يواصل الاقتصاد العالمي تلقِّي مفاجآت سيئة بشأن مستويات التضخم، حيث نمت أسعار المستهلك في يناير/كانون الثاني بأكثر مما كان متوقعاً في أمريكا وبريطانيا ومنطقة اليورو وغيرها من مناطق العالم. ومما زاد الطين بلة، أن المخاوف من غزو روسيا لأوكرانيا أدت إلى ارتفاع سعر برميل النفط إلى أكثر من 96 دولاراً للبرميل في 14 فبراير/شباط، وهو أعلى مستوى منذ 2014. وعلى جانبي المحيط الأطلسي، قامت الأسواق المالية بتسعير المزيد من التشديد النقدي في عام 2022، فيما بدأ بعض محافظي البنوك المركزية حول العالم في القلق علناً من أنهم يواجهون اختباراً لمصداقيتهم. فما أسباب ارتفاع التضخم حول العالم؟ وكيف يؤذي ذلك طبقة العمال من أمريكا إلى أوروبا وحتى الشرق الأوسط؟
مستويات التضخم لا تزال تفاجئ العالم.. والعمال هم أكبر الضحايا
أعلن مكتب إحصاءات العمل الأمريكي، الخميس 10 فبراير/شباط، أن مؤشِّر أسعار المستهلك ارتفع على أساسٍ سنوي بنسبة 7.5% في يناير/كانون الثاني، وهو مستوى لم يشهده منذ الثمانينيات. وبريطانيا ليست بعيدة عن الركب، حيث ارتفعت الأسعار بنسبة 5.4% في نهاية العام الماضي. وفي منطقة اليورو -الدول التسعة عشر التي تستخدم اليورو- بلغ التضخم 5.1% في يناير/كانون الثاني، وهو أعلى مستوى منذ أن برزت الأرقام القياسية في عام 1997.
وأصبح التضخم المرتفع يتغلغل في مطالب أجور العمال، مما يشير إلى بداية دوامة جديدة من الأجور وارتفاع الأسعار، كما يقول تقرير لمجلة Economist البريطانية. ويجوب صانعو السياسة النقدية أسواق العمل بحثاً عن إشارات تؤكد على ذلك وهم في موقف حرج الآن، وذلك لأن الفكرة القائلة بأن الأجور ترتفع بسرعة كبيرة هي فكرة "سامة سياسياً"، كما تصف ذلك المجلة.
على سبيل المثال، من الواضح أن نمو الأجور السنوي في أمريكا البالغ 5.7٪ غير متوافق مع هدف التضخم البالغ 2٪ للاحتياطي الفيدرالي. مع ذلك، يحتفل الرئيس جو بايدن بزيادة الأجور بينما يلقي الديمقراطيون واليساريون باللوم على جشع الشركات في ارتفاع الأسعار، هناك الكثير من التشويش والجدل المماثل في أماكن أخرى أيضاً مثل تركيا وبريطانيا ودول أوروبية أخرى.
وتقول الحكومة البريطانية إنها لا تدعم دعوة أندرو بيلي، محافظ بنك إنجلترا، للعمال لكبح مطالبهم المتعلقة بالأجور، فيما تقول كريستين لاغارد، رئيسة البنك المركزي الأوروبي، إنها تأمل أن ترى زيادة في الأجور في أوروبا، حتى مع تحذير زملائها من مخاطر زيادة الأجور المفرطة.
كيف تبتلع دوامة ارتفاع الأسعار طبقة العمال؟
غالباً ما يكون العمال أول من تبتلعهم دوامة الأجور وارتفاع الأسعار، حيث يؤدي ارتفاع الأجور إلى ارتفاع التكاليف بالنسبة للشركات، والتي بدورها ترفع الأسعار لحماية الأرباح، وبشكل عام، تؤذي مستويات التضخم المرتفعة طبقة العمال.
على مدار العام الماضي، كان التضخم أعلى من نمو الأجور في كل دولة من دول مجموعة السبع الصناعية، على الرغم من النقص الواسع في العمالة. فيما تعد النقابات اليوم أقل قوة بكثير مما كانت عليه في السبعينيات على مستوى العالم، وعادة ما يجد الخبراء أن ارتفاع الأسعار يؤدي إلى أزمة في الأجور، وليس العكس.
حتى في سبعينيات القرن الماضي، عانى العديد من العمال من دوامة الأجور وارتفاع الأسعار. في ذلك العقد، نمت الأجور الأمريكية بنصف سرعة إنتاجية العمال، تماماً كما زادت الأجور اليوم لمواكبة هذه المكاسب، بحسب الإيكونومست.
ما أسباب ارتفاع التضخم حول العالم؟
على مدى العامين الماضيين يبدو أن جميع أسباب التضخم قد تجمعت بصورة غير مسبوقة منذ عقود، ففيروس كورونا تحول إلى أسوأ كارثة صحية تضرب البشرية منذ أكثر من قرن، والصراعات حول العالم لا تتوقف، بل تزداد اشتعالاً، من تايوان إلى كوريا بشطريها إلى أوكرانيا والشرق الأوسط، وبالطبع الولايات المتحدة طرف أصيل في جميع تلك الصراعات.
ويعود سبب التضخم المرتفع في أوروبا إلى ارتفاع أسعار الطاقة، ولكن في أمريكا كان ذلك نتيجة لتسونامي الإنفاق، نتيجة ضوابط التحفيز وانخفاض أسعار الفائدة، مما يفوق قدرة الاقتصاد على توسيع الإنتاج. ورفعت الشركات الأسعار ليس لتمرير التكاليف ولكن لكبح الطلب، مما أدى إلى ارتفاع هوامش الربح.
وفي أمريكا، عاد التضخم الذي كان كامناً في الظلِّ لعقودٍ من الزمن، ولا تزال تقلُّبات الأسعار تشكِّل خوفاً حقيقياً للعديد من الأمريكيين، ولا سيما أولئك الذين عانوا من التضخُّم الكبير في عهد جيمي كارتر بسبعينيات القرن الماضي.
ورصدت صحيفة The Guardian البريطانية في 10 فبراير/شباط كيفية تأثير التضخُّم على مستويات المعيشة في بلدانٍ مختلفةٍ من العالم، منها الولايات المتحدة. فعلى مدى سنوات تمكن سكان نيويورك الذين يبحثون عن طعام رخيص من الاعتماد على شريحة بيتزا بقيمة دولار واحد.
لكن ذلك لن يدوم لوقتٍ طويل مع ارتفاع التضخُّم، حتى شريحة البيتزا الرخيصة تتعرَّض لضغوطٍ، وتفرض الكثير من متاجر البيتزا الشهيرة في المدينة زياداتٍ في الأسعار لمكافحة ارتفاع تكاليف كلِّ شيءٍ، بدءاً من صلصة الطماطم والبيبروني والعمالة وحتى صناديق البيتزا المصنوعة من الورق المُقوَّى.
تستمر مشكلات سلسلة التوريد إلى جانب الطلب المتزايد في تضخيم أسعار الوقود والإيجار والغذاء والضروريات الأخرى. وبلغ متوسط سعر السيارة المستعملة في الولايات المتحدة 28,205 دولار في نهاية ديسمبر/كانون الأول، وهي المرة الأولى التي يتجاوز فيها متوسط سعر السيارة المستعملة 28 ألف دولار.
أثَّر ارتفاع الأسعار على الجميع، لكن التضخُّم أصاب الأمريكيين الفقراء أكثر من غيرهم. ينفق الخمس الأقل دخلاً من الأمريكيين بالفعل 83% من دخلهم على الإسكان، وفقاً لمسح إنفاق المستهلك التابع لوزارة العمل، ولا يمكنهم تحمُّل الزيادات في الإيجارات، ناهيك عن الوقود والغذاء والضروريات الأخرى.
يستعد بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الآن لرفع أسعار الفائدة على أمل ترويض الأسعار المرتفعة، ولكن مع ارتفاع التضخم في جميع أنحاء العالم يبقى أن نرى متى سينجح البنك المركزي، أو ما إذا كان سينجح.
كيف ينعكس التضخم على المنطقة العربية؟
الشهر الماضي، قال تقرير لموقع Bloomberg الأمريكي إن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مثل السودان واليمن ولبنان وتونس ومصر، هي الأكثر عرضة لخطر ارتفاع الأسعار خلال العام الحالي، نظراً لوارداتها من القمح والسكر.
الموقع الأمريكي أشار إلى أنه منذ نهاية عام 2019، ارتفع مقياس الأمم المتحدة لأسعار المواد الغذائية بنحو الثلث، مدفوعاً بعوامل تتراوح بين سوء الأحوال الجوية، وارتفاع تكاليف الشحن، ونقص العمال، وأزمة الطاقة، وارتفاع تكاليف الأسمدة؛ مما يعني أنَّ ارتفاع الأسعار يمكن أن يستمر هذا العام أيضاً.
فيما أوضح أن بعض هذه البلدان تشهد بالفعل انقلابات وتغييرات في النظام وحرباً أهلية وانهياراً اقتصادياً. ويمكن أن يؤدي ارتفاع الأسعار للمواد الغذائية إلى تفاقم الاضطرابات.
وبلغت أسعار الطعام العالمية أعلى معدلٍ لها منذ أكثر من 6 سنوات، مدفوعةً بارتفاع تكاليف كل شيءٍ من فول الصويا إلى زيت النخيل؛ بسبب ارتفاع الطلب من الصين، وضعف سلاسل التوريد، والطقس السيئ، حسبما ورد في تقرير لوكالة بلومبيرغ.
إذ أظهرت أحدث البيانات الصادرة عن مؤشر أسعار الغذاء لمنظمة الأغذية والزراعة (الفاو) ارتفاع الأسعار بالنسبة للمواد الغذائية على المستوى العالمي في يناير/كانون الثاني 2022 إلى أعلى مستوى لها منذ يوليو/تموز 2014.
بينما تحذر بعض البنوك من أن العالم مقبلٌ على ما يُسمى "دورةً كبرى" للسلع، (حيث ترتفع أسعار السلع وتستمر في الارتفاع لفترةٍ طويلةٍ قبل أن تبدأ في الاعتدال مرةً أخرى بفعل آلية تعديل السوق). كما أن التضخم، وانخفاض أسعار العملات المحلية- في بعض الأماكن- يشكلان ضغطاً آخر على المستهلك المتضرر بالفعل من الركود الذي أحدثته الجائحة.
وخلال عام 2021 اندلعت احتجاجاتٌ في السودان، وأسهم القلق حيال أسعار الطعام في إشعال الأزمات في لبنان وأيضاً في تونس، مهد الربيع العربي.
كما هو حال كل شيءٍ، فإن التأثير ليس متكافئاً. في دول الغرب الغنية قد يكون التأثير محدوداً بتحول العميل من منتجات شركةٍ إلى أخرى. أما في البلاد الأفقر، فقد يبلغ الأمر الاختيار بين إرسال طفلٍ للمدرسة أو إخراجه للعمل وكسب المال.