرة وأربيل لعام 2007، وقد تزايدت الشكوك في أنقرة.
فقال المسؤول التركي للموقع البريطاني: "من اللافت بالتأكيد أن نرى المحكمة تصدر هذه الأحكام الواحد تلو الآخر، والتي يُنظَر إليها باعتبارها ذات دوافع سياسية، البعض يعتقد أنَّ هذه القرارات كلها تتعلَّق بجارة العراق الشرقية (إيران)".
خطط نقل الغاز إلى تركيا مستمرة
رغم التحديات القانونية، تعمل حكومة إقليم كردستان العراق على خطط لنقل غاز كردستان إلى تركيا. وأبرمت الحكومة التي تتخذ من أربيل مقراً لها الأسبوع الماضي اتفاقاً مع شركة Kar Group لبناء خط أنابيب غاز جديد من السليمانية إلى أربيل أولاً، ثم إلى دهوك، خلال الأشهر الـ16 التالية من أجل الإنتاج المحلي للكهرباء.
سيجلب خط الأنابيب أيضاً البنية التحتية إلى نطاق 35 كم من الحدود التركية، ما يفتح الباب أمام خطط التصدير المستقبلية.
قال جوخان يارديم، المدير العام السابق لشركة Botas التركية المملوكة للحكومة، وتنشط في مجال خطوط أنابيب وتجارة النفط والغاز الطبيعي، إنَّ الغاز الكردي فرصة كبيرة لتلبية احتياجات تركيا المتنامية من الطاقة.
وأضاف لموقع Middle East Eye: "أنشأت شركة Botas بالفعل خط أنابيب غاز إلى الحدود العراقية، البنية التحتية التركية جاهزة. والطرف الآخر من الحدود سلس، لن يستغرق بناء خط أنابيب الكثير من الوقت".
يستخدم كردستان العراق حالياً نحو 440 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً لتوليد الكهرباء من حقلي خورمور وشيمشمال. وقالت شركة "دانة غاز" الإماراتية العام الماضي إنَّها تعتزم زيادة الإنتاج بواقع 60% والوصول إلى 630 مليون قدم مكعبة يومياً بحلول عام 2023.
قال علي عارف أكتورك، مستشار الطاقة المخضرم، للموقع: "الإنتاج الحالي لا يكفي تركيا. هنالك حاجة للعمل في حقول غاز أخرى مثل ميران وبينا باوي، اللذين يحتويان على غاز حمضي، والذي يحتوي بدوره على مستوى عال من كبريتيد الهيدروجين، وهو سام".
ويعتقد مسؤولو كردستان العراق أنَّ هناك حاجة إلى 4-5 مليار دولار على الأقل لبدء الإنتاج في هذه الحقول وتحلية الغاز.
وأنفقت شركة Genel Energy، وهي شركة طاقة تركية بريطانية، بالفعل قرابة 1.4 مليار دولار على حقليّ غاز ميران وبينا ناوي. وأنهت حكومة إقليم كردستان العقود العام الماضي، ما دفع الشركة لرفع دعوى ضد القرار.
وهنالك شركة تركية أخرى مهتمة بالحقلين، هي Cengiz Energy. وأُفيدَ بأنَّ الشركة، التي يُنظَر إليها باعتبارها مقربة من الحكومة التركية، قد تقدمت بالفعل بطلب للحصول على ترخيص في 2020 لاستيراد غاز كردستان العراق إلى تركيا. وقال مسؤول تركي على اطلاع مباشر على المسألة لموقع Middle East Eye إنَّ السلطات لا تزال تجري مداولات بشأن الطلب ولم يصدر قرار نهائي بعد.
ويقول مستشار الطاقة أكتورك إنَّ الشركة لديها أفضلية كبيرة في هذين الحقلين لخبرتها في تحلية الغاز.
وقال برلماني من إقليم كردستان العراق، الأسبوع الماضي، إنَّ الصادرات إلى تركيا قد تبدأ بحلول 2025، وهو ما يجده الخبراء تفاؤلاً مفرطاً.
وقال عزيز إنَّ غاز كردستان العراق لا يمكن أن يكون بديلاً فورياً لإيران، لكنَّه مع ذلك قد يُنوِّع واردات الطاقة التركية.
وقلَّصت تركيا في السنوات الأخيرة اعتمادها على الغاز الإيراني والروسي من خلال إنشاء عدة خطوط أنابيب جديدة، بما في ذلك لنقل الغاز الأذربيجاني وواردات الغاز المسال. وتعتزم أنقرة أيضاً إنتاج 20 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً من حقول غاز البحر الأسود المُكتشَفة مؤخراً بدءاً من عام 2023، لكن ستظل أنقرة بحاجة لاستيراد الغاز.