قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد فترة من صعوده على متن الطائرة الرئاسية من باريس متوجهاً إلى موسكو في 7 فبراير/شباط 2022: "لا أؤمن بالمعجزات العفوية". بدا الرئيس الفرنسي في حديثه مع الصحفيين هادئاً قبل إحدى الرحلات الدبلوماسية الأكثر اختباراً التي قام بها منذ انتخابه رئيساً قبل خمس سنوات. وتقول مجلة Economist البريطانية، إن هذه الرحلة كانت اختباراً لكل من طموحه في تولي منصب الدبلوماسي الأوروبي الرائد وقدرته على فعل أي شيء مفيد لتخفيف التوترات في الأزمة بشأن روسيا وأوكرانيا.
ماكرون يوظف "أسبوع الدبلوماسية العالية" في حملته الانتخابية
بعد خمس ساعات من المحادثات التي جرت في وقت متأخر من الليل مع فلاديمير بوتين بشكل متباعد على طاولة بيضاوية طويلة مثيرة للجدل، تبعها مؤتمر صحفي لم يخلُ من الإهانات لماكرون، سافر الرئيس الفرنسي إلى كييف في اليوم التالي، ووقف بجانب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي تعيش بلاده تحت تهديد الغزو، وقال ماكرون إنه حصل على تعهد من الرئيس الروسي بأنه "لن يكون سبباً لتصعيد الأزمة على الحدود مع أوكرانيا".
لكن الكرملين سارع إلى نفي ما قاله ماكرون مشيراً إلى أن بوتين لم يقدم أي التزام من هذا القبيل، ولم يكن هناك بيان يمكن التحقق منه علناً لدعم مزاعمه. كما هو الحال، يشكك العديد من الحلفاء الغربيين في أن ماكرون يضع الكثير من الثقة في الزعيم الروسي، ومع ذلك بدا ماكرون، وهو يتحدث في الطريق من موسكو إلى كييف، واثقاً من أن هذا قد يحلحل الأمور، وأنه سيكون الآن "ممكناً إحراز تقدم في المفاوضات" لتخفيف التوترات بين روسيا وأوكرانيا، كما تقول الإيكونومست.
ويقف ماكرون اليوم على بعد شهرين فقط من محاولة إعادة انتخابه، وتقول المجلة البريطانية إن الرئيس الفرنسي يسعى للاستفادة من "أسبوع الدبلوماسية العالية" الذي عمل عليه لتخفيف التوتر في أوكرانيا، والذي يرتبط أيضاً في طموحه بزعامة أوروبا وبتأمين مكان للأوروبيين على الطاولة عندما يتعلق الأمر بأزمة على أعتاب قارتهم.
ماكرون الذي يغرد دوماً خارج السرب
قبل ثلاثة أسابيع فقط، كان هناك إحباط ملموس في باريس من كونها مهمشة دبلوماسياً من أزمة تناقش وجود أكبر حشد عسكري شهدته القارة منذ نهاية الحرب الباردة. قادت أمريكا وحلف الناتو الحوار مع بوتين حول الحشد الروسي على حدود مع أوكرانيا، دون دعوة الاتحاد الأوروبي للجلوس على الطاولة. وهو ما أثار انزعاج باريس التي يقول أحد دبلوماسييها إن "فرنسا بدت أنها ليس لها رأي يذكر".
بالنسبة لماكرون، الذي لطالما دافع عن حوار استراتيجي مع روسيا، أثار استياء أعضاء الناتو، نظراً لأن التحليل الفرنسي للوضع العسكري على الحدود الروسية الأوكرانية كان متناقضاً إلى حد ما، مع الطرح البريطاني والأمريكي، اللذين أعلنا أن الغزو الروسي كان "وشيكاً". وشارك الدبلوماسيون الفرنسيون الرأي القائل بأن الوضع كان مقلقاً ومتقلباً في أوكرانيا، لكنهم أصروا على أنه لم يكن من الممكن استنتاج أن الهجوم الروسي على أوكرانيا كان وشيكاً.
وواجه ماكرون في الماضي انتقادات داخل البيت الأوروبي، بسبب نهجه الأحادي المنفرد، قبل رحلته إلى موسكو هذا الأسبوع، جادل البعض بأنه من غير المفيد إجراء حوار موازٍ منفصل مع بوتين خارج الناتو. وهم يشتبهون في أن الرئيس الفرنسي ـرغم احتجاجاته المتكررةـ يسعى لتقويض التحالف.
الرئيس الفرنسي يسير في طريق محفوف بالمخاطر
مع ذلك، يبدو أن ماكرون تعلم من مثل هذا النقد كما تقول الإيكونومست. هذه المرة حصل الرئيس الفرنسي على دعم دبلوماسيته المكوكية من الرئيس جو بايدن، وكذلك ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الناتو، وزعماء دول البلطيق. كما تم تنسيق رحلته عن كثب مع ألمانيا، التي استقبل مستشارها، أولاف شولتز، الرئيس ماكرون في برلين مباشرة من الطائرة القادمة من كييف.
على المدى الطويل، يريد ماكرون بدء محادثة أوسع حول "النظام الأمني الجديد" في أوروبا، لا سيما على جانبها الشرقي. يشعر العديد من حلفاء الناتو بالقلق الشديد من هذه الفكرة، التي ستضطر بطريقة ما إلى تهدئة مخاوف روسيا من توسع الناتو، والتي تظل ملامحها غامضة.
في الواقع، يسير الرئيس الفرنسي في طريق محفوف بالمخاطر بين شكوك أصدقائه وعدوانية بوتين، وقد يدوس الرئيس بوتين بلا مبالاة على أي التزامات يعتقد الفرنسيون أنه قدمها، ويقوم بغزو أوكرانيا خلال أيام أو أسابيع.
في حين يواجه ماكرون انتقادات في بعض الأوساط بسبب محاولته حتى كبح بوتين، وفي بلدان أخرى لمحاولته الحصول على مكانة أنجيلا ميركل في زعامة أوروبا، حيث كانت المستشارة الألمانية السابقة المحاور الأوروبي المفضل لدى بوتين. يبدو أن ماكرون مقتنع بأن الخط الذي يسلكه وإن كان منفرداً في معظم الأحيان يمكن أن يساعد الأوروبيين في استعادة مكانتهم وإيجاد طريقة لوقف الخطر الذي يهدد قارتهم، لكن في غضون ذلك ربما يكون ماكرون قد اشترى بعض الوقت فقط، لا أكثر ولا أقل.
"رؤية ماكرون المعيبة لأوروبا"
من جهتها، تقول مجلة Foreign Affairs الأمريكية إن استقلالية القارة العجوز بالنسبة لماكرون تعني أن تكون لها القدرة على تشكيل الأحداث العالمية، وهو ما لا يتوفر لأوروبا حالياً، ولا توجد فرص واقعية لتوفره مستقبلاً.
ففي 9 ديسمبر/كانون الأول من العام الماضي، وخلال مؤتمرٍ صحفي، اقتبس ماكرون من سابقه شارل ديغول، وأعلَنَ أن هدفنا يجب أن يكون خلق "أوروبا قوية نشطة في العالم، ذات سيادة كاملة، حرة في اختياراتها وتتحكم فيها، وتكون سيدة مصيرها". وعلى غرار ديغول لا يريد ماكرون أن تكون أوروبا -أو فرنسا- مراقباً عاجزاً في عالمٍ تتزايد فيه المنافسة على النفوذ بين القوى المختلفة.
ومن غير المرجح أن تجد أفكار ماكرون التزاماً واسعاً مثل اقتراحه بأنه "لا يمكن أن يكون هناك مشروع دفاعي وأمني للمواطنين الأوروبيين بدون رؤيةٍ سياسية تسعى إلى تعزيز إعادة بناء الثقة تدريجياً مع روسيا".
تفترض هذه الرؤية أن القارة، التي لها تاريخٌ طويل من الانقسامات، مُتَّحِدة الآن في الدفاع والسياسة الخارجية. لكن نظرةً خاطفةً على النقاشات الأخيرة حول روسيا وحتى الولايات المتحدة تُظهِر افتقاراً إلى التماسك الاستراتيجي بين الدول الأوروبية، باختصار يمكن أن تؤدِّي رؤية ماكرون إلى تقسيم أوروبا وإضعاف قدراتها وتركيزها، وكلُّ ذلك مع استغلال أسوأ غرائز الولايات المتحدة للانفصال عن التحالف عبر الأطلسي للتركيز على الصين.