"مشهد مائدة بوتين الطويلة كان مستفزاً للعالم الغربي"، كانت هذه أبرز نتيجة بالنسبة للكثيرين التي خرج بها اجتماع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي عقد حول منضدة غريبة الشكل، تفصل بينهما منافسة طويلة تجعلهما غير قادرين على الاستماع لبعضهما دون أدوات مساعدة.
وأثار جلوس الرئيسين الروسي والفرنسي بهذه الطريقة على جانبي مائدة بوتين ردود أفعال واسعة على شبكات التواصل، واعتبر البعض أن طريقة الجلوس ترمز إلى حجم الفجوة بين روسيا، والغرب، الذي تلعب فرنسا دور الوساطة بينه وبين موسكو بسبب الأزمة الأوكرانية.
والفيديوهات التي نُشرت عن لقاء ماكرون وبوتين أظهرت خلوّ القاعة حتى من المترجمين، واستعان الرئيسان بجهاز الترجمة.
اللقطة الأكثر إثارة للجدل كانت لِما فعله بوتين عقب المؤتمر الصحفي المشترك الذي عقده مع ماكرون.
فأمام عدسات الكاميرات انتهى المؤتمر، وأخبر بوتين نظيرَه الفرنسي بأنه سيخرج من قاعة المؤتمر، وأشار له بيده إلى المكان الذي سيتوجه إليه، لكن بوتين لم ينتظر ماكرون حتى يسيرا معاً، ومشى قبله وترك ماكرون يلحق به، في مشهد بدا مخالفاً للأعراف الدبلوماسية.
ليس ماكرون فقط الذي تعرض لمثل هذا الموقف مع مائدة بوتين
ولم يكن الرئيس الفرنسي الزعيم الوحيد الذي يتعرض لهذا الموقف المحرج مع مائدة بوتين الغريبة.
فلقد بدأ الزعيم الروسي منذ فترة استضافة اجتماعات فردية مع شخصيات أجنبية بارزة على مائدة بيضاوية ضخمة طولها حوالي خمسة أمتار ومثبتة فوق ثلاثة أرجل عريضة، وتستقر في منتصفها باقة زهور وحيدة، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
على أنه ليس الزعيم العالمي الوحيد الذي يستخدم قطع أثاث استعراضية. فزعيم كوريا الشمالية، كيم جونغ أون، يملك خزائن كتب تكفي لمنافسة مكتبة عامة صغيرة.
ومنذ ظهور الجائحة، حرص الرئيس الصيني شي جين بينغ على استضافة اجتماعات فيديو أمام لوحة مهيبة لسور الصين العظيم.
والديكتاتور الليبي السابق معمر القذافي كان يعقد اجتماعات مع القادة الآخرين في خيمة كبيرة وملونة، ربما لاستمالتهم والإشارة إلى أصوله البدوية المتواضعة في الوقت ذاته.
وكان لدى رئيس الوزراء الماليزي السابق مهاتير محمد مكتب ضخم أيضاً، على أنه قد يكون لأسباب أخرى، إذ يقال إنه كان يأخذ قيلولة بعد الظهر أسفله.
ولكن ما الرسالة وراء مائدة بوتين؟ لو كانت توجد رسالة.
استعراض للقوة أم ازدراء
مائدة بوتين الطويلة تحولت إلى رمز للنتائج المركبة للاجتماع التاريخي الذي عقده حولها يوم الإثنين 7 فبراير/شباط، تابعه العالم باهتمام.
فلقد استضاف الرئيس الروسي إيمانويل ماكرون على هذه المائدة العملاقة ثلاثية الأرجل، وكان الرئيس الفرنسي قد تعهّد بإجراء محادثات "مكثفة" مع بوتين يخرج منها بـ"حل تاريخي" للتهديد الوشيك بالحرب بين روسيا وأوكرانيا.
ولكن بعد خمس ساعات من المحادثات على المائدة البيضاء فشل ماكرون في انتزاع أي تنازلات علنية من بوتين، بل سرعان ما نفي الكرملين تقديمه أي ضمانات لماكرون بعدم تصعيد الأزمة، بعد أن قال الرئيس الفرنسي فور مغادرته موسكو ووصول لأوكرانيا بأن بوتين تعهد له بذلك.
وثارت تكهنات بأن هذه المائدة استعراض قوة لإخضاع ماكرون، بل وربما إشارة مادية لازدرائه.
وكانت المسافة التي خلقتها مائدة الطويلة بين الرجلين مثار سخرية في العالم كله، واختلف المعلقون بين كونها تعبير عن الازدراء أم تعبير عن الفجوة بين الشرق والغرب.
الأمر قد يكون أبسط من ذلك
على أنه من الجائز أيضاً أن هذه المائدة العملاقة لا تبعث بأي رسالة سياسية، أو لو أنها تفعل، فأهميتها ثانوية بجوار هدف بوتين الأساسي، وهو تحاشي الإصابة بكوفيد.
ومطلع هذا الشهر، استضاف بوتين رئيس الوزراء المجري، فيكتور أوربان، على المائدة نفسها. وحينذاك كانت الرسالة التي أرادت موسكو إيصالها، هي العلاقات الوثيقة والودية بين الزعيمين، حتى لو كانا جالسين ويصيحان على مسافة بعيدة من بعضهما.
وظهرت مائدة شديدة الشبه بهذه المائدة أيضاً قبل الجائحة، لكن العديد من الأشخاص كانوا يجلسون عليها.
الرئيس بوتين الذي اقترب من السبعين لديه رعب من كورونا
والآن، من الواضح أن بوتين يستخدم المائدة بغرض التباعد الجسدي عن القادة الأجانب، مثلما يفعل في المؤتمرات الصحفية، التي تكون منصاتها متباعدة بدرجة غير اعتيادية، حسبما ورد في تقرير صحيفة The Guardian البريطانية.
فالرئيس الروسي البالغ من العمر 69 عاماً معروف بقلقه الشديد من كوفيد-19، ويظل منعزلاً معظم الوقت، ويتخذ إجراءات احترازية أكثر تشدداً من التي يتخذها قادة آخرون على مستوى العالم.
والكرملين مستمر في إلزام من يجتمعون مع بوتين بالحجر الصحي لمدة أسبوعين، رغم الادعاء بأن الزعيم الروسي تلقى جرعات اللقاح كاملة والجرعة المعززة. وهذه الإلزامات قد تكون معرقلة أحياناً، فقبل افتتاح مركز فني كبير في موسكو، قيل إن مديره ومموله الرئيسي وُضعا في الحجر الصحي لأسبوعين، ليتمكنا من اصطحاب بوتين في جولة قصيرة في المركز.
ووصلت مخاوف بوتين الصحية إلى درجة أنه، في ذروة وباء كورونا، قيل إن بوتين عزل نفسه في قصره الفخم خارج موسكو، وكان يجب على كل من حصل على مقابلة مع بوتين المرور أولاً عبر "نفق تطهير" يرش الزوار برذاذ خفيف من المواد الكيميائية.
هناك رئيس واحدة استثناه من ذلك
على أن ثمة شخصاً واحداً وقف بوتين على مسافة قريبة منه، رغم مخاوفه من كوفيد. ففي حفل افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين هذا الشهر، وقف هو وشي جين بينغ أمام الكاميرات على مسافة قريبة جداً من بعضهما، في إشارة لتحالفهما القوي في ظل تصاعد التوترات مع الغرب.
غير أن المسؤولين الصينيين جهزوا لاجتماعهما مائدة خشبية سوداء ضخمة، ربما تفوق مائدة بوتين حجماً.
كما أن الصين معروفة بإجراءاتها الاحترازية المشددة، التي جعلت فيروس كورونا أقل انتشاراً بها عن أي بلد، وبالتالي الاقتراب قليلاً من الرئيس الصيني قد يكون من وجهة نظر بوتين أقل خطراً من أي رئيس آخر.