يبدو أن مصر تعيش محنة في منطقة القرن الإفريقي التي ينبع منها نهر النيل حيث لا يوجد للقاهرة بها سوى نفوذ ضئيل، الأمر الذي دفعها لمحاولة تشكيل سلسلة تحالفات في المنطقة، إضافة إلى محاولة اكتساب القوى الدولية والإقليمية لصفها في نزاعها والسودان مع إثيوبيا حول مياه النيل.
ومكّنت قمة الاتحاد الإفريقي التي انعقدت في أوائل فبراير/شباط رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد من تمرير أجندته "حلول إفريقية لمشكلات إفريقية". وهذه الأجندة سمحت له بانتقاد "التدخل" الغربي في أزمة تيغراي، ودراسة أي محاولة للتوصل إلى تفاهم مع مصر بخصوص مشروع سد النهضة، الذي تقرر بدء ملئه الثاني الصيف المقبل، من استفادة الجميع.
ويبدو أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يمارس لعبة مختلفة تماماً. فعوضاً عن أن يشارك في قمة الاتحاد الإفريقي في أديس أبابا في 5 فبراير/شباط، والتي على الأرجح لم يحضرها بسبب العلاقات السيئة مع أديس أبابا والوضع الأمني في إثيوبيا، فضَّل مرافقة الأمير محمد بن زايد آل نهيان، حليفه الإقليمي والمالي، لحضور حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في 4 فبراير/شباط في بكين، الشريكة الرئيسية لكلا البلدين.
وتحاول الإمارات منذ بداية هذا العام حمل مصر والسودان وإثيوبيا على قبول "عرض" دبلوماسي ومالي يضع حداً للاشتباكات في تيغراي ويمهِّد الطريق لتسوية بين أديس أبابا والقاهرة بشأن سد النهضة، حسبما ورد في تقرير لموقع Africa Intelligence الفرنسي.
وفي حين أن الخرطوم والقاهرة ترحبان بمبادرة محمد بن زايد الدبلوماسية، نظراً لاعتماد البلدين على الدعم المالي الإماراتي، تبدو إثيوبيا أكثر تحفظاً، لدرجة أن ولي عهد أبوظبي يسعى للاستعانة بخصمه التركي سابقاً للضغط على أديس أبابا.
اختبرت الجغرافيا مصر اختباراً عسيراً، فمصر تقع في الشرق الأوسط، وارتبطت تاريخياً دوماً بمنطقة المشرق العربي، ولكن منابع حياتها المتمثلة في نهر النيل توجد في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا، فمن القرن الإفريقي، وهضبة البحيرات تخرج مياه النيل، ومن مضيق باب المندب تأتي الملاحة الحيوية لقناة السويس.
وبينما اهتمت الأسرة العلوية بشكل كبير بالسودان ومنطقة القرن الإفريقي، تراجع الاهتمام المصري بهذه المنطقة في العهد الجمهوري، ولقد هبط هذا الاهتمام لأدنى درجاته في عهد الرئيس حسني مبارك، ففي عهده صعدت إثيوبيا من بلد تمزقه الحروب إلى دولة قوية لها طموحات إمبريالية، حتى إنها غزت الصومال وسط تأييد أو صمت من نظام مبارك، وكأنه جعل سياسته الأساسية مع إثيوبيا هي محاولة إرضائها.
محنة مصر في القرن الإفريقي بدأت في عهد عبد الناصر
على عكس الشائع، فإن محنة مصر في القرن الإفريقي بدأت في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وليس خلفه حسني مبارك.
اتبع عبد الناصر سياسة موحدة تجاه إفريقيا، وهي سياسة يمكن وصفها بالبناء والتي جاءت بنتائج إيجابية جداً لمصر والعالم العربي، إلا فيما يتعلق بالقرن الإفريقي.
قامت سياسة عبد الناصر على مبادئ محاربة الاستعمار والاشتراكية والتضامن الإفريقي دون تمييز على أساس ديني، وذلك عبر دعم مصر لحركات الاستقلال الإفريقية، ودعم القاهرة للدول الإفريقية المستقلة حديثاً، مادياً وفنيا، وسياسياً وهي سياسة أعطت مصر وزناً كقائدة للتحرر الإفريقي، وخلقت الجمعية الإفريقية بالقاهرة التي كانت تستضيف قادة حركات التحرر في القارة وهم مجرد مناضلين ليصبح بعضهم زعماء لبلادهم وهم يدينون بالفضل للقاهرة الناصرية عاصمة التحرر، وليصبح كثير منهم متعاطفين مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية تحرر وطني.
لم تميز هذه السياسة بين الدول والشعوب الإفريقية على أساس الدين، وكان هذا أمراً إيجابياً بالنسبة للقاهرة في غرب إفريقيا، حيث يمثل المسلمون أغلبية، ولا توجد مشكلة كبيرة بين المسلمين والمسيحيين باستثناء نيجيريا، وجنوب القارة، الذي يخلو تقريباً من المسلمين، أعطى لمصر نفوذاً بالمنطقة، ولكن في شرق إفريقيا وبالأخص منطقة القرن الإفريقي، كان الأمر مختلفاً حيث كان يوجد تاريخياً صراع بين المسلمين والمسيحيين وبين الشعوب العربية والحامية وبين الشعوب الإفريقية، ونتيجة للسياسة المصرية التي تجاهلت هذا البعد تسامحت مصر مع عملية ابتلاع تجانيقا التي يسيطر عليها المسيحيون الأفارقة لسلطنة زنجبار العربية المسلمة.
وفي القرن الإفريقي، مالت مصر إلى تعظيم دور إثيوبيا الإمبراطورية المسيحية رغم الحروب التاريخية بينها وبين الصومال وابتلاعها لشعوب إسلامية مثل الولاية الصومالية والعفار وإريتريا، والأورومو (أغلبيتهم مسلمون مع أقلية مسيحية كبيرة).
وفي هذا الصدد كانت القاهرة وراء جعل أديس أبابا مقراً لمنظمة الوحدة الإفريقية التي تحولت لاحقاً للاتحاد الإفريقي، وأفضى صعود إثيوبيا إلى إضعاف موقف الصومال والسودان منافسي أديس أبابا التاريخيين وتعزيز هيمنة إثيوبيا على إريتريا ذات الغالبية المسلمة قبل أن تستقل عن أديس أباب في السبعينيات.
بدا هذا النهج نابعاً من التوجهات الاشتراكية لنظام عبد الناصر، وملائماً لروح ذلك العصر، ولكن على المدى البعيد لم يكن ذلك مضراً فقط لشعوب القرن الإفريقي المسلمة التي عانت من الظلم الإثيوبي ولكنه مضر أيضاً للمصالح المصرية بعيدة المدى.
فسياسة مصر منذ ذلك الوقت والتي كانت تعلم حساسية موضوع منابع مياه النيل خاصة المنابع الحبشية قامت على استرضاء إثيوبيا، وهو استرضاء كان دوماً محدود المدى الزمني والتأثير.
فسرعان ما صعد حديث عن تنمر إثيوبي بدعم سوفييتي على مصر في سبعينيات القرن العشرين خلال عهد الرئيس الراحل أنور السادات بعد تحوله من التحالف مع السوفييت للأمريكيين.
وأدت هذه السياسة لغياب أي دور مصري في دعم دول وشعوب القرن الإفريقي المسلمة التي هي حليف طبيعي للقاهرة في مواجهة أديس أبابا، مقابل محاولات لا جدوى منها لاسترضاء إثيوبيا على أساس أن هذا الاسترضاء يفترض أنه سيمنعها من التلاعب بمصالح مصر المائية.
وهكذا لم تدعم مصر سوى لفترة ضئيلة في عهد السادات وبدفع أمريكي بالأساس، مطالب الصومال في استعادة المناطق الصومالية التي احتلتها أديس أبابا، وسرعان ما تخلت عن هذا الدعم بطلب أمريكي ليهزم الصومال في حربه مع إثيوبيا في السبعينيات.
كما لم يكن لمصر تأثير يذكر في حركة الاستقلال الإريترية التي سيطر عليها المسيحيون الإريتريون رغم أن أغلبية سكان البلاد من المسلمين.
وفي عهد مبارك ترسخت السياسة الاسترضائية لإثيوبيا، فمنحت القاهرة مباركتها للغزو الإثيوبي للصومال الذي أطاح بحكم اتحاد المحاكم الإسلامية في البلاد الذي كان حكماً إسلامياً معتدلاً فرض قدراً من الأمن في البلاد، وكانت توجهاته الإسلامية المعتدلة بقيادة شيخ شريف أحمد تجعله قريباً من مصر بأزهرها العتيق وبوجهها الإسلامي المعتدل.
كما تركت مصر إريتريا تستولي على جزر حنيش اليمنية في تسعينيات القرن العشرين، إضافة إلى تخليها عن مهمة حماية جزيرة ميون الاستراتيجية في مدخل البحر الأحمر التي كانت تقوم بها منذ حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973.
وسرعان ما أثبتت إثيوبيا نفسها عدم وجاهة هذه السياسة الاسترضائية فلم تكتفِ بتوسيع نفوذها في القرن الإفريقي عبر الهيمنة على الصومال المضطرب ومناكفة السودان وتهميش إريتريا والاحتفاظ بنفوذ هائل في جيبوتي، بل استغلت الاضطرابات بعد ثورة يناير/كانون الثاني 2011 في مصر، لتطلق مشروع سد النهضة، ولم تفلح الدبلوماسية الشعبية الساذجة التي قادها ليبراليون وناصريون مصريون في وقف المشروع، بقدر ما أخرت رد الفعل المصري تجاهه.
والنتيجة، نفوذ مصر في القرن الإفريقي أقل من نفوذ قوى إقليمية بعيدة عن المنطقة وليس لديها مصالح حيوية مثل الإمارات والسعودية وقطر وتركيا وإسرائيل.
الرهان على إريتريا تفشله أزمة تيغراي، وغياب عن الصومال
لفترة من الفترات بدا أن مصر تراهن على إريتريا خصم أديس أبابا اللدود والصلب في سياستها في القرن الإفريقي، بدأ هذا على استحياء في عهد مبارك، ثم تبلور أكثر في عهد السيسي في ظل نفوذ حليفته الإمارات في أسمرة الذي وصل لتأسيس قاعدة عسكرية إماراتية هناك.
ولكن هذا الرهان سرعان ما فشل إثر تحالف رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي في مواجهة عدوهم المشترك جبهة تحرير تيغراي التي كانت تحكم إثيوبيا في السابق وتمردت على حكم آبي أحمد.
ومع ذلك لم تستغل مصر هذا التطور، ولم تسارع لدعم التيغراي، في استمرار لسياسة الاسترضاء غير ذات الجدوى لإثيوبيا.
وفي الصومال خصم أديس أبابا التاريخي، فإن النفوذ المصري محدود أو غير موجود، مقابل نفوذ إثيوبي سابق ما زال قائماً ونفوذ متصاعد لقطر وتركيا، وكذلك نفوذ إماراتي في جمهورية أرض الصومال الإنفصالية، وهو نفوذ يبدو بدون فائدة لمصر نظراً لتحالف أبوظبي مع إثيوبيا من ناحية ولأن أرض الصومال لديها علاقات وثيقة بدورها مع أديس أبابا.
محاولة مصرية لإقامة تحالف في القرن الإفريقي تبدأ بجيبوتي
ويبدو أن الرئيس المصري، المؤيد رسمياً لـ"العرض" الإماراتي، للتسوية مع أديس أبابا بدأ يحاول أن ينسج استراتيجية لاحتواء إثيوبيا بدأها منذ فترة واكتسبت زخماً منذ العام الماضي والتي تهدف إلى تحويل جميع جيران أديس أبابا إلى حلفاء له.
فالسودان، بعد انقلاب الجنرال عبد الفتاح البرهان في أكتوبر/تشرين الأول، يقف بثبات مع السياسة المصرية، وتُبذل محاولات حثيثة للتودد لجيبوتي. إذ زار السيسي البلاد في يونيو/حزيران (17/6/2021)، وبعد عودته من بكين استقبل رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيلي، في القاهرة يوم 7 فبراير/شباط. واقترح من جديد، فضلاً عن الشراكة العسكرية التي يتحدث عنها منذ عام، مشاريع مختلفة للوجستيات وتطوير الموانئ.
والعلاقة بين القاهرة وجيبوتي تدعمها حقيقة أن وزير خارجية جيبوتي المخضرم محمود علي يوسف كان سفيراً سابقاً في مصر. والسفير الحالي في سفارة جيبوتي في القاهرة، أحمد علي بري، هو مدير الحملة السابق للرئيس الجيبوتي. ولكن رغم جهود السيسي الدؤوبة، فقد اقتصرت علاقات الرئيس الجيبوتي مع القاهرة على عدد محدود من المبادرات الدبلوماسية. فقد عارض كلا البلدين، على سبيل المثال، بشدة دخول إسرائيل بصفة مراقب في الاتحاد الإفريقي.
ويدرك الرئيس الجيبوتي أن التحول نحو التحالف مع مصر ستكون له عواقب وخيمة على العلاقات مع إثيوبيا، العميل الرئيسي لموانئ جيبوتي. وخلال مأدبة عشاء لرؤساء الدول الذين شاركوا في قمة الاتحاد الإفريقي، شوهد جيلي وآبي أمام الكاميرات برفقة بعضهما فيما بدا محاولة لدحر الشائعات المستمرة منذ أكثر من عامين عن العلاقات الفاترة بين الزعيمين.
وها هي تشمل أوغندا ورواندا وبوروندي
ولكن سياسة الاحتواء لإثيوبيا من قبل القاهرة توسعت لتشمل دول حوض النيل، ومنطقة شرق إفريقيا برمتها ويساعدها على ذلك سياسة الاستقواء الإثيوبية.
وفي هذا الإطار، وقعت مصر اتفاقاً لتبادل المعلومات العسكرية مع أوغندا، في أبريل/نيسان 2021، وأعقبه توقيع بروتوكول تعاون عسكري مع بوروندي، وهما من بين 11 دولة تقع على حوض نهر النيل.
وارتبط الاتفاق بصورة مباشرة بنهر النيل، حيث نقل البيان الأوغندي عن اللواء سامح الدجوي- الذي ترأس وفد المخابرات المصرية إلى كمبالا- قوله إن بلاده وأوغندا تتقاسمان مياه النيل، وأن ما يؤثر على الأوغنديين يؤثر بشكل أو بآخر على مصر.
وبالتزامن مع ذلك أعلن الجيش المصري توقيع مصر وبوروندي بروتوكول تعاون عسكري يتضمن التعاون في مجالات التدريب والتأهيل بما يتيح تبادل الخبرات بين الجانبين.
ويعد الاتفاقان السابقان ثالث توقيع مماثل لمصر خلال شهرين؛ وذلك بعد توقيع القاهرة والخرطوم في مارس/آذار 2021 اتفاقية تعاون عسكري، إضافة إلى تنفيذ البلدين مناورات جوية مشتركة، وتبادل زيارات رفيعة، في وقت كان قد تصاعد فيه حديث المسؤولين المصريين عن وصول المفاوضات مع أديس أبابا إلى طرق مسدودة، وتحذيرات من نشوب صراع مسلح بسبب السد الإثيوبي.
الكونغو.. الموقف الأكثر تفهماً لمصالح دولتي المصب، ولكن!
من الملاحظ أن مواقف الكونغو تبدو أكثر تفهماً لمصالح دولتي المصب مصر والسودان أكثر من أغلب دول المنابع الأخرى، ويبدو هذا الموقف قديماً وسابقاً في الأزمة الأخيرة وما تبعها من تحركات مصرية.
وهناك علاقات جيدة تاريخياً بين مصر والكونغو، وقد يرجع أحد أسباب ذلك إلى أن الكونغو دولة غنية بموارد المياه، إذ تمتلك ثاني أطول نهر في إفريقيا وهو نهر الكونغو، بل إن هذا النهر أكبر، من حيث كمية المياه التي يحويها من النيل، إذ يعد ثاني نهر في العالم من حيث كمية المياه التي يحملها في مجراه بعد الأمازون، كما أنه أعمق نهر مسجل في العالم.
وقد يكون أحد أسباب مواقف كينشاسا أن بعض منابع نهر الكونغو تبدأ خارج الكونغو الديمقراطية، بشكل يجعلها دولة مصب جزئياً (حتى لو كانت معظم منابعه من داخل البلاد).
وتظهر العلاقات الجيدة نسبياً بين القاهرة وكينشاسا في المساعدات التي وجهتها مصر للكونغو إضافة إلى الحديث الدائم عن مشروعات مصرية خاصة بنهر الكونغو، من ضمنها ربط الكونغو بنهر النيل، والذي نفته القاهرة مؤخراً.
ولكن تظل الكونغو دولة غير منخرطة بقوة في أحداث القرن الإفريقي، وهي رغم مواردها الهائلة، دولة خارجة من أزمات وحروب أهلية، بحيث كانت تستحق لفترةٍ وصف "رجل إفريقيا المريض".
وهي ليست لديها حدود مباشرة مع إثيوبيا، ومن ثم فإن تأثير مواقفها معنوي، خصوصاً مع توليها رئاسة الاتحاد الإفريقي.
جنوب السودان: ساحة منافسة بين مصر وإثيوبيا
رغم العلاقات المصرية السودانية التاريخية، فإن القاهرة احتفظت بعلاقات مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت تقود تمرد جنوب السودان ضد الخرطوم بهدف نيل حق تقرير المصير، والذي انتهى باتفاق سلام أدى إلى انفصال الجنوب.
وزادت هذه العلاقة بين القاهرة وجوبا تحسناً خلال فترة توتر الأجواء بين القاهرة والخرطوم، بسبب التوجه الإسلامي لنظام البشير الترابي، خاصة بعد اتهام القاهرة لنظام البشير بالتورط في محاولة اغتيال الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، حيث أفادت تقارير بدعم القاهرة للحركة في مواجهة السودان.
وفي الوقت ذاته، كانت الجبهة الشعبية لتحرير السودان لديها علاقات تاريخية مع إثيوبيا.
وانعكس ذلك في تقلُّب مواقف جنوب السودان بأزمة سد النهضة.
ويمكن القول إن جنوب السودان محور لتنافس مصري-إثيوبي قديم عززه نزاع "سد النهضة".
وبين القاهرة وجوبا تعاون واسع في المجالات كافة، حيث أخذت مصر على عاتقها دعم الدولة الوليدة منذ استقلالها عن السودان عام 2011.
كما اعتبرت جوبا مخاوف الخرطوم من الملء الثاني الأحادي لـ"سد النهضة" الإثيوبي، مشروعة، خلال لقاء مشترك بين الجانبين.
يمكن توقُّع أن مواقف جوبا من أزمة سد النهضة قد تكون مرتبطة بشدة بتطورات علاقتها مع السودان، لا سيما مدى تجاوب الخرطوم مع مطالب الحركة الشعبية لتحرير السودان-جناح الشمال فيما يتعلق بحقوق المناطق التي تعتبرها نفسها ممثلة لها، وهي مطالب تشمل العلمانية في الحكم وتقليل المركزية بشكل كبير، وتغيير طابع الجيش السوداني، كما بدا في الاتفاق الإطاري، الذي وقعته الخرطوم مع الحركة الشعبية-جناح الشمال، مؤخراً بوساطة من جنوب السودان.
وفي النهاية يظل جنوب السودان دولة ضعيفة وصغيرة ومنقسمة حصلت على استقلالها للتو، ولديها مشاكل داخلية كبيرة، وبالتالي على الأرجح فإنها تحاول الاستفادة من التلاعب بين الدول الكبيرة في المنطقة، لاسيما مصر وإثيوبيا.
تنزانيا.. من سد نيريري إلى سد النهضة
أفادت تقارير بأن مصر تنفذ مشروع سد ومحطة "جوليوس نيريري"؛ للسيطرة على فيضان نهر روفيجي في تنزانيا، وهي من الدول الكبيرة بشرق إفريقيا، ولا يُعرف هل يتم الأمر بمنحة مصرية كاملة أم جزئية أم أن الشركات المصرية تقوم بدور المقاول فقط.
وأُعلنَ أن الحكومة التنزانية قد قررت في ديسمبر/كانون الأول من عام 2018، إسناد عقد إنشاء المشروع إلى شركات مصرية بتكلفة 2.9 مليار دولار.
وهو يعد مشروعاً قومياً عملاقاً، تنفذه شركتا "المقاولون العرب" و"السويدي إلكتريك"، تحت إشراف الحكومة المصرية، التي وقعت في ديسمبر/كانون الأول عام 2018، عقد المشروع، بحضور رئيس جمهورية تنزانيا الاتحادية، والدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2020، أُعلن أن الشركات المصرية استطاعت إنهاء أعمال الحفر لسد جيوليوس.
ويعد هذا المشروع هو الأول من نوعه لمصر في الخارج، ويقدم المشروع إمكانية للتعاون بين دول المنبع ودول المصب بطريقة تفيد جميع الأطراف.
كينيا.. خلاف مع أديس أبابا حول تيغراي
تعد كينيا من أهم دول حوض النيل ومنطقة شرق إفريقيا، ولها حدود مباشرة مع إثيوبيا.
ولم يُنشر أن مصر وقَّعت اتفاقات مماثلة لاتفاقياتها مع بوروندي وأوغندا مع كينيا، ولكن الكاتب الصحفي الإريتري عبد القادر محمد لفت إلى حدوث تطوير للعلاقات المصرية-الكينية، مستفيدةً من الخلافات الكينية-الإثيوبية متعددة الأوجه.
وأشار إلى أن كينيا كان لها موقف في جلسة لمجلس الأمن حول الوضع بإقليم تيغراي الإثيوبي، وهو موقف كان مخالفاً لرغبات إثيوبيا، حيث كانت نيروبي مسانِدة لعقد الجلسة وللمواقف المنتقدة لأديس أبابا وتعاطيها مع الأزمة السياسية والإنسانية في تيغراي.
التركيز على مناشدة القوى العظمي يبدو بلا جدوى
ورغم أن مصر بدأت تولي دول القرن الإفريقي وحوض النيل، وشرق إفريقيا اهتماماً لافتاً، فإن السياسة المصرية تجاه القرن الإفريقي تظل تقوم بشكل أساسي على محاولة دفع القوى الإقليمية مثل الإمارات والسعودية، والدولية مثل الولايات المتحدة والصين روسيا، إلى الضغط على إثيوبيا لمراعاة مصالح مصر في مياه النيل.
ولكن من الواضح أن هذه السياسة غير ناجحة على الإطلاق، فالصين رغم علاقتها الوثيقة مع مصر، تعتبر إثيوبيا دولة مركزية بالنسبة لها في إفريقيا، حتى إن إثيوبيا توصف بصين إفريقيا، وبكين لديها استثمارات ضخمة هناك، كما أنه يقال إنها تساهم في تمويل سد النهضة، وروسيا كما ظهر من مواقفها عند إثارة أزمة سد النهضة، في مجلس الأمن، مواقفها مائعة إن لم تكن أقرب لإثيوبيا، كما أنها مع الصين تدافع عن قمع آبي أحمد للتيغراي في مواجهة الانتقادات الغربية.
أما الولايات المتحدة، فيبدو موقفها الأقوى، خاصة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي فرض عقوبات على إثيوبيا بعد رفضها التوقيع على الاتفاق الذي جرى التوصل إليه بوساطة أمريكية في واشنطن، ولكن إدارة بايدن سارعت برفع هذه العقوبات، فور توليها السلطة، لتتحول إلى وسيط محايد مستعد لطرح الاقتراحات ونقل الأفكار دون إصدار حكم أو ممارسة ضغوط على المخطئ، وسط مؤشرات على أن إدارة بايدن تخشى الضغط على إثيوبيا؛ حتى لا تذهب أكثر باتجاه الصين أو يؤدي الضغط إلى تفاقم الأزمات الداخلية الإثيوبية القائمة أصلاً.
وبدا واضحاً أن إدارة بايدن لديها إرادة لفرض عقوبات على أديس أبابا في ملف حقوق الإنسان وحرب التيغراي، وليس أزمة سد النهضة.
كيف أضاعت مصر فرصة بناء نفوذ راسخ في القرن الإفريقي؟
يبقى أن الصلات السياسية، سواء مع دول منطقة القرن الإفريقي وحوض النيل، أو مع القوى الإقليمية والمعنية بالمنطقة، ليست كافية للضغط على إثيوبيا لكي تراعي مصالح مصر المائية.
فالسياسة لا تُحسَم بالوعود والاسترضاء كما فعلت القاهرة دوماً مع أديس أبابا أو بطلب وساطة دول لديها مصالحها الخاصة.
بل التأثير المصري في القرن الإفريقي لن يتحقق إلا بوجود على الأرض، وامتلاك أوراق ضغط، من ضمنها إقامة علاقات وثيقة مع الحركات والدول التي لديها تناقضات مع أديس أبابا.
كما أن القاهرة ضيَّعت فرصة لاستغلال تاريخها العربي والإسلامي لدعم الشعوب والحركات المسلمة التي عانت من النير الإثيوبي، وكان من شأن إعلاء هذا الخطاب أن يمنح مصر تأثيراً معنوياً ومادياً على المكونات الإسلامية بالمنطقة لا يقل كثيراً عن تأثير إيران على الطوائف والحركات الشيعية في العالم العربي، وهو نوع من النفوذ تثبت التجربة الإيرانية أنه رخيص التكلفة عظيم التأثير.
ويمكن تخيل لو دعمت مصر الجبهة القومية لتحرير إريتريا، التي كانت تضم مسلمي إريتريا وكانت ذات توجهات عروبية، أو اتحاد المحاكم الإسلامية في الصومال، لكان قد أصبح لها حليف محلي وقوي قرب منابع النيل يلعب نفس ما يلعبه الحوثيون في اليمن وحزب الله في لبنان لصالح إيران.