"أخيراً قد يكون هناك حل ينهي الأزمة النووية الإيرانية"، دبلوماسيون أمريكيون أصبحوا يتبنون هذه الرؤية التفاؤلية، في ظل وصول مفاوضات فيينا لمرحلة حاسمة، ولكن الأمر ليس بهذه البساطة، فقد تشهد الأزمة انقلاباً يعيدها لنقطة الصفر.
ففي عالم احتدم فيه التنافس الجيوسياسي بين القوى الدولية الكبرى بشأن أوكرانيا وتايوان وغيرهما، تمكنت تلك القوى من الاتفاق على تعاونٍ ما في الجهود الدبلوماسية لاحتواء البرنامج النووي الإيراني، فهل ينجح المفاوضون في فيينا في إحياء الاتفاق النووي الذي وقَّعه باراك أوباما عام 2015 وانسحب منه دونالد ترامب بعد ثلاث سنوات؟
جولة المحادثات الأخيرة التي بدأت في 8 فبراير/شباط تبدو حاسمة. ومرجع ذلك، كما يقول أحد المصادر، أن المفاوضات الآن في مرحلة باتت فيها أقرب من أي وقت مضى إلى نهاية حاسمة، إما بتفاهم يحسم هذه النهاية بالاتفاق وإما باختلاف يحسمها بالانهيار، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Economist البريطانية.
الأزمة النووية الإيرانية بين المتفائلين والمتشائمين
المستبشر بالاتفاق بين المسؤولين الأمريكيين يقول إن اتفاقاً "يلوح في الأفق"، وقد تطوعت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي بما يبدو أنه بادرة لإبداء حسن النية، فقالت إن الشركات الصينية والروسية والأوروبية قد تُعفى مرة أخرى من العقوبات على بعض الأنشطة النووية المدنية في إيران، حسب تقرير The Economist.
لكن على الجهة الأخرى، فإن معارضي الاتفاق مع إيران من السياسيين الأمريكيين زادوا حدة التصريح بمعارضتهم، وعلى رأسهم 30 عضواً، أو يزيد على ذلك، من أعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين الذين أنذروا الرئيس الأمريكي جو بايدن بأن أي اتفاق مع إيران يجب أن يُعرض قبل إقراره على مجلس الشيوخ، وإلا واجه "فيضاً من المعارضة والضغوط" التي يُمكنهم حشدها عليه.
وسبق أن ساد تفاؤل شديد بشأن قرب نهاية الأزمة النووية الإيرانية الصيف الماضي، لدرجة أن أحد الدبلوماسيين الأمريكيين ترك ملابسه في فيينا في نهاية جولة مفاوضات إحياء الاتفاق النووي الإيراني، لأنه توقع أنه سيعود سريعاً للجولة النهائية التي ستحسم الاتفاق، ولكن ملابس الرجل ما زالت معلقة في غرفته.
صواريخ الحوثيين تلقي بظلالها على الأزمة
أما العوامل التي تُنذر بانهيار المفاوضات، فهي غير خافية على أحد. فقد كثَّف الحوثيون الذين تدعمهم إيران من هجماتهم بالطائرات المسيرة والصواريخ على الإمارات، وهو ما دفع الولايات المتحدة إلى إرسال سفينة حربية ومقاتلات متقدمة ليس لمساعدة أبوظبي فحسب، بل تحذير إيران ضمناً. كما أن إسرائيل التي تخشى التوصل إلى اتفاق "يضرها"، أخذت تتدرب على توجيه ضربات عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية، وتُزيد تعاونها الأمني مع دول الخليج التي تشاركها الموقف ذاته من إيران.
يعزو المعارضون لخطة العمل الشاملة المشتركة، أو ما يُعرف بالاتفاق النووي، مناهضتهم للاتفاقية إلى أنها وإن كانت حدَّت بشدة من برنامج إيران النووي وعززت عمليات التفتيش مقابل رفع العقوبات الدولية، فإنها في الوقت ذاته تسمح لإيران باستئناف تخصيب اليورانيوم على نطاق واسع بعد 15 عاماً، كما أنها لا تلزم إيران إنهاءَ برنامجها للصواريخ الباليستية ولا تحظر عليها إشعال الصراعات الإقليمية والتدخل فيها.
ترامب فكر في قصف إيران
بعد انسحاب ترامب من الصفقة في عام 2018، سرّعت إيران عملها في تخصيب اليورانيوم، ورفعت نسبة التخصيب إلى 60%، وهو ما يجعلها قاب قوسين أو أدنى من درجة التخصيب المستخدمة في صنع الأسلحة النووية، كما عرقلت عمليات التفتيش التي كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية تُجريها وفقاً للاتفاق. والأهم من ذلك أنها نجحت في تقليص "فترة الاختراق النووي"، أي الفترة التي تحتاج إليها للوصول إلى مستوى تخصيب اليورانيوم اللازم لصنع القنبلة النووية، إلى أقل من شهر، بحسب بعض المزاعم.
تجدر الإشارة إلى أن إيران خالفت العديد من قيود الاتفاق النووي لكنها لا تزال تتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية وتسمح للمفتشين بالدخول في ظل أحد أكثر أنظمة التفتيش النووي صرامة المفروضة على أي دولة.
ولكن ما حدث على الأرض في نطنز، وفي مختبرات الأبحاث الصغيرة في جميع أنحاء إيران، أثار قلق الولايات المتحدة وأوصل الأزمة النووية الإيرانية إلى منعطف خطير، فإيران صعَّدَت من إنتاجها من الوقود النووي على مدار العامين الماضيين، وهي تمتلك الآن وقوداً نووياً أكثر بكثير مِمَّا حازته قبل انسحاب ترامب من الاتفاقية. وفي غضون ذلك، كان ترامب قد أعلن أن إيران ستعود إلى الطاولة وتتوسَّل من أجل صفقةٍ جديدة.
لم يحدث ذلك قط حين كان ترامب في منصبه، وبحلول أواخر عام 2020، وفقاً لتقارير عديدة، كان ترامب يبحث عن خياراتٍ من جانب البنتاغون لقصف المنشآت النووية في إيران.
قاوم البنتاغون هذا الخيار، وحتى وزير الخارجية مايك بومبيو، أكبر الصقور المعادية لإيران في الإدارة السابقة، عارض العمل العسكري.
إذا استُعيدَت الصفقة، يمكن شحن معظم هذا اليورانيوم المُخصَّب حديثاً إلى خارج البلاد، وهو ما حدث عندما تم التوصُّل إلى الاتفاق الأول. وقال المسؤولون إن الأمر الأكثر إثارةً للقلق هو المعرفة العلمية التي تكتسبها إيران بشكلٍ مُطرَد من خلال بناء أجهزة طرد مركزي أكثر تقدُّماً، وتجربة تخصيب اليورانيوم بنسبة 60%، والتي توشك على النسبة المطلوبة لبناء سلاح نووي.
أمريكا تريد الوصول لحل قبل فوات الأوان وإيران قلقة من ترامب
بناء على ذلك، استعجلت الولايات المتحدة دخول المحادثات في مرحلة "الحسم"، لأنها ترى أن الصفقة لن تكون لها قيمة تُذكر إن لم تُبرم في أقرب وقت، وأنه كلما طال أمد المفاوضات، قرُب انتهاء المهلة المتاحة للقيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني بموجب "بنود الانقضاء" والتي يؤذِن انتهاؤها برفع الحظر عن أنشطة النووية الإيرانية التي قد تتحول لسلاح نووي.
على الجانب الآخر، فإن الاتفاق لا يزال يفقد قيمته لدى الإيرانيين أيضاً، فأي رفع للعقوبات عن البلاد قد لا يطول كثيراً، لأن بايدن قد يصبح خارج السلطة في عام 2025، وقد يعود دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية، والواقع أن أي رئيس أمريكي من الجمهوريين سيواجه ضغوطاً هائلة للانسحاب من الصفقة. كما أن المفاوضين الأمريكيين رفضوا مطالب إيران بالحصول على "ضمانات" بعدم إعادة فرض العقوبات في حال استئناف الاتفاق، وقالت الإدارة الأمريكية إنها لا يمكنها إلزام خليفتها بضمانات لإيران، وأقصى ما يمكنها تقديمه هو وعود الالتزام ما حافظت إيران على امتثالها شروط الاتفاق.
أعين طهران على المال
يرى المتفائلون أن هناك احتمالاً راجحاً لإتمام الصفقة وحل الأزمة النووية الإيرانية، مستندين في ذلك إلى تحول الإدارة الأمريكية الحالية عن الموقف المتشدد للإدارة السابقة، كما أن الطرف الإيراني يريد الاتفاق لأنه سيعطي الاقتصاد الإيراني دفعة قوية يحتاج إليها إبراهيم رئيسي في بداية فترته الرئاسية، لتقرير The Economist.
لسنواتٍ من الزمن، كان رئيسي من المدافعين عمَّا يسميه الإيرانيون "اقتصاد المقاومة"، بناءً على الحجة القائلة بأن إيران ليست بحاجةٍ إلى التجارة مع العالم وليست بحاجةٍ إلى الانفتاح. لكن خلال الحملة الانتخابية، بدا أنه يؤيِّد العودة إلى الصفقة النووية، ربما لأنه كان يتعرَّض لضغوطٍ من أجل إظهار أنه- على عكس أسلافه- لديه المهارة التي تمكِّنه من التخلُّص من العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والتي دمَّرَت اقتصاد بلاده.
والآن، أدَّت الأعباء الاقتصادية، التي تفاقمت بسبب جائحة كوفيد-19، ونقص المياه الذي نتج جزئياً عن سوء الإدارة الحكومية، إلى اندلاع احتجاجاتٍ عنيفة.
دول غربية تتأهب لفشل المفاوضات عبر العقوبات
لكن المتشائمين يذهبون بخلاف ذلك إلى أن الاحتمال الأرجح هو فشل المفاوضات وعدم التوصل إلى اتفاق، وعودة الأزمة النووية الإيرانية إلى نقطة الصفر، ويزعمون أن إيران لن تتوقف عن الضغط من أجل مزيد من المكاسب لأنها على يقين بأن أمريكا لن تحاربها.
في ضوء ذلك، أخذت دول غربية تتهيأ لاحتمال انتهاء المفاوضات بالفشل، وهي تناقش الآن بعيداً عن العلن الخطوات التي قد تُتَّخذ لزيادة الضغط الاقتصادي والسياسي على إيران.
وقد تلجأ دولة أوروبية، مثل بريطانيا، إلى التذرع بأحد بنود الاتفاق النووي وتطالب بإعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة على إيران، ومع ذلك فإن هذه العقوبات قد تكون هينة الأثر بالنظر إلى العقوبات الأمريكية القاسية التي فرضها ترامب والتي أدت فعلياً لوقف تصدير معظم النفط الإيراني.
ولكن الصين وروسيا قد تقلبان الطاولة
لكن هذه التحركات الغربية الرامية بشأن فرض عقوبات جديدة على طهران قد تثير حفيظة روسيا والصين، ودونهما لن تكون أي عقوبات اقتصادية على إيران مؤلمة بما يكفي لإجبارها على العودة إلى التفاوض.
كان لروسيا والصين إسهام كبير حتى الآن في حثِّ إيران على التفاوض من أجل إحياء الاتفاق ودفعها لاستئناف التعاون المحدود مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية لتجنب رفع القضية إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وروسيا هي الداعم الذي يمد إيران بكثير من أسلحتها والتكنولوجيا النووية المدنية، أما الصين فهي أكبر مشترٍ لنفطها. وكلا البلدين حريص على استخدام إيران ثقلاً لموازنة النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، لكن أياً منهما لا يريد أن تصبح إيران دولة نووية، ولا أن تشتعل أزمة جديدة في الشرق الأوسط.
ولكن هناك سيناريو أكثر تشاؤماً بالنسبة إلى الأزمة النووية الإيرانية.
هل تفسد الأزمة الأوكرانية مفاوضات فيينا؟
قد يكون للأزمة المتصاعدة في أوكرانيا تأثير في حسابات الأطراف المتفاوضة، ويأمل بعض الدبلوماسيين في أن يكون سعي القوى الكبرى لتقليص جبهات التنافس سبباً في تعجيل التوصل إلى اتفاق مع إيران.
ومع ذلك، يخشى خبراء آخرون أن تكون أطراف التفاوض عقدت عزمها بالفعل على التصلُّب في مواقفها. وقد أصدرت روسيا والصين الأسبوع الماضي بياناً مشتركاً تنتقدان فيه ما تثيره الولايات المتحدة وحلفاؤها من "عداء وتصعيد" بين القوى المتنازعة في جميع أنحاء العالم.
والواقع أن إيران قد تصبح قضية نزاع أخرى على طاولة الأزمة المثارة في أوروبا (الأزمة في أوكرانيا)، والأزمة التي تلوح في الأفق في آسيا (الأزمة بشأن تايوان).