أثار قرار الرئيس قيس سعيد حل المجلس الأعلى للقضاء ردود فعل غاضبة ورافضة ليس فقط داخل تونس ولكن خارجها أيضاً، والسؤال هل يواصل الرئيس تأميم السلطات والانفراد بها، أم تنجح المعارضة في التصدي له؟
كان سعيد قد قرر الأحد 6 فبراير/شباط حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وبرر قراره بأنه يحاول "تخليص البلاد من الفساد". وأغلقت قوات الأمن التونسية الاثنين أبواب المجلس، ومنعت الموظفين من الدخول.
المجلس الأعلى للقضاء في تونس هو هيئة دستورية مستقلة من مهامها ضمان استقلالية القضاء ومحاسبة القضاة ومنحهم الترقيات المهنية. وأعلن المجلس في بيان رفض حله في غياب آلية دستورية وقانونية تجيز ذلك، بجانب رفض العديد من الهيئات القضائية والأحزاب السّياسية لهذه الخطوة.
كان سعيّد قد قرر فجأة يوم 25 يوليو/تموز الماضي إقالة الحكومة، متولياً بنفسه السلطة التنفيذية، كما قرر تجميد اختصاصات البرلمان لمدة 30 يوماً، ورفع الحصانة عن النواب، وقرر ترؤس النيابة العامة، ولاحقاً أصدر أوامر بإقالة مسؤولين وتعيين أخرى، ثم قرر سعيّد تمديد تجميد عمل البرلمان لأجل غير مسمى وواصل انفراده بالسلطة.
وترفض غالبية القوى السياسية والمدنية في تونس هذه الإجراءات، وتعتبرها "انقلاباً على الدّستور"، بينما تؤيدها قوى أخرى ترى فيها "تصحيحاً لمسار ثورة 2011″، التي أطاحت بحكم الرئيس آنذاك زين العابدين بن علي.
استقلال القضاء في تونس
يأتي رفض القضاة في تونس قرار الرئيس حل مجلس القضاء الأعلى لأنهم يعتبرون ذلك تقويضاً لاستقلالهم، فالمجلس يُعتبر واحداً من عدد قليل من المؤسسات بتونس لا تزال قادرة على ممارسة صلاحياتها بشكل مستقل عن سعيد، وبالتالي فإن قرار حل المجلس يعتبر أحدث خطوة في عملية توطيد سلطته التي يصفها منتقدوه بالانقلاب.
ومنذ قرارات يوليو/تموز، يخوض سعيد جدالاً مع مؤسسة القضاء وينتقد قراراتها ويتهمها بالفساد، ويقول إنها باتت مخترقة من جانب أعدائه السياسيين.
وتعليقاً على قرار حل المجلس قال يوسف بوزاخر، رئيس المجلس الأعلى للقضاء، إن حل المجلس غير قانوني، ويمثل محاولة لوضع القضاء "في مربع التعليمات" الرئاسية، وأضاف بوزاخر أن القضاة "لن يسكتوا"، بحسب رويترز.
كما نددت مؤسستان قضائيتان أخريان بهذه الخطوة باعتبارها غير دستورية، إذ رفضت جمعية القضاة الشبان خطوة الرئيس، ودعت للتصدي لأكبر حملة تصفية سياسية للقضاء يقودها الرئيس. وقالت جمعية القضاة التونسيين في بيان إن قرار سعيد بحل مجلس القضاء الأعلى يعد "تراجعاً خطيراً وغير مسبوق عن المكاسب الدستورية".
ووصفت الجمعية، وهي الهيئة الأكثر تمثيلاً للقضاة في البلاد، هذا التحرك بأنه "سعي لإخضاع القضاء للسلطة التنفيذية، في ظلّ نظام يجمع فيه رئيس الجمهورية بيده كل السلطات".
كان سعيد أستاذا في القانون الدستوري قبل الترشح للرئاسة في عام 2019، وهو متزوج من قاضية، وقال مراراً إن القضاء يجب أن يتذكر أنه يمثل إحدى وظائف الدولة وليس الدولة نفسها.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، ألغى سعيد امتيازات مالية ممنوحة لأعضاء المجلس الذي تأسس عام 2016، متهماً إياه بتعيين قضاة في مناصبهم على أساس الولاء لقيادته.
وعن أعضاء المجلس قال سعيد في كلمة ألقاها مساء السبت من مبنى وزارة الداخلية التي تشرف على قوى الأمن التونسية "هؤلاء مكانهم ليس المكان الذين يجلسون فيه وإنما المكان الذي يقف فيه المتهمون".
هل حسم سعيد معركة الاستئثار بالسلطة؟
كان سعيد قد تعهد بتعزيز الحقوق والحريات التي اكتسبها التونسيون في ثورة 2011، التي أثمرت نظاماً ديمقراطياً، لكن منتقديه يقولون إنه يتجه بشكل متزايد للاعتماد على قوى الأمن، ويخشون أن يتخذ خطوات أشد صرامة ضد المعارضة.
ورغم ذلك، يقول سعيد إنه لن "يتدخل في شؤون القضاء أبداً"، كما أوضح الإثنين أنه "لا ينوي أن يجمع جميع السلطات"، وأضاف أنه لن يتدخل في أي قضية أو أي تعيين قضائي وأنه "يطمئن الجميع في تونس وخارجها".
لكن المجلس الأعلى للقضاء يحذر من المساس بالبناء الدستوري للسلطة القضائية، ويصف قرارات سعيد بأنها إهدار مفاجئ لكافة ضمانات استقلالية القضاء وتقويض واضح للدستور والمواثيق والمعاهدات الدولية المصادق عليها.
وأثار قرار سعيد ردود فعل غاضبة داخل تونس، ليس فقط من جانب القضاة، ولكن من أغلب الأحزاب والمنظمات السياسية والحقوقية. ورأى رياض الشعيبي، مستشار رئيس حركة "النهضة"، في تصريح لوكالة الأناضول، أن "توجه رئيس الجمهورية بخطابه من وزارة الداخلية له دلالات سلبية وخطيرة على الديمقراطية".
واعتبر أن "هذا القرار (حلّ المجلس) خطوة متقدمة لترسيخ ديكتاتورية شاملة في البلاد، بعد وضع رئاسة الجمهورية يدها على كل السلطة التنفيذية وتجميد السلطة التشريعية. اليوم يتمدد الانقلاب ويشمل أيضاً السلطة القضائية وتصبح واقعياً من مشمولات رئيس الجمهورية، وأعتقد أن هذا نموذج عن دكتاتورية قروسطية (تحكم بأساليب القرون الوسطى)".
وكانت حركة النهضة قد أعلنت "رفضها القاطع لقرار الرئيس حل المجلس الأعلى للقضاء"، واصفة القرار بـ"اللادستوري". "نرفض قطعياً هذا القرار اللادستوري والرامي لاستحواذ رئيس الجمهورية على مرفق العدالة والتحكم في مفاصله".
وكان لافتاً دعوة سعيد مؤيديه للتظاهر تأييداً لقرار حل المجلس الأعلى للقضاء، لكن عدة مئات فقط خرجوا في مظاهرة للاحتجاج على المجلس خارج مقره. ورفع المحتجون لافتات كتبوا عليها شعارات "انتهت اللعبة" و"الشعب يريد تطهير القضاء"، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
ماذا عن رد فعل الخارج على قرارات سعيد؟
يمكن وصف رد فعل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تجاه قرار سعيد حل المجلس الأعلى للقضاء بكلمة واحدة وهي "القلق"، إذ كان مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، قد أعرب عن "قلقه" إزاء قرار حلّ المجلس، مشدداً على أهمية استقلال القضاء.
كما أعربت وزارة الخارجية الأمريكية عن "قلق بالغ" إزاء قرار سعيّد حل المجلس الأعلى للقضاء، وحث نيد برايس، المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، الحكومة التونسية على الوفاء بالتزاماتها بشأن احترام استقلال القضاء.
كما جدد برايس دعوة الولايات المتحدة للتعجيل بإطلاق مسار إصلاح سياسي في تونس يستجيب لتطلعات شعبها، وتشارك فيه الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات.
لكن المشهد السياسي الداخلي في تونس يبدو منقسما بشأن قرارات سعيد، إذ وصف عبيد البريكي، رئيس "حركة تونس إلى الأمام" (يسار- بلا نواب)، قرار سعيد حل مجلس القضاء بـ"القرار الجريء والمستجيب لطبيعة المرحلة الحالية".
واعتبر البريكي، في تصريح صحفي، أن "قرار 25 يوليو (الإجراءات الاستثنائية) وما تبعه من حلّ المجلس، تعتبر من القرارات المفصلية في تاريخ تونس، ويمكن لرئيس الجمهورية إصدار مرسوم ينظم السلطة القضائية".
أما شهاب دغيم، المحلل السياسي، فقد اعتبر أن "حل المجلس الأعلى للقضاء كان هاجساً عند رئيس الجمهورية، وفي كل مرة كان يتعرض للمسألة في خطبه المتلفزة وزياراته الفجائية الصباحية والليلية، أو في لقائه بالحقوقيين أو الوزراء".
"سعيد يفكك مؤسسات الدولة الواحدة تلو الأخرى، والتي يمكن أن تعيق حركته السياسية ومشروعه: الشعب يريد. الفصل بين السلطات مبدأ عام يوجد حتى في الديكتاتوريات، واليوم انتفى بحل المجلس.. والتداعيات السياسية لتجميع السلطات بهذه الطريقة المفرطة خطير على مستقبل الديمقراطية والحريات".
لكن كثير من المعارضين لإجراءات سعيد الاستثنائية يرون أن خطوة حل مجلس القضاء تمثل "تعدياً على صلاحيات المؤسسة القضائية، وترسيخاً لدكتاتورية شاملة"، وهذا ما عبّر عنه رئيس المجلس بوزاخر بقوله، إن "هذه مرحلة جديدة من الاعتداء على المجلس، وافتكاك مؤسسات الدولة والاستيلاء على السلطة القضائية، وسيتم اتخاذ الإجراءات المناسبة (لم يحددها)، بعد أن تتضح دواعي هذا الإجراء".
كيف يؤثر حل المجلس على عمل القضاة؟
رداً على اتهامات سعيد للقضاة بالفساد، قال بوزاخر إن "الاتهامات بالفساد لا ينبغي أن تُلقى جزافاً، بل تُقدم في شأنها ملفات ومؤيدات"، كما أعرب المجلس، في بيان الأحد، عن رفض اتهامه بـ"التقصير"، داعياً إلى "الكفّ عن مغالطة الرأي العام بأن المجلس هو المكلف بالفصل في القضايا".
ويقول الشعيبي للأناضول إنه "لا معنى أن نحل المجلس الأعلى للقضاء ونستبدله بلجنة وظيفية متكونة من بعض القضاة، فلا ضمانة لاستقلاليتهم وحيادهم وضمان تسيير المرفق القضائي والإشراف على مرفق العدالة".
وقال القاضي السابق بالمحكمة الإدارية، أحمد صواب، إن "القضاة لن يصمتوا" على تحرك سعيد لحل المجلس الأعلى للقضاء، وأضاف للأناضول أن القضاة مدعومون من زملائهم القدامى و"بعض المحامين وحزام سياسي وحزام مدني تقدمي، ودور الاتحاد العام للشغل (أكبر نقابة عمالية) سيكون حاسماً".
ورأى القاضي السابق أنه "بهذا الالتفاف ستُفتح جبهة جديدة ضد سعيد، الذي اتخذ أخطر قرار سيضر تونس في علاقاتها الدولية، وهو وأد لاستقلال القضاء واغتيال لدولة القانون".
واتهمت حركة النهضة سعيد بأنه قرر حل المجلس "من أجل استخدام (القضاء) كأداة لتصفية الخصوم السّياسيين، وإغلاق الفضاء العمومي، وتركيز منظومة للحكم الفردي المطلق".
وبعد أن قال سعيّد، الإثنين، إن "مشروع حلّ المجلس الأعلى للقضاء جاهز"، مشدداً على أنه "كان من الضروري اتخاذ هذه الخطوة"، يظل السؤال الآن إذا ما كان الرئيس التونسي سيواصل بالفعل ما يصفه منتقدوه بأنه "انفراد بالسلطة" أم أن المعارضة قد تنجح في إيقاف ذلك المسار؟
كانت "تنسيقية الأحزاب الاجتماعية الديمقراطية" قد طرحت مبادرة سياسية تمثلت في العمل على إجراء حوار وطني دون مشاركة الرئيس سعيد. وتنسيقية الأحزاب الاجتماعية تضم أحزاب التيار الديمقراطي (22 نائباً/ 217 في البرلمان المجمدة أعماله)، والجمهوري (لا نواب له)، والتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات (لا نواب له).
لكن المحلل السياسي بولبابة سالم اعتبر فكرة الحوار جيدة، لكنه لفت في حديث للأناضول أن الفكرة التي طرحتها الأحزاب الاجتماعية الوسطية الديمقراطية لم تستثن الرئيس فقط، بل استثنت الرئيس، والحزب الدستوري الحر (16 نائباً)، وحركة النهضة (53 نائباً)، وائتلاف الكرامة (18 نائباً).
"الحوار لن يكون شاملاً حتى يمكن اعتباره ورقة ضغط سياسي، لأن قوى المعارضة مجتمعة مع بعض المنظمات عندما تقدم ورقة عمل قد تمثل حرجاً (للرئيس)، ولا يجد الرئيس حجة لعدم الحوار وإيجاد حلول". ولفت سالم إلى أن "الوضع خطير، لذلك لا يمكن استبعاد أحزاب لها قاعدة شعبية هامة".
ويرى سالم، وكثيرون غيره، أن تشتت المعارضة التونسية سبب ضعف أدائها، وقال "على المعارضة العمل في كيان سياسي واحد، إذا كانوا (قادة المعارضة) حقاً يتحدثون عن خطر انهيار الدولة"، مضيفاً "لكن رغم اشتراكهم في التشخيص لم يستطيعوا التوحد في جسم سياسي واحد لأسباب عديدة تتعلق بصراع الزعامات والحسابات، ما ترك موقفهم ضعيفاً، لأن المعارضة غير موحدة ومشتتة".