منذ القرن التاسع عشر، لم تكن فرنسا غريبة على منطقة الساحل الإفريقي، إذ استعمرت جزءاً كبيراً من الشريط الإفريقي شبه الجاف في ذلك الحين، وفي عام 2013 عاد الجنود الفرنسيون للبلاد، وذلك بعد سيطرة الانفصاليين و"الجهاديين" الشماليين المسلحين على مساحات شاسعة من مالي واندفاعهم نحو العاصمة باماكو، وطلب الحكومة المالية المساعدة.
انقضت الطائرات الحربية الفرنسية وأوقفت تقدم المسلحين وشبكات التهريب العابرة للصحراء، وبعد فترة وجيزة، سار فرانسوا هولاند، الرئيس الفرنسي آنذاك، منتصراً في شوارع مدينة تمبكتو المحررة حديثاً بينما كان السكان المحليون يرقصون ويلوحون بالألوان الثلاثة (العلم الفرنسي)، لكن القصة لم تتوقف عند ذلك.
9 سنوات على انتشار فرنسا في الساحل الإفريقي
يقول تقرير لمجلة Economist البريطانية إن فرنسا استغلت هذا التدخل وحولته إلى جهد لـ"مكافحة الإرهاب" أطلق عليه "عملية برخان". كان الهدف بحسب باريس هو منع "الجهاديين" في بوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر من إعادة تجميع صفوفهم في مناطق نائية، حيث يمكنهم شن هجمات في غرب إفريقيا، وربما حتى أوروبا، كما يضيف مسؤولون فرنسيون في بعض الأحيان.
لكن فرنسا لم تحقق الهدف الرئيسي من تلك العملية، وهو القضاء على الجماعات المسلحة، في موقف مشابه كثيراً للحرب التي شنتها الولايات المتحدة في أفغانستان قبل 20 عاماً في إطار ما سمته واشنطن "الحرب على الإرهاب".
بدأت عملية برخان بحوالي 3000 جندي فرنسي مدعومين بست طائرات مقاتلة و20 طائرة هليكوبتر، من بين مركبات دعم أخرى، تعمل انطلاقاً من قواعد دائمة في تشاد ومالي والنيجر. فيما بعد تحدثت الحكومة الفرنسية عن الحاجة إلى التنمية الاقتصادية و"عودة الدولة".
وعلى مدار سنوات نمت عملية برخان بشكل مطرد، في عام 2020، سأل الرئيس الفرنسي المحبط إيمانويل ماكرون قادة المنطقة عما إذا كانوا يريدون قوات فرنسية هناك، وذهب لزيادة عدد القوات الفرنسية من 4500 إلى 5100.
كان هؤلاء مدعومين بما يقارب 1000 جندي وطائرة بدون طيار أمريكية. كما يقوم حوالي 15000 من جنود "الخوذ الزرق" التابعين للأمم المتحدة بدوريات في مالي أيضاً.
عملت فرنسا مع الجيوش الإقليمية (التي عانت من خسائر فادحة) وحاولت "إضفاء الطابع الأوروبي" على هذا الجهد. أطلق الاتحاد الأوروبي برنامجاً لتدريب الجيش المالي، وأرسل حلفاء فرنسا، بما في ذلك جمهورية التشيك وإستونيا، مئات من الكوماندوز إلى مهمة للقوات الخاصة تسمى "تاكوبا".
فشل المهمة الفرنسية وانحدار الساحل نحو مزيد من عدم الاستقرار
مع ذلك، فإن الجماعات الجهادية، التي تستغل الغضب المحلي من المذابح التي ارتكبتها الجيوش الوطنية، انتشرت وأصبحت أقوى. إحداها "جماعة نصر الإسلام والمسلمين"، المرتبطة بالقاعدة كما تقول المجلة البريطانية. وفي عام 2016، بدأت جماعة جديدة هي "تنظيم الدولة الإسلامية" في الصحراء الكبرى في شن هجمات.
تباهت فرنسا مراراً بقتل "الجهاديين"، بمن فيهم كبار القادة. ومع ذلك، فإن هذا التباهي لم يوقف تقدم المسلحين الدموي. في عام 2016 قتل حوالي 800 شخص في الصراع. وفي عام 2020 قُتل أكثر من 6000 شخص. وقفز عدد الأشخاص الذين أجبروا على ترك منازلهم في بوركينا فاسو وتشاد ومالي والنيجر من حوالي نصف مليون في عام 2016 إلى حوالي 3.5 مليون اليوم.
وانتشر الجهاديون من الشمال إلى وسط مالي والنيجر وأجزاء من بوركينا فاسو. الآن هم يهددون الدول الساحلية مثل بنين وساحل العاج أيضاً. وأدى العنف إلى زعزعة الاستقرار السياسي في المنطقة أيضاً، حيث فشلت الحكومات منذ فترة طويلة في توفير الخدمات الأساسية، ناهيك عن الأمن للمناطق النائية.
في الوقت نفسه، انتشرت عدوى الانقلاب العسكرية، في مالي في أغسطس/آب 2020، أطاح الجنود بالحكومة المنتخبة، وبعد أن نصبوا عدداً قليلاً من الشخصيات المدنية كجزء من حكومتهم، سرعان ما اعتقلهم المجلس العسكري في انقلاب ثان في مايو/أيار 2021. وفي يناير/كانون الثاني 2022، حذا الجنود في بوركينا فاسو حذوهم، زعم كلاهما أن أفعالهما كانت ضرورية "لمحاربة الجهاديين بشكل أفضل".
الغضب الشعبي في دول الساحل يتصاعد ضد فرنسا
مع تدهور الوضع الأمني، تراجعت شعبية فرنسا هناك وبدأت الاحتجاجات الشعبية تطالب بخروجها بوصف انتشارها شكلاً من أشكال الاستعمار القديم. في عام 2021، كان ثلث الماليين فقط راضين بأي شكل من الأشكال عن عملية برخان. ومن بين هؤلاء المنزعجين، اعتقد 45٪ أن الفرنسيين كانوا متحالفين مع الإرهابيين والانفصاليين.
الغضب الشعبي من الجنود الفرنسيين، جعلهم هدفاً للمجلس العسكري في مالي. بعد أن أعلن ماكرون في تموز/يوليو 2021 أن فرنسا تريد خفض عدد القوات في المنطقة إلى النصف، ردت مالي بإحضار مجموعة فاغنر، المرتزقة الروس الذين لديهم سجل مروع في دول عدة، بتكلفة تبلغ 10 ملايين دولار شهرياً، كما تقول التقارير الغربية. وطرد المجلس العسكري في مالي مؤخراً حوالي 100 جندي من القوات الخاصة الدنماركية، مدعيا أنه لا يوجد اتفاق بشأن انتشارهم، وبعد فترة وجيزة، طردوا أيضاً السفير الفرنسي.
وبدلاً من التلويح بالألوان الثلاثة، يحرق البعض اليوم في مالي وبوركينا فاسو العلم الفرنسي ويضرم المتظاهرون النار في صور ماكرون. سيجتمع الرئيس الفرنسي وشخصيات بارزة أخرى في أوروبا هذا الأسبوع مع نظرائهم في منطقة الساحل للنظر في انسحاب محتمل من مالي. وماذا تفعل فرنسا بعد ذلك في المنطقة؟ ستكون نقطة البداية الصادقة هي الاعتراف بأنه على الرغم من أن فرنسا منعت باماكو من السقوط في عام 2013، فإنها فشلت في احتواء تمرد متزايد وخسرت "معركة السيطرة على القلوب والعقول"، كما تقول الإيكونومست.
إنهاء "عملية برخان" بشكل نهائي
وترتفع وتيرة المعلومات والتقارير التي تتحدث عن سعي فرنسي لمغادرة مالي على خلفية التوتر مع المجلس العسكري الحاكم، وآخرها ما كشفته مجلة "Africa Intelligence" الاستخباري، أن الرئيس الفرنسي ماكرون من المتوقع أن يعلن عن نهاية عملية برخان وسحب القوات الفرنسية بشكل نهائي الأسبوع المقبل، خلال القمة الأوروبية-الإفريقية.
ومنذ وصول العقيد أسيمي غويتا إلى السلطة في مالي، عبر انقلاب عسكري، ازداد التوتر بين باماكو وباريس، وتصاعدت التظاهرات العدائية المناهضة للوجود الفرنسي في البلاد. كما مثّلت عملية طرد السفير الفرنسي في مالي أخيراً نقطة تحوُّل في العلاقة بين البلدين، ليبدأ فصل مضطرب في غاية الصعوبة بين فرنسا ومستعمراتها الإفريقية السابقة.
ويقتصر الوجود العسكري الفرنسي في مالي على 2500 جندي، لا يزالون منتشرين في ثلاث قواعد عسكرية في البلاد، ازدادت مهمتهم صعوبة مع الانقلابين المتعاقبين، بالإضافة إلى مزاحمة مرتزقة مجموعة فاغنر الروسية لهم، فضلاً عن الهجوم الأخير الذي تعرضت له إحدى قواعدهم في جاو، وأدت إلى مقتل جندي فرنسي وسقوط عشرات الجرحى.
بعد فرنسا.. هل تقع روسيا في فخ رمال الساحل؟
تمثل روسيا أحد البدائل المطروحة أمام دول الساحل لملء الفراغ الفرنسي، خاصة أن العديد من المظاهرات التي خرجت للتنديد بالتواجد الفرنسي في مالي والنيجر كانت تنادي بالتحالف مع روسيا.
فروسيا وريثة الاتحاد السوفييتي، تحقق في السنوات الأخيرة عدة اختراقات في مناطق النفوذ الفرنسي، من بوابة التعاون العسكري وتوريد السلاح.
ولطالما وقف الاتحاد السوفييتي إلى جانب شعوب المنطقة في التحرر من الاستعمار الفرنسي، ودعمها في مرحلة الاستقلال، قبل أن يتراجع هذا النفوذ مع نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي.
وتسعى روسيا لاستثمار الفشل الفرنسي في الساحل على غرار ما فعلته في جمهورية إفريقيا الوسطى، لكنها قد تكرر نفس الأخطاء الفرنسية، ما يؤدي إلى استنزافها هي الأخرى. فقد تبتلع رمال الساحل الروس كما ابتلعت الفرنسيين، وموسكو لديها تجربة سيئة في أفغانستان عندما احتلتها ما بين 1979 و1989.
وعمل الأمريكيون على استنزاف السوفييت في أفغانستان طيلة 10 سنوات، حتى أُنهكوا اقتصادياً وبشرياً وعسكرياً، واضطروا للانسحاب، وبعدها وفي أقل من 3 أعوام انهار الاتحاد السوفييتي وتفكك.
بعد عقد آخر، وقع الأمريكيون في نفس الخطأ الذي أسقط الاتحاد السوفييتي وقبلهم البريطانيون والهنود، فاحتلوا أفغانستان، ودخلوا في حرب استنزاف طيلة 21 عاماً، خسروا خلالها ما بين 800 مليار و3 تريليونات دولار،، ليقرروا أخيراً الانسحاب منها دون أن يتمكنوا من القضاء على عدوهم (حركة طالبان).