"علاقة غريبة تربط بوتين وماكرون"، ظهرت في موقف الرئيس الفرنسي الذي بدا مهادناً تماماً- إن لم يكن مستسلماً- أمام ليس فقط خطر غزو روسيا لأوكرانيا؛ بل تهديدها أحياناً بحرب نووية مع الناتو، مقابل عدائية غريبة يكنّها ماكرون للإسلام المتدين في بلاده والإسلام السياسي في كل العالم.
يتحدث ماكرون دوماً عن ضرورة الاستقلال الاستراتيجي والعسكري الأوروبي عن أمريكا، وعن السيادة الأوروبية التي يكرر الحديث عنها عند أي خلاف بين اليونان وتركيا أو بينه وبين الرئيس التركي رجب أردوغان، ولكن حديث السيادة الأوروبية يصبح خافتاً عند حدوث أزمة مع روسيا.
أسد على المسلمين، حليم مع عدوانية روسيا
كان ماكرون حاداً دوماً- إن لم يكن حتى عدائياً- تجاه مسلمي بلاده الذي يعانون أصلاً من العنصرية، مُلقياً خطابات أحياناً تكون مهينة لدينهم مثل مقولته الشهيرة: "الإسلام في أزمة".
كما بدا عدائياً بشكل مثير للاستغراب عندما أرسل سفناً وطائرات حربية لدعم أثينا في مواجهة المطالبات التركية في المياه الإقليمية المتنازع عليها بين البلدين، وهو خلاف قبلت فيه أنقرة وساطة ألمانية تنصلت أثنيا من بنودها.
في المقابل، فإنه لم يرسل إلى أوكرانيا أسلحة في مواجهة حشود روسيا العسكرية، كما فعلت بريطانيا والولايات المتحدة ودول البلطيق الصغيرة، بل أطلق مبادرة خلت من أي تلويح بعقوبات على روسيا إذا غزت أوكرانيا، بل ما تسرّب منها يشير إلى أنه يؤيد عدم ضم أوكرانيا إلى الناتو وتحييدها بطريقة قد تؤدي في النهاية، إلى أن تكون ساحة للنفوذ الروسي.
والأغرب أنه في وقت يهدد فيه بوتين الناتو بحرب نووية محتملة، فإن ماكرون يؤكد فكرة أن روسيا أوروبية، في المقابل يرفض انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي رغم أن جزءاً كبيراً من سكانها يعيشون في الجزء من الأوروبي من البلاد، وتاريخياً هي منغمسة في الشؤون الأوروبية أكثر من روسيا.
ولكن الأغرب أنه في ذروة الأزمة مع روسيا، يتحدث ماكرون عن ضرورة جذب موسكو إلى صف الغرب في مواجهة الصين (التي يتحالف معها بوتين)، في خطاب يدعو إلى صدام الحضارات كأي يميني شعوبي.
نتائج صادمة للقاء بوتين وماكرون
والأخطر، أن مقاربة ماكرون للتعامل مع الأزمة الأوكرانية تصرف النظر عن المخاطر الحقيقية على أوروبا، لأن ما يتجاهله ماكرون والدبلوماسيون الفرنسيون الذين يروجون مبادرته، هو أن روسيا تمثل خطراً على أوروبا والغرب برمته أكبر من الصين بكثير في الوقت الحالي على الأقل.
فالصين تركز بالأساس على نموها الاقتصادي ولم تخض حرباً منذ صراعها مع فيتنام في السبعينيات والتي هزمت فيها، إلا إذا اعتبرنا معارك جنود الصين والهند بالعصي والأيدي العارية في جبال الهيملايا حرباً.
وبينما لم تستخدم الصين القوة العسكرية ضد تايوان التي تعتبرها بكين إقليماً منشقاً ولا تعترف بها الدول الغربية كدولة مستقلة، حتى الآن، فإن روسيا استخدمت القوة العسكرية مراراً وضمن ذلك في أزمات جورجيا والقرم وسوريا، وصولاً إلى ليبيا مؤخراً.
ماكرون على خطى اليمين المتطرف
وفي هذه المواقف التي يمكن أن توصف بأنها لا تخدم سوى مصالح روسيا، لا تبدو أفكار ماكرون غريبة عن توجهات كثير من أطياف اليمين الأبيض في أوروبا المتيم بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رغم تهديداته الواضحة والصريحة لجيرانه الأوروبيين، والتي يتجاهلها هذا اليمين بنسختيه المحافظ والمتشدد.
بينما يركز هذا اليمين طاقته العدائية على الصين والمسلمين في بلاده، أو بلد مثل تركيا تريد أن تكون شريكاً متساوياً للاتحاد الأوروبي؛ بل تسعى للانضمام إليه ويحكمها حزب ديمقراطي جذوره إسلامية.
وبينما يسعى الإسلام السياسي المعتدل، بشقيه التركي والعربي في المهجر الأوروبي، للانغماس في النموذج الغربي، مع إتاحة مساحة من الخصوصية تراعي طبيعة المسلمين (أقرب لنموذج التدين الأمريكي والأنجلوسكسوني)، فإن هذا اليمين الأوروبي يرفض ذلك.
ويركز هذا اليمين على الخطر الإسلامي الوهمي والمسلمين الذين ينتمي أغلبهم إلى أمم ضعيفة ومغلوبة على أمرها وبينهم ملايين المشردين، وفي الوقت ذاته يتجاهل تماماً تهديدات روسيا التي لا يحاول بوتين أن تخفيها.
اليمين الأبيض يقدّس بوتين
والنقاشات العقيمة في أوروبا حول الهجرة والشعبوية ومستقبل الاتحاد الأوروبي تعزز الانقسامات في القارة، مما يسمح لموسكو بالاستفادة من هذه الانقسامات. يزدهر اليمين المتطرف في أوروبا، الذي يقدس روسيا بوتين على أنه يقود الطليعة المحافظة في الغرب الذي فقد مصداقيته، في أجزاء من هذا المشهد السياسي المستقطب. يتسبب مزيج التهديدات والفرص الجديدة في جعل موسكو تخاطر بشكل أكبر وتتبنى سياسات أكثر براعة، حسب وصف تقرير لمركز كارنيغي "Carnegie" الأمريكي.
ولكن اللافت أن هذا الإعجاب من اليمين المتطرف ببوتين قد تصاعد تأثيره على السياسة الأوروبية بشكل أثار قلق المعنيين، ويأتي ذلك عبر صعود الأحزاب اليمينية في سُلم السلطة تدريجياً، أو صعود أفكارها.
على سبيل المثال، يُعتقد على نطاق واسع أن روسيا كان لها دور في توجيه الناخبين البريطانيين، عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، للانفصال عن الاتحاد الأوروبي في استفتاء البريكست.
وتسلط علاقات الكرملين مع المجر وإيطاليا والنمسا الضوء على الكيفية التي فتحت بها المشاكل الداخلية في أوروبا أبواباً عديدة لموسكو، حسب تقرير مركز كارنيغي .
وتعد النمسا أحد أهم معاقل اليمين المحافظ والمتطرف حالياً في أوروبا، حيث تعد أول بلد أوروبي يصل فيه حزب يميني متطرف للحكم (حزب الحرية اليميني)، ويركز ساستها على المنافسة مع تركيا، ويتجاهلون الخطر الروسي تماماً، إن لم يكونوا معجبين بها أحياناً، حتى إن بعض مسؤوليها طالبوا بإنهاء العقوبات الأوروبية على الاتحاد الروسي، بل وصل الأمر إلى أن وزيرة الخارجية النمساوية السابقة، كارين كنايسل، رقصت في عرسها مع بوتين، في وقت كانت بلادها تترأس الاتحاد الأوروبي، مما أثار انتقادات حادة لها آنذاك.
يمكن تفهُّم سر هذا الموقف النمساوي بأنه محبوس في رواية تاريخية أحادية، لا تنسى أن العثمانيين حاصروا فيينا مرتين، يضاف إليها مجتمع منغلق، ساخط على الأقلية التركية الكبيرة في البلاد، ورافض لفكرة محاولة احتفاظها بهويتها أو أي قدر من الخصوصية والمؤسسات التي تربطها ببلادها الأصلية.
وفي ألمانيا ظهر توغل ظاهرة الإعجاب ببوتين واضحاً، عندما صدم قائد البحرية الألمانية المستقيل، أوكرانيا والغرب بامتداحه روسيا وبوتين ودعوته إلى التحالف معه ضد الصين باعتباره مسيحياً، والأغرب دعوته إلى نسيان احتلال روسيا شبه جزيرة القرم باعتباره أمراً واقعاً.
وإذا كان يمكن تفهم مواقف ألمانيا المهادنة لروسيا، من قلقها من توتر يسبب مواجهة غير متكافئة مع روسيا الجارة الأقوى عسكرياً، وهو توتر قد يضطرها إلى تعزيز إنفاقها العسكري، مما قد يبدد رخاء ألمانيا الاستثنائي الحالي، خاصة في ظل اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية وهجرات العقول الروسية التي تمد ماكينة الرأسمالية الألمانية بما يعوزها من مهارات في مجالات مثل الرياضات والبرمجة.
فرنسا تريد إبعاد أمريكا وتزعُّم أوروبا ثم تتركها فريسة لأطماع روسيا
ولكن الموقف الأغرب هو موقف فرنسا، التي تقدم نفسها كقائدة سياسية وعسكرية للاتحاد الأوروبي، وتطالب الأوروبيين بالابتعاد عن أمريكا، بينما هي لا تدافع عن شطر القارة الشرقي أمام التنمر الروسي.
في مقابل هذا الموقف البارد من ألمانيا وفرنسا تجاه أحلام التوسع الروسي، يبدو موقف بريطانيا الخارجة لتوّها من الاتحاد الأوروبي، هو الأكثر حزماً من الدول الأوروبية، كما تبدو السويد وفنلندا- الجارتان الإسكندنافيتان لروسيا- قلقتين بشدة ولكن بقليل من الصخب، من الخطط الروسية، ولكنهما تحدثتا عن الانضمام إلى الناتو.
أما أكثر الدول الأوروبية قلقاً من الجموح الروسي، فهي جمهوريات البلطيق الثلاث لاتفيا وإستونيا ولتوانيا، وكذلك بولندا، وبصورة أقلَّ رومانيا والتشيك والسلوفاك.
هكذا جعلوا بوتين يطمع في المزيد بعد قضمه للقرم وينسق مع تركيا
نتيجة هذه السياسات التي قادتها ألمانيا وفرنسا وبصورة أقلَّ النمسا وهولندا، فإن الاتحاد الأوروبي كان رد فعله ضعيفاً تجاه ضم روسيا للقرم عام 2014، وهو ما جعل روسيا لم ترتدع وهاهي تعيد الكرة في أوكرانيا.
ولم يجعل ما سبق تركيا تتقارب مع روسيا فقط، ليقتسم البلدان النفوذ في ساحات مثل القوقاز وسوريا وليبيا، ولكن أيضاً فوَّتت أوروبا فرصة كبيرة على نفسها لتقوية تركيا باعتبارها منافساً تاريخياً لموسكو، منافساً لديه أسبابه للتصدي للنفوذ الروسي ويمتلك جيشاً قوياً وأيديولوجيا قومية ودينية منافسة لنموذج موسكو، والأهم أنه يمتلك مفاتيح البحر الأسود الذي يمثل أهمية حيوية لموسكو.
اليمين المتطرف يرى بوتين بطل الحرب ضد الإسلام بينما هو يتعايش مع مسلمي بلاده
والمفارقة أنه بينما يعجب اليمين الغربي ومن يسير على منواله مثل ماكرون ببوتين، ويناصبون المسلمين العداء مع تركيز خاص على تركيا، فإن بوتين بعدما كان يناصب تركيا العداء بات ينسق معها، وحتى في بلاده بعد أن كان يُنظر إليه على أنه جزار الشيشان، بات يسمح بمساحة لا بأس بها للمسلمين في بلاده في التعبير عن هويتهم الإثنية والدينية.
وفي الأغلب وضع المسلمين في روسيا والذين يمثلون أقلية كبيرة هناك تحت حكم بوتين الذي يصفه الليبراليون بأنه مستبد، ويعتبره اليمينيون المتطرفون بطل الحرب ضد الإسلام، أفضل من وضع المسلمين في فرنسا التي تقدم نفسها على أنها بلد الحريات والمساواة.
كيف اخترق بوتين الأحزاب اليمينية واليسارية الراديكالية الأوروبية على السواء؟
في عام 2016، أفيد بأن وكالات المخابرات الأمريكية ستجري تحقيقاً كبيراً في كيفية اختراق الكرملين للأحزاب السياسية في أوروبا بهدف استغلال الانقسام الأوروبي وتقويض الناتو.
وتم بحث نفوذ روسيا في أوروبا بشكل شامل في مؤسسة الفكر والعالم الأكاديمي، حيث كشفت دراسة أنه تحت إشراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، طورت الحكومة الروسية مجموعة أدوات من الآليات السياسية والاقتصادية والمعلوماتية والعسكرية التي تهدف إلى تعزيز مصالح سياستها الخارجية.
جهود الكرملين لزعزعة الاستقرار استهدفت دولاً أبعد من الدول المجاورة له، ووصلت إلى أوروبا الشرقية والغربية، واحدة من أهم هذه الجهود إقامة علاقة من التفاهم المتبادل والتوافق الأيديولوجي بين الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا وعقيدة بوتين أو البوتينية.
ولكن الأغرب أن الاختراق الروسي لم يقتصر على اليمين المتطرف.
إذ يُعد استثمار الموارد المالية والأيديولوجية في أحزاب على طرفي الطيف السياسي (اليمين واليسار) استراتيجية مستخدمة بشكل متكرر في مجموعة أدوات تأثير الكرملين.
يلعب بوتين لعبة شديدة الذكاء عبر نسج علاقات وثيقة مع أحزاب اليمين واليسار الراديكالية، فأحزاب اليمين المتطرف متيمة به كرمز للرجل الأبيض القوي الذي يحارب الإسلام؛ نظراً إلى دوره في سوريا والشيشان وغيرهما، وتاريخ روسيا في محاربة المسلمين سواء في أوروبا أو آسيا الوسطى أو القوقاز.
وأحزاب اليسار الراديكالي متعاطفة مع روسيا باعتبارها وريثة الاتحاد السوفييتي الشيوعي، إضافة إلى صلابة بوتين ومناوراته أمام أمريكا التي مازالت رمز الإمبريالية والرأسمالية في نظر هذا اليسار المتجمد التفكير، والذي يتجاهل أن الصين وروسيا أكثر إمبريالية ورأسمالية من واشنطن حالياً.
وحتى الأحزاب الليبرالية واليسارية المعتدلة، فإن بوتين يستغل توجهاتها السلمية التي تجعلها لا ترد على مغامراته العسكرية كما يظهر واضحاً، في مواقف الأحزاب الحاكمة في ألمانيا من الأزمة الأوكرانية الحالية، حيث رفضت برلين إرسال معدات عسكرية إلى كييف واكتفت بإرسال خوذ ومعدات طبية، مما أثار سخرية المسؤولين الأوكرانيين.
بل إن مناورات بوتين تستغل أيضاً، الأحزاب الليبرالية واليمينية البراغماتية التي تمثل عادةً مصالح الشركات الغربية، وهي تقليدياً لديها صلات اقتصادية مع روسيا، خاصة في بلد مثل ألمانيا، (الأمر الذي جعل المستشار الألماني الاشتراكي السابق غيرهارد شرودر، المعروف ببراغماتيته، يتولى منصباً قيادياً في شركة روسية بعد استيلائها على القرم عام 2014، مما أثار انتقادات داخل ألمانيا).
يمكن لمثل هذه الأحزاب والحركات اليمينية واليسارية الراديكالية التي يقيم معها الكرملين علاقات، رغم أنها عادةً ما تكون على هامش السياسة السائدة، أن تعمل على تفكيك التحالفات السياسية، حتى مع انخفاض مستويات الدعم الانتخابي أو العام لها، والأهم أنها تخفف من زخم الموقف الأوروبي وأحياناً الأمريكي (مثلما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب) ضد أطماع روسيا.
إضافة لذلك هناك جانبان من جوانب العلاقة بين الكرملين وأحزاب اليمين المتطرف في أوروبا فريدان، وخطيران بشكل خاص على مستقبل الاتحاد الأوروبي: الأول اتساع وعمق التداخل الفكري بين البوتينية كأيديولوجية وخطابات اليمين المتطرف، مع التشكك في الاتحاد الأوروبي، والثاني الشعبية المتزايدة للأحزاب اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا منذ عام 2008، مما دفع العديد من هذه الأحزاب من الهوامش إلى التيار الرئيسي للسياسة الوطنية.
فالأحزاب السياسية الموالية لروسيا اكتسبت نفوذاً متزايداً في سياسات الاتحاد الأوروبي والسياسة الوطنية. وقد جاء هذا التأثير المتزايد في وقت يشهد ركوداً اقتصادياً وأزمة اللاجئين المستمرة والهجمات الإرهابية، مما أدى إلى زعزعة حلم الاتحاد الأوروبي في اتحاد وثيق.
"أوكرانيا روسية".. ثلة من مرشحي فرنسا مع بوتين
ويظهر الأثر المدمر لهذه العلاقة المركبة بين بوتين والأحزاب اليسارية اليمينية الراديكالية على السواء، في المنافسة على الانتخابات الرئاسية الفرنسية.
فرنسا، قائدة الاتحاد الأوروبي كما تقدم نفسها، يبدو كثير من المرشحين لرئاستها ميّالين إلى بوتين الذي يهدد الجناح الشرقي للاتحاد الأوروبي، وبدلاً من الالتفاف إلى وهذا الخطر فإنهم يركزون على خطر السكان المسلمين الوهمي والعداء ضد الهجرة التي يعلم الجميع واقعياً أن فرنسا وبقية دول أوروبا في أمسّ الحاجة إليها لتدوير عجلة الاقتصاد.
وبينما يحشد بوتين دبابته ويجري مناورات بالأسلحة المذخرة بالرؤوس النووية، فإن هؤلاء يتحدثون عن خطر الجرائم التي يرتكبها المسلمون رغم أن الإحصاءات الرسمية تفيد بتراجع معدلات الجرائم في فرنسا بشكل كبير، وضمن ذلك تلك التي يرتكبها المهاجرون، كما أن خطر الإرهاب تبدد تقريباً في كل أوروبا.
والمفارقة التي قد تسعد بوتين أن الشيء الوحيد الذي يجمع بين مرشح اليسار الراديكالي لوك ميلينشون (المتعاطف تقليدياً مع المسلمين) ومرشحي اليمين المتطرف المعادين للمسلمين هو وجود قدر من التأييد لروسيا.
فقد انتقد ميلينشون، زعيم حزب فرنسا الأبية، كأي يساري تقليدي، بشدةٍ سياسة الولايات المتحدة، ودافع عن الاستراتيجية العسكرية الروسية، قائلاً: "الروس يحشدون قواتهم على أراضيهم، نحن نتمسك بأساليب الحرب الباردة القديمة. ومع ذلك فإن السياسة المعادية لروسيا ليست في مصلحتنا. إنها خطيرة وعبثية. شعارنا هو التهدئة".
ويختلف ميلينشون مع مبادرة ماكرون، الذي يريد أن تضمن فرنسا الحدود المادية لأوكرانيا. وفوق كل شيء، يفضل اليساريون المتطرفون سياسة عدم الانحياز، معتبرين أن فرنسا لا تنتمي إلى المجال الأمريكي ولا إلى المجال ما بعد السوفييتي.
ولكنهم يتجاهلون أن روسيا البوتينية ليست الاتحاد السوفييتي الذي يسعى لنشر الأممية الشيوعية التي يؤمنون بها، بل تسعى لنشر هيمنتها القومية، تحت قيادة رئيس أبعد ما يكون عن الاشتراكية، حيث يعيش بوتين في قصر فخم ومعروف بأنه يحيط نفسه بأغنياء أثروا أنفسهم في الأغلب عبر عمليات لموارد الشعب الروسي عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.
رغم اختلاف ميلينشون في كل شيء مع زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان، خاصةً موقفها من المسلمين، فإنها مثله تميل إلى تفضيل العلاقات مع موسكو. والسبب في رأيها هو مصالح فرنسا في مجال الطاقة (20% من إمدادات الغاز الفرنسي تأتي من روسيا)، وما تصفه بالحرب المشتركة ضد الإسلاميين.
ولذا تؤكد ضرورة الحفاظ على علاقات جيدة بين باريس وموسكو.
وقالت لوبان لوسائل الإعلام البولندية: "سواء أحببنا ذلك أم لا، أوكرانيا تنتمي إلى دائرة النفوذ الروسي".
لكن من بين المرشحين الرئيسيين الذين يتنافسون على الرئاسة الفرنسية المقررة في أبريل/نيسان، فإن اليميني المتطرف إيريك زمور هو بالتأكيد الأكثر تأييداً لروسيا.
ويرى أن أوكرانيا كانت على مر التاريخ دائماً "منطقة خاضعة لإمبراطوريات، سواء كانت روسية أو نمساوية"، وصرح زمور بأنه يتعين على فرنسا الامتناع عن الانحياز للموقف الأمريكي، لأن مطالب الزعيم الروسي فلاديمير بوتين "شرعية تماماً". ويختتم تصريحاته الصادمة، بالقول: "لو كنت رئيساً، لقلت: لم تعد هناك عقوبات ضد روسيا".
أما بالنسبة إلى المرشحة الرئاسية المحافظة فاليري بيكريس، فقد تمسكت بخط مشابه جداً لماكرون الذي يحاول مغازلة روسيا ولكن على استحياء، ففي مقال بصحيفة لوموند الفرنسية دافعت عن رؤية لأوروبا "تتجمع معاً من المحيط الأطلسي إلى نهر الأورال"، ودعت بيكريس، مرشحة حزب الجمهوريين، إلى الحفاظ على الحوار مع الكرملين وتذرعت بضرورة ضمان وحدة أراضي أوكرانيا.
لماذا يفعل ماكرون ذلك وكيف ستكون نتائج سياسته؟
بالنسبة لماكرون، فإن موقفه نابع إلى حد كبير، من الانتهازية الشخصية للاستفادة من موجة العداء للمسلمين والهجرة في بلاده على غرار ترامب الذي حظر دخول المسلمين لبلاده فور توليه السلطة ثم كانت أولى زياراته الخارجية للسعودية حيث حضر القمة الإسلامية الأمريكية أبرم صفقات مليارية مع الرياض.
ولكن أيضاً جزء من علاقة بوتين وماكرون وميل الأخير لمهادنة طموح القيصر، نابع من مصالح فرنسا، التي لم تعانِ في تاريخها من أنياب الدب الروسي (باستثناء قيادة الروس الجيوش الأوروبية التي هزمت نابليون).
ففرنسا ليس لها مصالح في أوروبا الشرقية أو الوسطى بل مصالحها الأساسية، في أوروبا الغربية والبحر المتوسط وإفريقيا والشرق الأوسط، وقد أصبحت سياساتها الخارجية في العالم العربي، ومصالحها الاقتصادية مرتبطة بمحور الاستبداد العربي، المعادي للإسلاميين المعتدلين.
ولذا يطالب ماكرون أوروبا بالابتعاد عن أمريكا عسكرياً، وتجاهل الخطر الروسي الواضح ويختلق معارك مع تركيا وأحياناً الجزائر ومسلمي بلاده أو المنظمات الإسلامية التي انتخبته في الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
إذ يفضل ماكرون مثل اليمين الغربي المتطرف، خلق عدو متوهم مختلف في العرق والدين، مثل الصين، أو تركيا أو الإسلاميين أو مجمل المسلمين بدلاً من مجابهة عدو حقيقي لا يستطيعون هزيمته، بل يتحولون للإعجاب به، كأنها متلازمة استوكهولم التي يقع فيها الرهينة في حب خاطفه.
الخطير فيما يفعله ماكرون، أن ما يقوم به ينقل سياسات الإعجاب ببوتين من الهامش السياسي الراديكالي اليساري واليميني، إلى قلب السياسة الأوروبية لتصبح سياسة رسمية تضعف الموقف الأوروبي تجاه روسيا.
المشكلة أن هذا الضعف لن يرضي بوتين، فلقد تركت أوروبا روسيا تبتلع القرم وتفصل إقليم الدونباس عن أوكرانيا، واكتفت بفرض عقوبات ليست قوية ولم تسلح كييف، واليوم بعد نحو ثماني سنوات تهدد روسيا بابتلاع أوكرانيا كلها، بل تدعو لإخراج دول أوروبا الشرقية من الناتو.
فبوتين غريم صلب يحترم خصومه الأقوياء، فتركيا الأضعف من أوروبا وصلت عبر خليط من العلاقة الوثيقة والصلابة الميدانية في سوريا وليبيا والقوقاز، لمعادلة علاقة مع روسيا أفضل كثيراً، من أوروبا.
يبدو ماكرون ومِن قبله المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل، يكرران نفس خطأ رئيس وزراء بريطانيا الشهير نيفيل تشامبرلين، الذي تسامح مع ضم هتلر للنمسا ثم تشيكوسلوفاكيا، فازدادت أطماع الأخير حتى نشبت الحرب العالمية الثانية.
كما أن هذه السياسات المهترئة إزاء روسيا، وصرف النظر عن خطرها عبر الانشغال بالعداء للمسلمين المستضعفين، والصين البعيدة، تعرقلان عملية صياغة رؤية قوية لتشكيل ردع أوروبي ضد موسكو، وهي مسألة حيوية لضمان عدم توسع طلباتها.
ولكن أخطر ما يفعله ماكرون واليمين واليسار المتيم ببوتين، ليس في أنه يغذي أطماع الرئيس الروسي الحالي، بل إنه يمهد لمن يأتي بعد بوتين طريقاً للتوسع غرباً.
ففي النهاية بوتين رئيس محنّك، وهو ليس هتلر روسيا، فهو دوماً يقضم من خصومه ما يكفي لإرضاء طموحاته دون توصيلهم لحالة تدفعهم إلى الانتقام، فهو دوماً يميل لاقتسام كعكة الغنائم مع خصومه مثلما يفعل مع تركيا.
ولكن إذا جاء لروسيا بعد بوتين زعيم أهوج، وأصيبت البلاد بأزمة اقتصادية أو سياسية، فإن الطريق الذي فرشته سياسات ألمانيا وفرنسا المهادنة، قد يكون مفتوحاً أمام توسع روسي أكثر عدوانية، وحدوده قد لا تكون أوكرانيا أو أوروبا الشرقية في وقت تبتعد أمريكا عن أوروبا بعد أن دافعت عنها لمئة عام أو تزيد قليلاً.
وبعد أن تكمل واشنطن تحويل تركيزها إلى المنافسة مع الصين في آسيا، قد تكون الأزمة الأوكرانية هي آخر أزمة تدافع فيها أمريكا عن أوروبا المنقسمة على نفسها والتي لا تعرف مَن عدوها ومَن صديقها.