قبل أربعة عشر عاماً، كانت كل الأنظار تتجه إلى الصين باعتبارها البلد المضيف للحدث الرياضي الدولي الأبرز في العالم، تماماً كما هو الحال الآن. ومنذ ذلك الحين، يُنظَر إلى أولمبياد بكين لعام 2008 على أنها منعطف فريد يمثل اللحظة التي وُلِدت فيها الصين أخيراً باعتبارها "قوة عظمى عالمية"، وقد تغيرت الصين بعدة طرق منذ ذلك الحين، عدَّدتها صحيفة The Washington Post.
لكن على الرغم من التغييرات المهمة في الاقتصاد والمجتمع والسياسة في الصين، هناك أيضاً أوجه تشابه بين حركة المقاطعة التي ظهرت قبل دورة الألعاب الأولمبية لعام 2008 والحركة التي حدثت قبل دورة الألعاب هذا العام. لكن مع اختلاف رئيسي واحد: لم تنجح حركة المقاطعة عام 2008.
ففي أولمبياد 2008، حضر الرئيس جورج دبليو بوش مراسم الافتتاح مع أكثر من 80 رئيس دولة أو حكومة من جميع أنحاء العالم. وخلال رحلته إلى العاصمة الصينية، شجع بوش فريق السباحة الأمريكي والتقى بنائب الرئيس الصيني آنذاك شي جين بينغ.
لكن هذا العام لم يحضر الرئيس بايدن، ولن يفعل أي مسؤول حكومي أمريكي آخر. ويشارك عدد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة وأستراليا وبريطانيا وكندا، في مقاطعة دبلوماسية للألعاب الأولمبية الشتوية بسبب انتهاكات الصين لحقوق الإنسان.
لماذا فشلت دعوات المقاطعة لأولمبياد بكين 2008؟
تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية، إنه لم يكن هناك نقص في الدعم رفيع المستوى لهذه الخطوة، حتى في الولايات المتحدة. فقد وقّع أكثر من 100 مُشرِّع أمريكي على رسالة تدعو إلى المقاطعة. وأشار السيناتور جون ماكين والسيناتور باراك أوباما، اللذان برزا بعد ذلك بصفتهما مرشحين جمهوريين وديمقراطيين لمنصب الرئيس المقبل، إلى أنهما لن يحضرا الألعاب لو وصلا للرئاسة.
وقال الراحل ماكين، في بيان قبل الألعاب الأولمبية: "إذا لم تتغير السياسات والممارسات الصينية، فلن أحضر مراسم الافتتاح. لا يخدم الحكومة الصينية، وبالتأكيد لا يخدم الشعب الصيني، أن تتظاهر الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى بأنَّ قمع الحقوق في الصين لا يهمنا. هذا موضوع يهمنا، وسيظل يفعل مستقبلاً، وهذا ما يجب أن يكون عليه الوضع".
وقد تغيب جميع القادة البارزين الآخرين في ذلك الوقت، بمن فيهم رئيس الوزراء البريطاني جوردون براون والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البولندي دونالد تاسك عن مراسم الافتتاح. وسرقت الاحتجاجات المناهضة للصين في لندن وباريس الانتباه من حفل الشعلة الدولية؛ مما أثار تصريحات قلقة من مسؤولي اللجنة الأولمبية الدولية.
ومع ذلك، بدأ مسار الأحداث يتحول خلال الألعاب، وربما حضور بوش والقادة الأوروبيين الآخرين هو ما ساعد في ضمان ذلك. وفازت الصين بميداليات ذهبية أكثر من الولايات المتحدة؛ حتى إنها تمكنت من تنقية الهواء من خلال إغلاق المصانع وحظر المرور لمحاربة الضباب الدخاني الذي كان يمثل علامة بارزة عنها في ذلك الوقت.
القضايا التي أدت لمقاطعة بكين في 2008 لا تختلف كثيراً عن 2022
وفي ذلك الوقت، لم يكن قمع الدولة الصينية لأقلية الإيغور المسلمة، قد أصبح قضية عالمية كما هو الآن. ومع ذلك، لم يكن هناك نقص في قضايا حقوق الإنسان الأخرى في الصين التي دقت ناقوس الخطر. كان على رأسها القمع في التبت، الذي سلّطت الضوء عليه حملة بكين العنيفة ضد الرهبان والراهبات الذين طالبوا بمزيد من الحكم الذاتي. وتشير الروايات إلى مقتل أو "اختفاء" كثيرين منهم على أيدي قوات الأمن، وإغلاق المنطقة أمام الغرباء بعد ذلك.
وأعلنت الولايات المتحدة العام الماضي أنَّ معاملة الصين لمسلمي الإيغور ترقى للإبادة الجماعية، مشيرة إلى حملة الاعتقال الجماعي والتطهير في منطقة شينجيانغ – وهو تصعيد كبير للتهم الموجهة ضد الحكومة الصينية.
وفي عام 2008، ارتبطت بكين أيضاً بالإبادة الجماعية، باتهامها بالمساعدة في عمليات القتل الجماعي في منطقة دارفور بغرب السودان عن طريق شراء النفط من السودان، حيث اتُّهِمَت حكومة الرئيس عمر حسن البشير بارتكاب فظائع في صراع أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 300000 شخص في المنطقة.
نحى الأمل في التعاون كل هذا جانباً. قال بوش لشبكة NBC News، خلال زيارته لبكين عام 2008: "على المدى الطويل، من الأفضل أن تظل أمريكا منخرطة مع الصين وتفهم أنه يمكننا أن نحظى بعلاقة تعاونية وبناءة ولكن صريحة. من المهم حقاً أن يفهم الرؤساء المستقبليون العلاقة بين الصين والمنطقة، ومن المهم التأكد من أنَّ أمريكا منخرطة مع الصين، على الرغم من أنه قد تكون لدينا بعض الخلافات".
كان مسؤولو اللجنة الأولمبية الدولية أكثر انفتاحاً بشأن فكرتهم بأنَّ المشاركة في الأولمبياد يمكن أن تساعد في إقناع الدول بإجراء إصلاحات حاسمة. وكتب ديك باوند، أحد كبار المسؤولين في اللجنة الأولمبية الدولية، ذات مرة، يقول إنَّ قرار عام 2001 بمنح الصين فرصة استضافة الأولمبياد "اتُّخِذ على أمل تحسين حقوق الإنسان، وفي الواقع، قال الصينيون أنفسهم إنَّ إقامة الألعاب من شأنها تسريع التقدم في مثل هذه الأمور".
وتقول "واشنطن بوست"، إنه لا يوجد دليل حقيقي على أنَّ نجاح المقاطعة قبل 14 عاماً كان سيضع البلاد على مسار مختلف. لكن هناك الآن دليل واضح على أنَّ الأمل في أن تؤدي المشاركة إلى تحسينات في مجال حقوق الإنسان كان في غير محله. وكان هذا واضحاً للكثيرين حتى من قبل عام 2008.
في العام السابق لاستضافة بكين للألعاب الصيفية، لاحظ سيباستيان مالابي أنَّ الآمال في المشاركة الغربية مع الصين قد تقوضت بسبب الشراكة بين الصين وسودان البشير. وكتب مالابي، الباحث في مجلس العلاقات الخارجية، في صحيفة The Washington Post عام 2007، يقول: "يتعامل الغرب مع الصين على أساس النظرية القائلة إنَّ التحديث الاقتصادي سيحقق التحديث السياسي أيضاً؛ وإلا فإنَّ الغرب يساعد فقط في تطوير خصم شيوعي".
وتابع: "إنَّ سياسة الصين في السودان هي تأكيد على أنَّ هذا الارتباط بين التحديث الاقتصادي والسياسي ليس حتمياً بأي حال من الأحوال، حتى في الحالة المتطرفة. يمكنك بناء مصافي النفط، وتثقيف العلماء، وبناء سكك حديدية جديدة طموحة- وفي الوقت نفسه اتباع سياسة الإبادة الجماعية". وكما يتضح، يمكنك استضافة الألعاب الأولمبية أيضاً.
الرئيس الصيني يفتتح أولمبياد 2022 وأمريكا تدعو فريقها لـ"عدم إغضاب بكين"
وبرغم المقاطعة الدولية، افتتح الرئيس الصيني شي جين بينغ، دورة الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين، الجمعة 4 فبراير/شباط 2022، دون أن تكون جائحة كوفيد علامتها المميزة وبصمتها الوحيدة، بل أيضاً اختلاط الرياضة بالسياسة وهو شيء نادر الحدوث منذ حقبة الحرب الباردة.
في حين اختُتم حفل الافتتاح بمشاركة عضو من أقلية الإيغور المسلمة، الذين تمثل معاملة السلطات لهم محور الانتقادات الدولية لحقوق الإنسان بالصين، في إضاءة الشعلة الأولمبية، بعد ساعات من إعلان الرئيس شي عن تحالف استراتيجي جديد مع الرئيس الروسي الزائر فلاديمير بوتين.
من جانبها دعت رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، الرياضيين الأمريكيين إلى عدم المخاطرة بإغضاب بكين من خلال التحدث علناً عن حقوق الإنسان.
ففي مقابلة مع إذاعة "فويس أوف أمريكا"، قالت بيلوسي إن "الحكومة الصينية لا ترحم" و"ليست لديها نوايا حسنة على الإطلاق"، مشيرة إلى أن الحكومة الصينية نفسها لا تلتزم بالروح الأولمبية.
كذلك، أضافت بيلوسي: "لقد ساءت الأمور في الصين، لا ينبغي إقامة الألعاب الأولمبية هناك، لكن لا يمكننا تحميل ذلك للرياضيين. عليهم أن يذهبوا. عليهم أن يتنافسوا. يجب أن يكونوا ممتازين. لكن عليهم توخي الحذر، لأن الحكومة الصينية لا ترحم"، بحسب تعبيرها.