إصدار الرئيس الأمريكي جو بايدن تعهداً بوقف خط نورستريم2 إذا ما أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا يطرح تساؤلات بشأن موقف ألمانيا، صاحبة المشروع، خصوصاً أن المستشار أولاف شولتز كان بجوار بايدن ولم يعلق.
خط نورد ستريم2 هو مشروع عملاق هدفه نقل الغاز الروسي إلى أوروبا من خلال ألمانيا، وتم الإعلان عنه لأول مرة عام 2015، وقد اكتمل بناء خط الأنابيب في سبتمبر/أيلول الماضي، بطول 1200 كلم وبلغت تكلفته 11 مليار يورو وينتظر الآن اكتمال عمليات التصريح للبدء بضخ الغاز الروسي.
وطوال السنوات التي استغرقها بناء خط الأنابيب، سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى منعه بشتى السبل الممكنة، وتوترت العلاقات بشدة بين واشنطن وبرلين خلال إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي هاجم المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل بشراسة بسبب ذلك المشروع.
وبعد أن خسر حزب ميركل الانتخابات الأخيرة وجاء الائتلاف الثلاثي الحاكم حالياً إلى السلطة، بدا أن المستشار الجديد شولتز سيكون أكثر ميلاً نحو استعادة بريق التحالف بين برلين وواشنطن إلى عهده السابق، لكن ما اتضح خلال الأزمة الأوكرانية يوحي بعكس ذلك، على الأقل حتى الآن.
إلى أين وصل مشروع الغاز الروسي لألمانيا؟
وبينما تتصاعد حدة أزمة أوكرانيا، توجه شولتز إلى واشنطن للقاء بايدن والغرض الرئيسي للزيارة في هذا التوقيت، بحسب أغلب المحللين، هو إظهار وحدة وتكاتف الموقف الغربي في مواجهة روسيا، خصوصا أن الحديث عن "تباينات" داخل مواقف أعضاء حلف الناتو بشأن كيفية التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد خرجت بالفعل إلى العلن.
وبعد جلسة محادثات مع شولتز في البيت الأبيض، قال بايدن للصحفيين إن الولايات المتحدة "ستضع حداً" لخط أنابيب الغاز (الروسي) الذي يصل إلى ألمانيا. "إذا غزت روسيا.. مرة أخرى، فلن يكون هناك نورد ستريم 2. سننهي ذلك".
لكن الرئيس الأمريكي لم يذكر تفاصيل ما قد يحدث، وقال رداً على سؤال حول كيفية القيام بذلك: "أعدكم أننا سنكون قادرين على القيام بذلك".
لكن على الرغم من أن المستشار الألماني كان حريصاً على إظهار تطابق المواقف بينه وبين بايدن، إلا أنه عندما سُئل عن خط الغاز الروسي، لم يقدم إجابة واضحة. وقال شولتز للصحفيين إن الولايات المتحدة وألمانيا "متحدتان تماماً" بشأن العقوبات ضد روسيا في حال غزوها أوكرانيا.
ويواجه شولتز وحكومته، المعروفة ائتلاف إشارة المرور نسبة إلى ألوان الأحزاب الثلاثة أعضاء الائتلاف، انتقادات عنيفة في وسائل الإعلام الأمريكية والبريطانية بشكل خاص على خلفية الموقف الألماني من أزمة أوكرانيا.
وقد وصلت الأمور إلى حد نشر صحيفة Wall Street Journal الأمريكية مقالاً عنوانه "هل ألمانيا حليف يمكن لأمريكا أن تعتمد عليه؟ كلا"، رصد كيف أن الحكومة الألمانية تتبع سياستها الخاصة التي تقدم فيها مصالحها الاقتصادية على العلاقات الجيوسياسية بين الشرق والغرب.
وجاء هذا التشكيك في مدى التزام ألمانيا بالموقف الغربي من روسيا في توقيت حرج من الأزمة، إذ وضعت واشنطن 8500 جندي من قواتها في حالة تأهب استعداداً لنشرهم في أوروبا الشرقية إذا لزم الأمر، وذلك بعد أن أرسلت بالفعل ألفي جندي إلى بولندا.
وفي ظل هذه التطورات، يقوم شولتز بأول رحلة له إلى واشنطن منذ أن أصبح مستشاراً وسط انتقادات لرد فعله تجاه الأزمة الأوكرانية، لكنه كان أكثر غموضاً بشأن خط الأنابيب.
لكنه قال إن الولايات المتحدة وألمانيا "متحدتان تماماً" بشأن العقوبات ضد روسيا في حال غزوها أوكرانيا، قائلاً: "سنفعل الخطوات نفسها وستكون صعبة للغاية بالنسبة لروسيا".
ماذا يعني الموقف الألماني إذاً؟
كان واضحاً من خلال المؤتمر الصحفي المشترك لبايدن وشولتز ومن خلال المقابلات الإعلامية التي أجراها المستشار الألماني في الولايات المتحدة أن الهدف الرئيسي لزعيمي الحليفين الغربيين هو إظهار "الوحدة" بينهما بشأن الأزمة الأوكرانية وأنه في حال أقدمت روسيا بالفعل على غزو أوكرانيا سيكون هناك موقف غربي صارم تجاه روسيا وزعيمها بوتين.
لكن يبدو أن هذا "الاستعراض للوحدة" لم يكن كاملاً أو مقنعاً، والسبب الرئيسي هو خط غاز نورد ستريم2، حيث تجاهل شولتز ذكر المشروع بالاسم، وهو ما يؤكد ما صوره أعضاء الكونغرس من الجمهوريين بشأن كون برلين معارضة للعقوبات على روسيا بسبب اهتمامها بالحفاظ على واردات الغاز من روسيا.
ومقابل إصرار بايدن على أنه لن يبدأ العمل بخط أنابيب "نورد ستريم 2" إذا غزت موسكو أوكرانيا، تجنب شولتز الذهاب إلى هذا الحد، مشيراً إلى الحاجة إلى الغموض الاستراتيجي، بحسب تحليل لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
لكن وجود المستشار الألماني الأسبق وزعيم الحزب الاشتراكي جيرهارد شرودر كعضو في مجلس إدارة خط نوردستريم، وإعلان شركة غازبروم الروسية الأسبوع الماضي عضواً في مجلس إدارتها، ألقى بمزيد من الشكوك حول موقف ألمانيا، وواجه شولتز أسئلة حادة في هذا الشأن خلال مقابلة له مع شبكة CNN الأمريكية خلال زيارته.
"إنه (شرودر) لا يتحدث باسم الحكومة (الألمانية) ولا يعمل في الحكومة ولا يمثل الحكومة وأنا المستشار حالياً"! هكذا رد شولتز على الأسئلة بشأن شرودر، الذي وجد نفسه فجأة يتحمَّل إرث ميركل دون أن يمتلك الأدوات التي توفرت لها.
فميركل كانت تتمتع بسلطة شبه مطلقة في تحديد السياسات الخارجية لألمانيا، وكان حزبها يتمتع بأغلبية مريحة داخل البرلمان، عكس شرودر الذي يقود ائتلافاً من ثلاثة أحزاب، وهناك مصالح متداخلة بين تلك الأحزاب وأجندات ليس بالضرورة أن تكون متطابقة.
ألمانيا وموقفها الغامض من الأزمة الأوكرانية
عندما أقدمت روسيا على غزو وضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، لعبت ميركل دوراً محورياً في الوساطة بين بوتين والدول الغربية في أوروبا وفي حلف الناتو، وكانت تتحدث باستمرار وبشكل مباشر مع الرئيس الروسي، أما شولتز فهو لا يمتك تلك الأريحية ولا يمكنه أن يلعب هذا الدور، وكانت المرة الأخيرة التي تحدث فيها مع بوتين مباشرة في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وهناك نقطة أخرى من المهم التوقف عندها كي تتضح أبعاد الموقف الألماني فيما يتعلق بمشروع خط أنابيب نورد ستريم2 تحديداً وهي معارضة أوكرانيا الشرسة للمشروع منذ البداية. فبينما تعارض واشنطن المشروع لأسباب جيوسياسية تتعلق بالصراع السياسي مع روسيا، تعارضه كييف لأسباب اقتصادية بحتة تتعلق بحرمانها من عائدات مرور الغاز الروسي إلى أوروبا من أراضيها.
وهناك أطراف داخل ألمانيا بالطبع تقول إن من حق برلين أن تحافظ على مصالحها الاقتصادية، كون ألمانيا المستفيد الأكبر من الغاز الروسي الأرخص سعراً مقارنة بأي مصادر بديلة أخرى، هذا إذا توفرت تلك المصادر من الأساس.
والنقطة الأخرى تتعلق بطبيعة الأزمة نفسها، بمعنى أن الكرملين ينفي وجود نية لغزو أوكرانيا، والرئيس الأوكراني نفسه ألمح إلى أن بعض القادة الغربيين يروِّجون لفكرة الغزو الروسي لأسباب تخصهم سياسياً، وبالتالي فإن الأطراف الألمانية تستخدم تلك المعطيات للتأكيد على أن خط الغاز الروسي ليس طرفاً من الأساس في الأزمة الأوكرانية، من وجهة نظر برلين.
وكان قائد البحرية الألمانية السابق كاي آخيم شونباخ قد تحدث عن رأيه في الصراع الروسي الأوكراني علناً لمؤسسة بحثية هندية، قائلاً إن ما يريده بوتين هو أن يعامله الغرب "باحترام وعلى قدم المساواة" وأن الرئيس الروسي "يستحق ذلك"، مما أثار أزمة عنيفة واضطر الرجل إلى تقديم استقالته.
لكن شكوكاً ظلت لدى كثير من الحلفاء بشأن إذا ما كانت تصريحات شونباخ تعبر عن رأي شخصي فقط، أم أنها تعبر عما يفكر فيه عدد كبير من النخب السياسية والعسكرية في ألمانيا.
وعلى الرغم من أن كريستوف هويسغن، مستشار الأمن القومي للمستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، أكد في حديث مع موقع دويتش فيله أن الإقالة السريعة لقائد سلاح البحرية دليل على الاتفاق العام في صفوف الحكومة الحالية، إلا أن ذلك كشف عن تشققات في صورة ألمانيا عند الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا الشرقية. لذلك، انهالت الانتقادات على برلين، جزء منها كان ممزوجاً بشيء من الإهانة.
وما زاد الطين بلة أن ألمانيا بعد أن رضخت لضغوط من كييف وحلفاء آخرين، وافقت على إرسال 5000 خوذة عسكرية فقط من أصل 100 ألف طلبتها أوكرانيا. كما أوضحت خرائط الطيران أن طائرات نقل السلاح البريطانية إلى أوكرانيا اضطرت لعمل التفاف كبير وواضح حول المجال الجوي الألماني.
والخلاصة أنه بات واضحاً الآن وجود تصدعات في السياسة الألمانية بين شركاء التحالف الحاكم في الحكومة الجديدة، فحزبا الخضر والديمقراطيين الأحرار يمثلان سياسة ألمانية أكثر صرامة تجاه روسيا، بينما يشدد الحزب الاشتراكي الديمقراطي على ضرورة استكمال "التهدئة" و"الحوار" في العلاقات مع موسكو. وبالتالي فإن سعي بايدن لإظهار "الوحدة" بين أمريكا وألمانيا في مواجهة بوتين قد لا يكون "مقنعاً".