تتجه "عملية تاكوبا" الأوروبية، لتلقى نفس الإخفاق الذي واجه عملية برخان الفرنسية في منطقة الساحل الإفريقي، لكن الأزمة هذه المرة مختلفة، وجاءت بعد سلسلة من تبادل الإهانات بين المجلس العسكري في باماكو من جهة، وفرنسا وحلفائها الأوروبيين من جهة ثانية، وخاصة بعد قرار مالي طرد قوات الدنمارك من أراضيها.
وكان المجلس العسكري الحاكم في مالي، طلب بالفعل من الدنمارك، أن تستدعي "فوراً" كتيبتها التي وصلت مؤخراً إلى مالي للمشاركة في قوة عملية تاكوبا التي تهدف إلى مواكبة الجنود الماليين في القتال ضد الجهاديين، لأن نشرهم "تم من دون موافقتها".
أسباب قرار مالي طرد قوات الدنمارك من أراضيها
وأوضح المجلس العسكري أن الدنمارك أبلغت مالي في 29 يونيو/حزيران 2021 "مسوّدة نص بهدف الموافقة على وضع القوات الخاصة الدنماركية للتدخل داخل قوة تاكوبا".
وردت الحكومة المالية في نوفمبر/تشرين الثاني 2021، بالتأكيد على أن هذا الطلب "قيد الدرس" حسب البيان.
ورأت باماكو أن هذا يعني أن الدنمارك تبقى "بانتظار التصديق على الاتفاقية"، ولكن حسب الرواية المالية فإن الدنمارك أرسلت القوة دون انتظار الموافقة.
ما هي عملية تاكوبا؟
بعد فشل فرنسا منذ عام 2013 في إنهاء الخطر الإرهابي في منطقة الساحل، ومع تزايد معارضة السكان المحللين لتدخلها العسكري، إضافة إلى تعرضها لخسائر مهمة على إثر هجمات الجماعات المسلحة، باتت باريس بذلك تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى دعم أوروبي.
وهنا ظهرت مهمة أو عملية تاكوبا التي تشكلت عام 2020 بقيادة فرنسا، إلى تدريب القوات في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتتكون من قوات خاصة أوروبية. وكانت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي قد أعلنت أثناء الإعداد لتلك المهمة، أنه في سبيل مساعدة تلك الجيوش في تحقيق انتصارات أطلقت فرنسا مهمة "تاكوبا"، التي تتكون من وحدات من دول الساحل وأخرى أوروبية تعمل معاً للقتال.
وتتكون مهمة "تاكوبا" من نخبة من قوات عسكرية أوروبية، وتهدف إلى تجميع 2000 عسكري، وتزويدهم بسيارات رباعية الدفع ودراجات نارية، لمكافحة الجماعات المسلحة إلى جانب القوات المحلية.
كيف ردّت الدنمارك والدول الأوروبية الأخرى؟
بعد مطالبة الحكومة المالية من الدنمارك سحب نحو 100 من جنودها الذين وصلوا إلى البلاد في 18 يناير/كانون الثاني، استجابت الدنمارك للطلب المالي، لكن الجيش الدنماركي نوّه في بيان، بأن إعادة الجنود والعتاد إلى الدنمارك تحتاج "عدة أسابيع". ما يعني أن الانسحاب لن يكون فوريا.
وعقب قرار سحب الكتيبة الدنماركية، اجتمع وزراء دفاع وجيوش الدول الأوروبية الـ15 المشاركة في "عملية تاكوبا"، في 28 يناير، عبر دائرة تلفزيونية مغلقة.
وبحث المجتمعون إنهاء العملية العسكرية للقوات الخاصة الأوروبية في مالي، وبالتالي ترك المجال مفتوحاً لروسيا لملء الفراغ، أو البقاء تحت ضغط المجلس العسكري المالي، الذي يحاول فرض سيادته على البلاد، دون رغبة في عودة قريبة إلى الشرعية الدستورية.
السؤال كان صعباً الإجابة عنه إلى درجة لم يخرج قادة الجيوش الأوروبية بأي بيان ختامي، واكتفوا بمنح أنفسهم أسبوعين قبل حسم مسألة الانسحاب وإنهاء "عملية تاكوبا" في مالي، حتى لا يكون قرارهم صادراً عن ردة فعل غاضبة من "الإهانة" التي وجهتها لهم الحكومة المالية.
غير أن وزيرة الجيوش الفرنسية فلورنس بارلي خرجت في اليوم التالي، أعلنت عبر قناة "فرانس إنتر" "يجب أن نلاحظ أن شروط تدخلنا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً (في مالي)، أصبحت أكثر صعوبة، وباختصار، لا يمكننا البقاء في مالي بأي ثمن".
وكأن قرار انسحاب قوات "تاكوبا" من مالي أصبح محسوماً ولم يبق سوى ضوء أخضر من القادة السياسيين لبدء تنفيذ خطة الانسحاب.
غير أن قوات عملية تاكوبا المنتشرة في منطقة الحدود الثلاثة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ليست بالحجم الكبير، ولا تتجاوز 800 عنصر، نصفهم فرنسيون، بينما كانت باريس تأمل بأن ترفع هذا الرقم إلى ألفي عنصر، لتعويض تقليص قواتها من 5100 إلى 2500 وحتى 3 آلاف عنصر.
إهانات متبادلة
"لعبة قذرة"، بهذه الجملة وصف وزير الخارجية الدنماركي الطلبات المتكررة للسلطات المالية بسحب 100 من الجنود الدنماركيين من بلادهم.
وقال الوزير الدنماركي إن "جنرالات الانقلاب أصدروا بياناً واضحاً أكدوا فيه أن الدنمارك غير مرحّب بها في مالي.. ونحن لا نقبل بذلك، ولذا قررنا إعادة جنودنا إلى الوطن".
وانسحاب الدنمارك من مالي يعني سقوط حجر كبير في جدار تاكوبا، ما يهدد بانهيار العملية بالكامل، إذ قررت دول أوروبية القيام بنفس الخطوة في إطار التضامن مع كوبنهاغن.
فشعور الدنمارك بالإهانة بعد إصرار الحكومة المالية على ضرورة سحب قواتها التي جاءت دون دعوة، دفعها لوصف المجلس العسكري بـ"جنرالات الانقلاب" لتعبّر عن عدم اعترافها بالحكام الجدد لمالي.
لكن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان، كانت أكثر عنفاً مع قدر ليس بالقليل من الازدراء، عندما تحدث عن "الاندفاع المتهور من قبل المجلس العسكري غير الشرعي الذي يرفض الاقتراع العام".
هذا ما دفع نظيره المالي عبد الله ديوب لاستنكار هذه التصريحات "غير المقبولة" عبر قناة "فرانس 24″، بنسختها الناطقة بالفرنسية، وطالب "باحترام مالي كدولة".
انقلابان وتقسيم فعلي للبلاد
تعيش مالي في وضع قاتم. فمنذ عام 2012، أدى تمرّد في الجزء الشمالي من البلاد إلى إطلاق سلسلة من ردود الفعل التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا. تضمنت الجولة الأخيرة من الاضطرابات انقلابيْن: أحدهما في أغسطس/آب 2020، والآخر في مايو/أيار. اندلع الانقلاب الأول بسبب مشكلات لها جذور عميقة في مالي، مثل الغياب واسع النطاق للأمن، والتوترات بين الطوائف، والتقسيم الفعلي للبلاد، وقطاع التعليم المنهار، والفقر المدقع، وطبقة متكلسة من السياسيين الذي نضبت لديهم الأفكار.
لكن الانقلاب الثاني بدا فيه الضباط العسكريون أكثر اهتماماً بحيازة السلطة.
أدرك هؤلاء الضباط وحلفاؤهم سهولة التلاعب بالمجتمع الدولي، لا سيما أن فرنسا والولايات المتحدة ودولاً أخرى جعلت أكبر همّها هو مكافحة الإرهاب في مالي، تاركين كل شيء آخر، حتى الديمقراطية، في أنأى مكان عن الاهتمام.
بعد انقلاب أغسطس/آب 2020، سمحت الجهات الفاعلة الإقليمية والغربية لهؤلاء الضباط بالاحتفاظ بجزء كبير من سلطتهم، شريطة أن يُعينوا رئيساً مدنياً لإدارة المرحلة الانتقالية للبلاد. لكن بعد انقلاب عام 2021، أصبح العقيد أسيمي غويتا رئيساً، وهو لا يزال بالزي العسكري. أبدت القوى الخارجية الرئيسية نوعاً من التذمر في البداية، ثم أسقطت الأمر من حساباتها، حسبما ورد في تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
ولكن من الواضح أن العسكريين يواصلون تعزيز سلطاتهم وتقوية موقفهم أمام الأوروبيين.
العسكريون يريدون استعادة السيادة
يبدي قادة المجلس العسكري المالي، منذ الانقلاب الأول في 2020، انزعاجهم من تجاهل الفرنسيين لسيادة بلادهم، واتخاذ قرارات تخص بلادهم دون التشاور معهم، بينها احتجاجهم مؤخراً على انتهاك طائرة فرنسية مجالهم الجوي.
والأزمة الأخيرة بين مالي والدنمارك لها علاقة برغبة باماكو في استعادة سيادتها التي أصبحت مستباحة من فرنسا، بحجة مكافحة الإرهاب.
وعبر رئيس الحكومة المالية شوغيل كوكالا مايغا، عن هذه الرغبة، في تصريح صحفي، قائلاً: "لن يأتي أحد إلى مالي بالوكالة بعد الآن. من قَبل، حدث ذلك. اليوم، انتهى الأمر".
ماذا طلب مالي من الدنمارك؟
باماكو تريد أن تتفق بشكل ثنائي مع الدول المشاركة في عملية تاكوبا، لا أن يتم الأمر ضمن اتفاق جماعي تشرف عليه فرنسا.
وبهذا الخصوص، أوضح مايغا: "قلنا للدنماركيين: إذا كنتم تريدون القدوم إلى مالي، فهذا التزام بين الدنماركيين والماليين"، متسائلاً: "لماذا يأتون؟ ألا يأتون لتحضير شيء ضد بلدنا؟".
فباماكو تريد أن تتفق بشكل ثنائي مع الدول المشاركة في عملية تاكوبا، لا أن يتم الأمر ضمن اتفاق جماعي تشرف عليه فرنسا.
لذلك تقدمت الحكومة المالية بمقترحات لمراجعة اتفاقيات التعاون العسكري مع فرنسا، في 31 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن باريس ما زالت تتجاهلها حتى الآن.
خيارات الأوروبيين.. الانسحاب وتركها لروسيا أم ابتلاع الإهانة
في ظل التهديدات بسحب قوات تاكوبا من مالي، فإن الخيارات المطروحة أمام الأوروبيين تتمثل في سحب كامل قواتهم من المنطقة والعودة بهم إلى الديار مثلما فعلت الدنمارك، خاصة وأن عددها قليل، ولم يثبت جدارته في مكافحة الإرهاب.
والخيار الثاني أن يتم الإبقاء على هذه القوات ومضاعفتها، والبحث عن تفاهمات مع المجلس العسكري، ولو بتعديل الاتفاقيات العسكرية مع فرنسا، والتوقيع على اتفاقيات ثنائية للدول الأوروبية الـ15 مع باماكو، ويعتبر ذلك بمثابة رضوخ لمطالب الحكومة المالية.
أما الخيار الثالث فيتمثل في الانسحاب من مالي وإعادة الانتشار بالنيجر وبوركينا فاسو فقط، لكن وقوع انقلاب في الأخيرة من شأنه إعاقة هذه الخطة، خاصة وأن الجماعات المسلحة في منطقة الحدود الثلاثة تتحرك بمرونة ما سيصعب من مهمة مطاردة عناصرها عبر الحدود.
بينما لا تبدو باماكو مهتمة كثيرا بانسحاب فرنسا وقوات تاكوبا المحدودة العدد من بلادها، إذ سبق وأن اعتبرت أن باريس تخلت عنها عندما قررت دون تنسيق الانسحاب من 3 مدن في شمال مالي، وتقليص قواتها إلى النصف.
حيث أعلن وزير الخارجية المالي أن بلاده "لا تستبعد أي شيء" في علاقاتها مع فرنسا، لكنه استبعد خروج القوات الفرنسية من منطقة الساحل قائلا إن هذه المسألة "ليست مطروحة في الوقت الحالي".
فالمجلس العسكري أصبح أكثر ثقة بتحدي فرنسا وحلفائها الأوروبيين مع تلقيه دعماً روسياً بالعتاد، خاصة مع توارد أنباء عن وصول نحو 400 عنصر من شركة فاغنر الروسية إلى مالي وانتشارهم في مناطق متفرقة من البلاد.
ويثير دخول فاغنر الملعب الفرنسي في مالي قلق باريس، حيث علق لودريان على الأمر، في تصريح له الأحد، بأن فاغنر "تنهب مالي مقابل حماية المجموعة العسكرية" الحاكمة في البلاد.
ومع وجود فاغنر يصعب على باريس الانسحاب من مالي، لكن شركاءها الأوروبيين لا يملكون نفس الحماسة والمصالح للبقاء أكثر في ظل عدم رغبة الحكومة المحلية في استباحة سيادتها دون أن يكون لها الحق في ضبط التواجد العسكري الأجنبي على أراضيها.
كما أن وجود مرتزقة فاغنر ورقة في يد حكام مالي العسكريين، في مواجهة الضغوط الغربية بشأن بإقامة انتخابات سلسة، ولا بوضع حدٍّ للفساد أو انتهاكات حقوق الإنسان أو تصفية الحسابات السياسية، أو حتى الهيمنة العسكرية على الحكام المدنيين.