"إسرائيل دولة فصل عنصري"، صدر هذا الاتهام من أهم منظمتين حقوقيتين في العالم، معززاً بأدلة عن عنصرية إسرائيل، ومصحوباً بدعوة للجنائية الدولية لمحاكمة الدولة العبرية، فهل يعني ذلك أن إسرائيل قد تلقى مصير نظام جنوب إفريقيا العنصري؟
في حين يربط الكثيرون هذه الكلمة بجنوب إفريقيا، إلا أنها في الواقع مصطلح قانوني عالمي وجريمة ضد الإنسانية، وبالتالي فهو يمثِّل واحدةً من أخطر الجرائم الدولية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
عنصرية إسرائيل تحت المجهر لأول مرة
وأصبحت هيومن رايتس ووتش في، 1 فبراير/شباط، أول منظمة حقوقية دولية كبرى تتَّهِم السلطات الإسرائيلية بتأسيس نظام فصلٍ عنصري ضد الفلسطينيين، تلى ذلك اتهام مشابه من منظمة العفو الدولية.
ونفت إسرائيل بشدة هذه المزاعم ورفضت تقرير هيومان رايتس ووتش، المؤلَّف من 213 صفحة، ووصفته بأنه "منشور دعائي يفتقر إلى أيِّ مصداقية"، ووجَّهَت اتهاماً للمنظمة، التي تتَّخِذ من نيويورك مقراً لها بأن لديها أجندة معادية لإسرائيل منذ زمن.
لكن هيومن رايتس ووتش ليست أول من استخدم مصطلح الإدانة هذا للحديث عن عنصرية إسرائيل.
لطالما قال مُحلِّلون وجماعات حقوقية فلسطينية إن تصرُّفات إسرائيل ترقى إلى مستوى الفصل العنصري، وهو موقفٌ، بصرف النظر عن الجدالات ضده، رفضه أنصار إسرائيل لسنواتٍ باعتباره متطرِّفاً.
لكن أصبح من الصعب القول إنه رأيٌ متطرِّف لأن عدداً متزايداً من الجماعات الحقوقية والخبراء توصَّلوا إلى استنتاجاتٍ مماثلة. في يوليو/تموز من العام الماضي، ومرةً أخرى في يناير/كانون الثاني من العام الجاري، نشرت مجموعتان إسرائيليتان بارزتان لحقوق الإنسان، هما "يش دين" ثم "بتسيلم"، أوراقاً خلُصَت إلى أن إسرائيل تمثِّل نظام فصلٍ عنصري.
وها هي العفو الدولية تلحق بها
وعقب يوم واحد من تقرير هيومان رايتس وتش، بشأن عنصرية إسرائيل، لحقت منظمة العفو الدولية بالركب تحديداً في 2 فبراير/شباط 2022.
إذ قالت المنظمة في تقرير جديد إنه يجب محاسبة السلطات الإسرائيلية على ارتكاب جريمة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين. يشرح التحقيق كيف تطبق إسرائيل نظام القهر والهيمنة على الشعب الفلسطيني، ويشمل ذلك الفلسطينيين الذين يعيشون في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك اللاجئين النازحين في بلدان أخرى.
ويوثق التقرير الشامل، مظاهر الفصل العنصري الإسرائيلي ضد الفلسطينيين مثل: النظام القاسي للهيمنة والجرائم ضد الإنسانية، وعمليات المصادرة الجماعية للأراضي والممتلكات الفلسطينية، والقتل غير القانوني، والترحيل القسري، والقيود الصارمة على الحركة، وحرمان الفلسطينيين من الجنسية والمواطنة.
وأكد التقرير أن هذه مكونات نظام يصل إلى مستوى الفصل العنصري بموجب القانون الدولي.
وأشار التقرير إلى أنه يتم الحفاظ على هذا النظام من خلال الانتهاكات التي وجدت منظمة العفو الدولية أنها تشكل فصلاً عنصرياً كجريمة ضد الإنسانية، على النحو المحدد في نظام روما الأساسي واتفاقية الفصل العنصري.
العفو الدولية تدعو الجنائية للنظر في جريمة نظام الفصل العنصري في إسرائيل
ودعت منظمة العفو الدولية المحكمة الجنائية الدولية إلى النظر في جريمة الفصل العنصري في تحقيقها الحالي في الأرض الفلسطينية المحتلة، كما دعت جميع الدول إلى ممارسة الولاية القضائية العالمية لتقديم مرتكبي جرائم الفصل العنصري إلى العدالة.
وقالت: "لا يوجد مبرر محتمل لنظام مبني على القمع العنصري المؤسسي والمطول لملايين الناس. لا مكان للفصل العنصري في عالمنا، والدول التي تختار السماح بإسرائيل ستجد نفسها في الجانب الخطأ من التاريخ".
وأضافت: "الحكومات التي تواصل تزويد إسرائيل بالسلاح وحمايتها من المساءلة في الأمم المتحدة تدعم نظام الفصل العنصري، وتقويض النظام القانوني الدولي، وتفاقم معاناة الشعب الفلسطيني. يجب على المجتمع الدولي مواجهة واقع الفصل العنصري الإسرائيلي، والسعي وراء العديد من السبل لتحقيق العدالة التي لا تزال غير مكتشفة بشكل مخجل".
تستند النتائج التي توصلت إليها منظمة العفو الدولية إلى مجموعة متزايدة من الأعمال التي تقوم بها المنظمات غير الحكومية الفلسطينية والإسرائيلية والدولية، والتي طبقت بشكل متزايد إطار الفصل العنصري على الوضع في إسرائيل و / أو الأراضي الفلسطينية المحتلة.
هل تتم معاقبة إسرائيل مثلما حدث لنظام جنوب إفريقيا العنصري البائد؟
في تقريرها- الذي يحمل عنوان "Threshold Crossed- اجتياز العتبة"- تذهب هيومن رايتس ووتش إلى أبعد من وصف إسرائيل بأنها نظام فصل عنصري بل تدعو أيضاً إلى مساءلتها بما في اقتراح فرض عقوبات، وإنشاء هيئات تحقيق دولية يمكن أن تؤدي إلى ملاحقات قضائية، وأن تكون مبيعات الأسلحة والمساعدات العسكرية المستقبلية لإسرائيل مشروطةً بخطواتٍ إيجابية تتَّخِذها تل أبيب.
ومع ذلك، فهذه إجراءاتٌ سياسية تتطلَّب من حلفاء إسرائيل مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة العمل ضد ما يعتبرونه على الأرجح مصالحهم ومعتقداتهم الخاصة.
إسرائيل تخضع بالفعل لتحقيق من قبل الجنائية الدولية
تخضع السلطات الإسرائيلية بالفعل للتحقيق أمام المحكمة الجنائية الدولية بشأن الجرائم الدولية المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بينما رفضت إسرائيل بشدة هذه المزاعم والتحقيق برمته قائلة إن المحكمة الجنائية الدولية ليس لها اختصاص.
فلقد أصدرت المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا في 3 مارس/آذار 2021 بياناً تعلن فيه فتح تحقيق رسمي في جرائم مفترضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بناء على فتوى الدائرة التمهيدية الأولى للمحكمة قبل شهر من ذلك التاريخ، بأن الاختصاص القضائي للمحكمة يشمل فلسطين كونها عضواً في المحكمة، رغم أنها ليست دولة مستقلة.
تجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة منحت فلسطين صفة دولة مراقب غير عضو بعد تصويت تاريخي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012. وصوتت لصالح الطلب الفلسطيني 138، دولة فيما عارضته 9 دول، وامتنعت 41 دولة عن التصويت.
وبناء على نيلها صفة الدولة المراقب في الأمم المتحدة، انضمت فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية عام 2015، لتصبح العضو الـ123 بالمحكمة التي تأسست عام 2002.
كان جزءٌ من الدافع للانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية هو رغبة السلطة الفلسطينية في "تدويل" عملية السلام الفاشلة، التي لطالما هيمَنَت عليها واشنطن. لكن هذه الخطوة كانت بمثابة تصميمٍ على ملاحقة إسرائيل في المحكمة، وفتح التحقيق في جرائم إسرائيل ليس فقط بسبب حرب 2014، بل أيضاً لسياسة إسرائيل المستمرة في بناء المستوطنات والاحتلال.
في السنوات الأخيرة، حقَّقَ الفلسطينيون سلسلةً من الانتصارات القانونية، والتي بدأت بحكم المحكمة بأن الفلسطينيين لديهم سمات الدولة الكافية ليكونوا موقِّعين على ميثاق روما وأن يقدِّموا شكاوى إلى المحكمة، وبالتالي التحقيق في جرائم إسرائيل المتعددة.
ولكن حلفاء إسرائيل سارعوا أيضاً إلى الاتفاق على القول بأن المحكمة الجنائية الدولية تستهدف إسرائيل بشكلٍ غير عادل. ذهب رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون إلى أبعد من ذلك، قائلاً في رسالةٍ أخيرة إن التحقيق "يعطي الانطباع بأنه هجومٌ متحيِّز ضد حليفٍ للمملكة المتحدة".
لذا فمن غير المُرجَّح أن توافق حكومة المملكة المتحدة على قراءة هيومن رايتس ووتش أو متابعة توصياتها. ومن غير المُرجَّح أن تفعل ذلك أيُّ دولة غربية.
وبعد إعلان المدعية العامة تحديد موعد فتح التحقيق، كان لافتاً أن إدارة الرئيس الأمريكي الديمقراطي جو بايدن سارت على نهج ترامب في حماية إسرائيل من القانون الدولي، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، نيد برايس، في ذلك الوقت، إن الولايات المتحدة ما زالت تعارض بشدة خطط المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في إساءة معاملة إسرائيل "المزعومة" للفلسطينيين، وتعتقد أنها تفتقر إلى الولاية القضائية على هذه المسألة.
"الجنائية الدولية" من اختصاصها النظر في جريمة الفصل العنصري
لدى المحكمة الجنائية الدولية اختصاص النظر في جريمة الفصل العنصري في تحقيقها القادم. لكن وفقاً لخبراء القانون الدولي، لا توجد سوابق قضائية. لا أحد يعرف نوع الأدلة التي سيطلبها القضاة ليتوصَّلوا إلى أن دولةً ما قد تورَّطَت في الفصل العنصري.
يقول كيفن جون هيلر، أستاذ القانون الدولي والأمن في جامعة كوبنهاغن وأستاذ القانون في الجامعة الوطنية الأسترالية: "ليس لدينا اجتهاداتٌ قضائية على الإطلاق، حيث لم تُقَاضَ (إسرائيل) مُطلَقاً من قبل".
وأضاف: "لدينا تعريفٌ في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، ولدينا اتفاقية الفصل العنصري، لكنها جريمة جديدة تماماً من الناحية القانونية. إنها ليست جريمةً مباشرة. إنها تعتمد بشكلٍ كبير على الحقائق".
والنشطاء قد يطاردون قادة إسرائيل في محاكمهم المحلية، ولكن الحكومات ستحميهم
وقال إن عدداً متزايداً من الجماعات الحقوقية التي تجادل بأن إسرائيل ترتكب الفصل العنصري قد تؤدِّي، مع ذلك، إلى "تصاعد النشاط" لدفع الدول إلى استخدام الولاية القضائية العالمية من أجل التحقيق مع المتورِّطين بشكلٍ موثوق باستخدام محاكمهم الوطنية ومقاضاتهم. لكن ذلك سيكون أيضاً غير مُرجَّح وستقاومه الدول بشدة.
على سبيل المثال، غيرت الحكومة البريطانية بالفعل قانون المملكة المتحدة بشأن الولاية القضائية العالمية عندما اضطرت تسيبي ليفني، الوزيرة الإسرائيلية السابقة، إلى إلغاء رحلتها إلى لندن في ديسمبر/كانون الأول 2009 بعد أن أصدرت محكمة الصلح في وستمنستر مذكرة توقيف.
الآن في المملكة المتحدة، أصبح القانون يتطلَّب موافقة مسبقة من مدير النيابة العامة قبل إصدار مذكرة توقيف تتعلق بجرائم حرب دولية.
مُنِحَت ليفني لاحقاً حصانةً دبلوماسية مؤقتة خلال زيارة في عام 2014.
ولذلك يقول خبراء القانون الدولي إنهم يرون أن تقرير هيومن رايتس ووتش والعدد المتزايد من الجماعات الحقوقية التي تناقش نفس النقطة، له تأثير "رمزي" أكبر. وقد يشجِّع المصطلح آخرين على نشره في المستقبل.
وقالت وزارة الخارجية الإسرائيلية في بيانٍ لها: "هذا التقرير هو جزءٌ آخر من الحملة المستمرة للمنظمة، بقيادة أحد مؤيدي حركة المقاطعة المعروفين، دون أيَّة صلةٍ بالحقائق أو الواقع على الأرض".
وأضافت: "الادعاءات الخيالية التي قامت هيومن رايتس ووتش بتلفيقها هي ادعاءاتٌ كاذبة وغير معقولة".
وفي صحيفة Jerusalem Post الإسرائيلية، اتَّهَمَ الأكاديمي الإسرائيلي جيرالد إم شتاينبرغ الجماعة الحقوقية بتشويه صورة إسرائيل عمداً من خلال "دعاية الفصل العنصري". وقال إنها تنوي "نزع الشرعية عن مفهوم المساواة اليهودية في السيادة" من خلال رسم "خطٍّ مباشرٍ إلى جنوب إفريقيا".
وتقول صحيفة The Independent إنه بصرف النظر عن حجج هيومن رايتس ووتش نفسها، أو حجج المنظمات الأخرى، فإن هناك تحوُّلاً مهماً يجري على هذا الصعيد. ورغم أن هذا لن يولِّد أيَّ اختلافاتٍ عملية في الوقت الحالي، قد تكون له آثارٌ عميقة في المستقبل.