جاء تعيين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للقاضي القبطي المستشار بولس فهمي رئيساً للمحكمة الدستورية العليا، ليشكل تطوراً لافتاً في وضع الأقباط بالبلاد، وعلاقتهم بالسلطة السياسية، والأهم أنه يفتح الباب أمام إمكانية تولي قبطي لرئاسة البلاد، لأول مرة في تاريخها الحديث.
والمحكمة الدستورية العليا هي المحكمة العليا في مصر ويقع مقرها بالقاهرة، ومهمتها مراقبة تطابق القوانين مع مواد الدستور. فهي تقوم بإلغاء القوانين التي تخالف نصوص ومواد الدستور المصري. وأحكامها نهائية لا يمكن الطعن فيها بأي طريقة من طرق الطعن.
وأدى رئيس المحكمة الجديد اليمين الدستورية أمام الرئيس المصري صباح الأربعاء 9 فبراير/شباط 2022.
وحسب صحيفة "الأهرام" الحكومية المصرية، فإن رئيس المحكمة الدستورية العليا الجديد هو رابع أقدم قضاة المحكمة حالياً، ومن مواليد أول يناير/كانون الثاني 1957.
هذا القرار الجديد سبقه صدور قرار جمهوري آخر بإحالة الرئيس الحالي للمحكمة الدستورية العليا، المستشار سعيد مرعي عمرو (67 عاماً)، إلى المعاش، مع إضافة باقي الفترة الزمنية المتبقية له حتى سن السبعين كمدة خدمة استثنائية.
واعتبرت تلك الخطوة بمثابة تغيير مفاجئ في رئاسة المحكمة الدستورية العليا الواقعة بحي المعادي (جنوبي القاهرة)، والتي أثارت جدلاً سابقاً في مصر، خاصة في أعقاب اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني.
إلا أن وسائل الإعلام المصرية أرجعت هذا التغيير إلى وعكة صحية ألمَّت بالمستشار سعيد مرعي عمرو، أعجزته عن مباشرة مهام عمله كرئيس للمحكمة الدستورية العليا، وفق المصدر ذاته.
قصة الأقباط والسياسة في مصر
يُذكر أن التقديرات الكنسية تشير إلى أن عدد المسيحيين بمصر نحو 15 مليون نسمة من أصل عدد سكان تجاوز 105 ملايين نسمة، بينما تشير التقديرات الحكومية إلى أن نسبتهم نحو 7% من السكان، فيما يقدرهم موقع "CIA Factbook" التابع للاستخبارات الأمريكية بنحو 10%
وتعترف بمصر بثلاث طوائف هي الأرثوذكسية والإنجيلية والكاثوليكية، وتتقدم الطائفة الأولى بشكل كبير على مستوى عدد الأتباع.
واتسم عهد ما قبل ثورة يوليو/تموز 1952، بدور كبير للأقباط في السياسة المصرية وصل إلى حد تولي السياسي القبطي شهير بطرس باشا غالي رئاسة الوزراء بالبلاد في عهد الاحتلال الإنجليزي، والذي ارتبط اسمه بترؤسه للمحكمة التي حاكمت المصريين المتهمين في مذبحة دنشواي التي ارتكبها الاحتلال الإنجليزي عام 1906، ودوره كوزير خارجية في التفاوض حول اتفاقية الحكم المصري البريطاني المشترك للسودان التي عدها الوطنيون المصريون تفريطاً في سلطة البلاد على السودان، وانتهت حياته بالاغتيال، ليصبح أول رئيس وزراء لمصر يتعرض للاغتيال.
حاول الإنجليز ترويج فكرة أن اغتيال إبراهيم الورداني لرئيس وزراء مصر بطرس باشا غالي، لا يرجع لخلاف سياسي أو للأسباب التي أشرنا إليها في الموضوع، وإنما كان نتيجة لمناخ التعصب من بعض المسلمين تجاه المسيحيين في مصر، إلا أن المحامي القبطي ناصف أفندي جنيدي الذي تطوع للدفاع عن إبراهيم الورداني أمام المحكمة وحضر معه كل التحقيقات، قال أمام المحكمة: "إننا جميعاً قد ضاقت صدورنا من السياسة المنحازة للإنجليز التي كان يدافع عنها بطرس باشا".
ولعب الأقباط دوراً كبيراً في ثورة 1919 التي أفضت إلى حصول مصر على استقلال جزئي وتشكيل حكم ملكي دستوري، وبرز في هذه الفترة دور الزعيم الوطني القبطي مكرم عبيد الذي كان سكرتيراً خاصاً للمستشار القانوني الإنجليزي ثم استقال احتجاجاً على نفي سعد زغلول لمطالبته بجلاء الاحتلال البريطاني، لينفيه الإنجليز مع زغلول إلى جزيرة سيشل بالمحيط الهندي.
ثم أصبح عبيد قيادياً بحزب الوفد، الحزب الذي تحوَّل إلى حزب الوطنية المصرية والمُطالِب بالاستقلال التام خلال ثورة 1919 وما بعدها، ولكن بعد وفاة مؤسِّسه وزعيمه سعد زغلول وتولي مصطفى النحاس رئاسته، انفصل مكرم عبيد عنه وأسس حزب الكتلة الوفدية الذي يُنظر إليه باعتباره حزباً وطنياً مصرياً وليس حزباً قبطياً.
وكان مكرم عبيد هو الشخص الوحيد الذي سار في جنازة مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا بعد اغتياله وتعرضه الجماعة للاضطهاد من قِبل الحكم الملكي، إلى جانب والد البنا، ولم يعتقله الأمن؛ نظراً إلى منصبه الحكومي ولكونه مسيحياً. وربطت علاقة صداقة بين مكرم عبيد وحسن البنا لسنوات طويلة.
ولكن بعد ثورة يوليو/تموز وتولي الضباط الأحرار الحكم وترؤس جمال عبد الناصر للبلاد، تراجع دور الأقباط في العمل السياسي بمصر، ويرجع ذلك في الأغلب ليس إلى تمييز من قِبل عبد الناصر للأقباط بل لأسباب أخرى.
منها أن الأقباط كانوا يشكلون نسبة أكبر من وزنهم السكاني في طبقة الأثرياء والطبقة الوسطى المصرية التي كانت تشكل العمود الفقري للأحزاب في العهد الملكي، وبالتالي إضعاف نظام يوليو العسكري الاشتراكي للأحزاب وطبقة الأثرياء أثر على التمثيل القبطي في المناصب، لأن الطبقات الغنية والأحزاب كانت مصدر المناصب قبل يوليو. في المقابل، وبعد إنهاء العهد الملكي، كانت نسبة كبيرة من أصحاب المناصب يأتون إما من خلفية عسكرية أو من الاتحاد الاشتراكي وغيره من الكيانات السياسية التي أسسها النظام وكلاهما، سواء الجيش أو هذه الكيانات، كان الوجود القبطي فيهما ضئيلاً.
ولذا على مدار العهد الجمهوري، اشتكى الأقباط من أن نصيبهم في المناصب أقل من وزنهم السكاني والتاريخي بالبلاد، خاصة في مناصب المحافظين.
وبعد ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ظهر دور بارز للملياردير القبطي نجيب ساويرس، الذي أسس حزب المصريين الأحرار، الذي قدم نفسه كحزب ليبرالي، ثوري مُعادٍ للإسلاميين، كما ظهر دور للعديد من السياسيين والنشطاء الأقباط.
بعد الإطاحة بمحمد مرسي أول رئيس منتخب للبلاد إثر مظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013، حدث تقارب بين الكنيسة القبطية والنظام الجديد، حيث نظرت إلى النظام على أنه ساهم في التخلص من الإخوان المسلمين الذين كانت متحفظة على حكمهم، ولم يمنع ذلك تعرض بعض النشطاء السياسيين الأقباط للمضايقات إذا أظهروا معارضة لسياسة النظام.
وبصفة عامة بدا أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يقترب أكثر من أي رئيس سابق، من الأقباط، بما في ذلك حضور الأعياد القبطية الرئيسية، وتأسيس كنيسة عملاقة في العاصمة الجديدة، وتسهيل إجراءات بناء الكنائس وهي مشكلة كان الأقباط يشكون دوماً منها.
القضاء والأقباط علاقة فريدة نسبياً
في مقابل شكوى الأقباط من التهميش بالمناصب السياسية، كان لهم وجود أقوى نسبياً في هيئات القضاء المصري دوماً، مقارنة بمؤسسات وقطاعات عامة أخرى في البلاد.
فعلى سبيل المثال، مجلس الدولة الذي يعتبر هيئة قضائية مهمة مكلفة بالنظر في القضايا التي تكون الحكومة طرفاً فيها، ترأسه أربعة قضاةٍ أقباط، آخرهم فريد نزيه حكيم تناغو بين عامي 2013 و2014، وقبله مباشرة غبريال عبد الملاك بين عامي 2012، و2013.
لماذا جاء تعيين هذا القاضي في هذا التوقيت؟
بالإضافة إلى أقدمية القاضي بولس فهمي، يمكن القول إن هذا القرار يأتي في إطار مساعي السيسي لتعزيز وجود الأقباط بالحياة العامة، وفي إطار تعزيو ما يمكن تسميته تحالفه مع الكنيسة القبطية، ولكن الأهم أنه قد يأتي في إطار محاولات السيسي إرضاء الغرب، لاسيما إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، التي تنتقد ملف حقوق الإنسان في البلاد، وتطالب بتحسينات في مجال الحريات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
ومن هنا فإن تعيين قبطي في أعلى منصب قضائي بالبلاد، فيه إرضاء للغرب الذي يعطي أولوية لحقوق الأقليات، لاسيما المسيحيين بالشرق الأوسط، وفي الوقت ذاته فهو مطلب ليست له مخاطر من وجهة نظر النظام مثل المطالب الأخرى المتعلقة بالحريات السياسية.
وفي هذا الإطار، أفادت تقارير بأن الحكومة المصرية كانت قد تعاقدت مع شركات أمريكية متخصصة في مجال مساعدة اللوبيات الأجنبية بواشنطن، وأن إحدى هذه الشركات تواصلت مع أعضاء من الكونغرس باهتماماتٍ مختلفة، بعضهم قلقٌ من الحرب ضد "داعش" وأمن إسرائيل، وآخرون متابعون باهتمام لأوضاع الأقباط في مصر.
واستطاعت الشركة التأثير في مواقف أعضاء بالكونغرس ليؤيدوا السيسي، حيث ركّزت في تواصلها على ملف الأقباط وهجمات "داعش" ضدهم، ودور السيسي في حمايتهم.
جدل حول تاريخ المحكمة الدستورية العليا
رغم الإشارة دوماً إلى أن المحكمة الدستورية العليا باعتبارها أعلى محكمة في البلاد، وتأكيد دورها، فإن هناك شكوكاً كانت تلقى من البعض على دور المحكمة، لأنها منذ نشأتها وقضاتها معينون من قِبل رئيس الجمهورية، مما يسمح للسلطة بالتأثير عليها، بينما أعراف القضاء المصري تاريخياً قامت على اختيار رؤساء الهيئات القضائية بالأقدمية؛ لضمان استقلالهم، قبل أن تتغير هذه القواعد، ليصبح تعيينهم بقرار من الرئيس في عهد السيسي.
وفي السابق كان القضاة ينظرون إلى المحكمة الدستورية العليا على أنها ليست جزءاً طبيعياً من القضاء المصري، بمعنى أنها ليست محكمة مشكلة بالشكل الطبيعى الذي تتشكل به المحاكم فى منظومة القضاء المصري، بل كانت أشبه بلجنة شكّلتها الحكومة ممثلة في رئيس الجمهورية ووضعتها فوق القضاء، وقد أكدت ذلك محكمة النقض عام 1974 والجمعية العمومية الطارئة لنادي القضاة والجمعية العمومية لمجلس الدولة والجمعيتان العموميتين لمحكمتي شمال وجنوب القاهرة عام 1978، ثم مؤتمر نادي القضاة عام 1979، ثم مؤتمر العدالة الأول 1986.
واللافت في هذا الصدد، أن رئيس هذه المحكمة التي هي من أحدث محاكم مصر في التأسيس، لا يترأس مجلس القضاء الأعلى الذي يعد الهيئة العليا الناظمة لعمل القضاء والقضاة في البلاد، بل يترأس هذا المجلس رئيسُ محكمة النقض التي ينظر إليها تقليدياً على أنها أعلى سلطة قضائية طبيعية في مصر.
وجعل هذا المحكمة الدستورية العليا (عكس مجلس القضاء الأعلى) طرفاً أساسياً في الخلافات السياسية في الفترة بين 25 يناير/كانون الثاني 2011، و3 يوليو/تموز 2013، حيث اعتبرها كثير من مؤيدي الرئيس الأسبق مرسي ومعارضي 30 يونيو/حزيران طرفاً أو أداة في يد مناهضي ثورة يناير وحكم مرسي، مثلما ظهر في قرارها عام 2012، حل مجلس الشعب الذي انتخب بعد ثورة يناير، في وقت كان يمثل الهيئة السياسية الوحيدة التي لها شرعية الانتخابات في البلاد.
ويعززون وجهة نظرهم هذه بالإشارة إلى تعيين رئيس المحكمة عدلي منصور، في 3 يوليو/تموز 2013، رئيساً مؤقتاً للبلاد، بعد عزل الرئيس المنتخب محمد مرسي، وهو عمل يراه منتقدوه أنه ليس له سند من القانون والدستور، ويُفترض أن القضاء يربأ بنفسه عن أي عمل ليس له سند قانوني حتى لو كان صحيحاً من وجهة نظر البعض أو حتى الأغلبية.
رئيس المحكمة الدستورية قد يصبح أول رئيس قبطي لمصر
ينص الدستور المصري في صيغته الحالية بعد التعديلات التي أدخلت عليه عام 2019، على أنه عند خلو منصب رئيس الجمهورية للاستقالة، أو الوفاة، أو العجز الدائم عن العمل، يعلن مجلس النواب خلو المنصب.
ويكون إعلان خلو المنصب بأغلبية ثلثي الأعضاء على الأقل، إذا كان ذلك لأي سبب آخر. ويخطر مجلس النواب الهيئة الوطنية للانتخابات، ويباشر رئيس مجلس النواب مؤقتاً سلطات رئيس الجمهورية. وإذا كان مجلس النواب غير قائم، تحل الجمعية العامة للمحكمة الدستورية العليا ورئيسها، محل المجلس ورئيسه.
ويعني ذلك أنه في حال خلو منصب الرئاسة ومنصب رئيس مجلس النواب قد يصبح بولس فهمي رئيساً للبلاد، وهو احتمال ليس بضئيل، بالنظر إلى أن مجلس النواب يكون غير منعقد طوال جزء كبير من فصل الصيف، إضافة إلى احتمال انتهاء فترته، والأهم أن مراحل الانتقال السياسي التي تعقب خلو منصب الرئيس لأسباب سياسية، يكون هناك عادةً عدائية للبرلمان الذي يُنظر إليه عادةً أنه تابع للسلطة، بينما يُنظر إلى السلطة القضائية على أنها أكثر حيادية.