"صراخ وعويل دون محاولة للتصرف"، هكذا حصر الغرب خياراته في مواجهة الحشود الروسية حول أوكرانيا، ولم يحاول قادة أمريكا ودول الناتو اللجوء لخيارات بديلة كان يمكن أن تردع روسيا، والنتيجة أن التعامل الغربي مع أزمة أوكرانيا حقق لبوتين حتى الآن فوزاً دون رصاصة واحدة.
ومازالت التحذيرات الواردة من الولايات المتحدة بأن القوات الروسية تستعد للهجوم على أوكرانيا تزداد إلحاحاً وحِدَّةً.
ويرى الأكاديمي البريطاني كير جايلز، مؤلف كتاب Moscow Rules: What Drives Russia to Confront the West (قواعد روسيا: ما الذي يقود روسيا لمواجهة الغرب) في مقال نشره بصحيفة The Guardian البريطانية، أنه لا مجال للتشكيك في قناعة الولايات المتحدة بأن أوكرانيا تواجه خطراً وشيكاً، بجانب أن موقف عدد الدول التي تنصح مواطنيها بمغادرة البلاد في أقرب وقتٍ، يوضح أن التحذيرات موثوقة في نهاية المطاف.
ولكنه يتساءل: ألم يكن هناك خيارات أخرى للرد على روسيا غير هذه التحذيرات المكثفة دون إجراءات على الأرض، والتي يبدو أنها جاءت لصالح بوتين.
التعامل الغربي مع أزمة أوكرانيا حصر نفسه في الصراخ والتحذير
المشكلة أن التأكيد على الحرب شبه الحتمية، وتحديد الأطر الزمنية الضيقة حول التوقيت المتوقع لاندلاعها، يتسبب كذلك في تقليص الخيارات أمام الولايات المتحدة وحلفائها، وفي الوقت ذاته يتيح لروسيا مزيداً من الخيارات، حسب المقال.
إذ لا تزال موسكو تحوز المبادرة، والخطر يتزايد بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد يتخذ موقفاً يحقق فيه نصراً دبلوماسياً عبر سحب البساط من أسفل ذعر الحرب الذي أثاره الغرب، ولحظتها ستعتبر الولايات المتحدة وحلفاؤها مجرد زوال خطر الحرب نجاحاً لها، وقد تقدم لبوتين ثمناً مقابل إنهاء الأزمة.
لا أحد يعرف إلى متى تستطيع موسكو إبقاء قواتها على حدود أوكرانيا
هناك شحّ في التكهنات حول المدة التي تستطيع خلالها روسيا تحمُّل إبقاء قواتها على الحدود بدون شن هجوم أو سحبها. ولكن في نوفمبر/تشرين الثاني، عندما شرح بوتين لأول مرة الغرض من التهديد الذي تدفع به روسيا من خلال حشد القوات، قال كذلك إنه من الأهمية بمكان بالنسبة لهذه القوات أن تواصل الضغط "لأقصى مدة ممكنة".
وقال جايلز، وهو زميل استشاري أقدم في برنامج روسيا وأوراسيا لدى معهد تشاتام هاوس، إنه بعد مرور ثلاثة أشهر، فإن التساؤل يجب أن يكون بدلاً من ذلك ما هي المدة التي تستطيع خلالها الولايات المتحدة وأقرب حلفائها مواصلة تصعيد التحذيرات من صراع وشيك؟
في السابق كان أي انسحاب للقوات الروسية قد يوصف بأنه إخفاق مذل لبوتين، لكن الولايات المتحدة الآن هي التي تقف في موقفٍ محرجٍ، وموثوقيةُ الإفصاحات التي تكشفها أجهزتها الاستخباراتية ستتحطم مرةً أخرى، وذلك إذا اختارت روسيا خياراً آخر غير الغزو، أو حتى إذا واصلت بكل بساطةٍ حشد قواتها على الحدود وجاءت التواريخ التي حددتها الولايات المتحدة ومرّت دون أن تتحرك روسيا.
الآن مصداقية واشنطن في خطر بعد مرور موعد الغزو الذي حددته
وكان بعض المسؤولين الأمريكيين قد توقعوا أن تكون لحظة غزو الرئيس فلاديمير بوتين: قبل فجر يوم 16 فبراير/شباط 2022، وقد مر هذا اليوم دون أي مشاكل بل شهدت تلك الفترة إعلان روسيا عن سحب بعض قواتها من الحدود مع أوكرانيا، وبروز إشارات سياسية من روسيا بالرغبة في التراجع عن حافة الهاوية، أو على الأقل أن بوتين متردد في اتخاذ قرار بالغزو، حسبما ورد في تقرير لمجلة The Economist البريطانية.
ووصف المسؤولون الروس نظراءهم في الغرب والإعلاميين الغربيين بـ"أنهم مصابون بالبارانويا" بعد تخمينهم موعد غزو موسكو المزعوم لأوكرانيا.
وسخرت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا من توقعات الإعلام الغربي؛ إذ طالبتهم بازدراء أن يحددوا موعد غزو موسكو للعام المقبل أيضاً، حتى تخطط إجازاتها السنوية. من جانبه، قال نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة ديمتري بوليانسكي، إن الغرب مصاب بـ"البارانويا"، وعليهم زيارة الطبيب. أما وزير خارجية روسيا لافروف فاكتفى "بابتسامة ساخرة" في رده على موعد غزو روسيا المفترض.
كما انتقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، مؤخراً، الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، لطريقة تعاملها مع التعزيزات العسكرية الروسية على حدوده، وهاجم قرارات الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا بسحب بعض موظفي السفارة، متهماً القادة الغربيين بالتحريض على "الذعر" بسبب تكرار تلميحات بأن الغزو الروسي لبلاده بات وشيكاً، مقللاً من خطر الحرب الوشيك.
وقادة الغرب يتسابقون على تملق بوتين.. وماكرون قدم له تنازلات بالنيابة عن أوكرانيا
على الجانب الآخر، لا تجلب المواكب الدبلوماسية المستمرة إلى موسكو كثيراً من الفوائد الواضحة. ففي أغلبها، تكرر النقاشات التي تقول إن موسكو رفضت مبادرات الغرب بالفعل، وتسمع شكاوى موسكو المألوفة بالفعل على نحو يثير الضجر، حسب تعبير الكاتب البريطاني.
وليس هناك مؤشرٌ على أن التملق اللجوج من جانب قادة ووزراء الغرب كان لديه أي تأثير على خطط روسيا، حتى عندما حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على ما يبدو التفاوض مع روسيا عن طريق تقديم وعود كبيرة نيابةً عن أوكرانيا ومنظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وبدا من التسريبات حول زيارة ماكرون لموسكو أن الرئيس الفرنسي قرر منفرداً التنازل عن حق أوكرانيا في الانضمام للناتو وتحويلها لدولة محايدة على الطراز الفنلندي، أي مع السماح بنفوذ روسي داخلها مع محاولة إحياء اتفاقات مينسك التي باتت كييف ترفضها لأنها قد تؤدي إلى تحويل المتمردين الموالين لروسيا كطابور خامس لموسكو داخل أوكرانيا.
وألمح الدبلوماسيون الفرنسيون إلى أن مسألة انضمام أوكرانيا للناتو يمكن أن تبقى عالقة لعقود دون استجابة مثلما يحدث مع طلب تركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي.
كل هذا الضعف نتيجة استبعاد الغرب للتلويح بالخيارات الخشنة
منذ بداية الأزمة، اتسم التعامل الغربي مع الأزمة الأوكرانية بالضعف، رفضت ألمانيا حتى إرسال معدات عسكرية لأوكرانيا، بينما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ينتقد أمريكا أكثر من انتقاده لروسيا.
أما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة صاحبتا أقوى من موقف في الدول الغربية، فلقد استبعدتا منذ البداية تقريباً تقديم أي دعم عسكري على الأرض إلى كييف باستثناء الأسلحة والذخائر.
وابتهجت موسكو بذلك بطبيعة الحال، بعد أن بدد الغرب أكبر مخاوف روسيا التي يمكن أن تردعها.
فنطاق الدعم المقدم إلى أوكرانيا يُفترض أنه مُقيَّدٌ بالحقيقة التي تقول إنها ليست عضواً في منظمة الناتو، ولكن الكاتب البريطاني يلفت إلى أن ثمة سوابق قدمت فيها القوى الغربية حمايةً من العدوان إلى دولٍ ليست أعضاء في الحلف.
أمريكا تخلت عن الجرأة التي ميزتها في الحرب الباردة
وعلى مدار الحرب الباردة، كان من أسباب عدم توغل الاتحاد السوفييتي في كثير من المناطق، هو قلقه من رد فعل أمريكي قد يؤدي لحرب نووية.
فمحاولة تجنب حرب بين القوتين العظميين قد تتحول لحرب نووية، يجب أن يكون من دواعي قلق الدولتين معاً، ولكن عندما تصبح دولة واحدة هي التي تتجنب التصعيد، فإن هذا تلقائياً يعني فوز الدولة الأخرى في أي أزمة.
وبصفة عامة كان مسار الأزمات خلال الحرب الباردة يتحدد إلى حد كبير منذ البداية، بناء على مدى تعامل الولايات المتحدة (والاتحاد السوفييتي أحياناً) مع أي أزمة باعتبارها تستحق التدخل القوي بها حتى لو كان تحمّل تهديد بالحرب النووية، وهو أمر ظهر بشكل واضح في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 التي خرجت أمريكا منتصرة منها وأجبرت موسكو على سحب صواريخها النووية من كوبا.
فخلال الحرب الباردة، عندما كان يخرج السوفييت عن حدود دائرة نفوذهم المتفق عليها، كانت الولايات المتحدة تسارع بالعمل على التصدي لهم مثلما حدث خلال فترة الاحتلال السوفييتي لشمال إيران وتشكيله لجمهوريتين مستقلتين في أذربيجان الإيرانية وكردستان إيران.
بل إن اللافت أن الاتحاد السوفييتي، حتى في عهد زعيمه الدموي جوزيف ستالين، كان حذراً عندما كان حلفاؤه الشيوعيون يقررون توسيع نفوذهم أمام الغرب، بدا ذلك واضحاً في حرب كوريا المنسية والتي شهدت هجوماً من كوريا الشمالية على كوريا الجنوبية، فلقد شهدت هذه الحرب تدخلاً صينياً واسع النطاق ومعلناً، بينما كان التدخل السوفييتي حذراً، وحرصت موسكو على إخفائه بشكل كبير.
بل في ظل ذروة قسوة الحكم السوفييتي تحت قيادة ستالين، كان الاتحاد السوفييتي يضغط على حلفائه من الأحزاب الشيوعية في دول كثيرة مراعاة لمصالح الغرب، مثلما حدث في الحرب الأهلية اليونانية، والتي اعترف خلالها الاتحاد السوفييتي بأن اليونان هي ساحة للنفوذ الغربي، ولاسيما البريطاني رغم أن الشيوعيين كانوا القوة المسيطرة على البلاد خلال فترة نهاية الاحتلال النازي وبداية الحرب الأهلية، ورغم تأييد يوغوسلافيا للشيوعيين.
كان يمكن لأمريكا أن تتعامل مع احتمال خيار تدخلها عسكرياً بشكل غامض كما يفعل بوتين، أي أن تتخذ قراراً بعدم التدخل، ولكن دون إعلانه، تاركة روسيا في حالة من عدم اليقين.
ولكن الغرب لم يكتف منذ البداية باستبعاد خيار الحرب بشكل بدا فيه كأنه تشجيع لبوتين على التحرك، ولكنه استبعد أي خيارات خشنة أخرى تحت مستوى الحرب حتى، واكتفى بالتلويح بالعقوبات، وتقديم المساعدات العسكرية التي لن تقلص كثيراً من الفجوة بين أوكرانيا وروسيا.
وفي هذا الإطار، يقول الأكاديمي البريطاني كير جايلز: "كان يمكن للغرب أن يطرح أفكاراً لتقليص الخيارات أمام روسيا عن طريق إعلان مناطق حظرٍ جوي أو مناطق حظرٍ بحري فوق أوكرانيا وحولها، أو إظهار الاستعداد لفرضها، مما يضع روسيا أمام خطر الدخول في صراعاتٍ مباشرةٍ مع أعضاء الناتو إذا دعمت أي هجوم باستخدام القوات الجوية أو البحرية".
روسيا تتعامل كبلطجي شوارع، والتاريخ يخبرنا متى تتوقف
ويرى الكاتب أن روسيا تطالب بانسحاب الناتو من شرق أوروبا على وجه الدقة، لأن وجود الحلف يشكل عامل ردعٍ وتقييدٍ أمام طموحاتها. ويتحدث الخبراء العسكريون عن أن موسكو تستخدم "استراتيجية ضغط" لتحقيق هذا الهدف، أي أنها تتخذ خطوةً مختصرةً باستخدام التهديد بالقوة من أجل انتزاع تنازلات كاسحة من الغرب مثلما يفعل أي مجرم شوارع، حسب تعبيره.
فالغرب ليس إلا ضحيةً لا حول لها ولا قوة أمام هذا السطو الذي يحدث عبر خياراته التي اتخذها هو نفسه.
وقبل 5 أشهر، نشر معهد تشاتام هاوس استبياناً حول النجاحات والإخفاقات السابقة في ثني روسيا عن الاعتداء، بعنوان "ما الذي يردع روسيا؟". وجد الاستبيان أن دراسات الحالات المستقاة من حوادث ومواجهات على مدى العقود الماضية تعرض اتساقاً لافتاً للنظر: تحقق روسيا نجاحاً عندما يتراجع الخصوم الأقوى في وجه التهديدات، لكنها تتراجع إذا أظهر نفس هؤلاء الخصوم الرغبة والإصرار على حماية أنفسهم وحلفائهم وشركائهم.
وكما نبه رئيس فنلندا ساولي نينيستو، الذي يوصف أحياناً بأنه أكثر مسؤول غربي يعرف بوتين، إلى أهمية "الحكمة" الفنلندية المبنية على تجارب التعامل مع موسكو؛ إذ قال: "تعلّم الفنلنديون الحكمة القائلة إنّ القوزاق (فرسان الإمبراطورية الروسية الشرسين) يضعون أيديهم على كل ما هو سائب. ولهذا يجب أن تكون واضحاً للغاية معهم حول خطوطك الحمراء".
الشبكة التي تملكها روسيا من منظمي الحملات الدعائية وأبواق الإعلام والجهات المؤثرة، تصر على الدفع بالفكرة التي تشير إلى أن مواجهة موسكو تحمل معها تصعيداً شبه محتوم باندلاع حرب نووية. لكن تلك الفكرة حجبت الحقيقة التي تقول إن أي صراع مع الولايات المتحدة وحلفائها هو أسوأ سيناريو أمام روسيا، مثلما هو الحال بالنسبة لأمريكا، وإن هذا الاحتمال هو أحد الروادع القليلة الحقيقية في وجه بوتين.
وبالتالي فإن احتمالية تقديم دعم غربي مباشر إلى أوكرانيا قد يشكل رادعاً مباشراً وآنياً وملموساً لروسيا أكثر من التحذيرات المتكررة بفرض مزيد من العقوبات، حسب وجهة نظر الكاتب.
وبينما تدور التحذيرات من خطط روسيا الرامية إلى شن هجوم، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها ينبغي لهم كذلك جعل بوتين يعتقد أنهم قد يفعلون شيئاً حيال الأمر غير الصراخ والعويل.