بعد تصاعد الغضب الشعبي وانتشار الوقفات الاحتجاجية في أكثر من موقع ومقر حكومي، طلب الرئيس التونسي قيس سعيّد، الثلاثاء الأول من فبراير/شباط 2022، من وزيرة المالية، سهام بوغديري، صرف رواتب الموظفين العموميين في مواعيدها.
وجاء في بيان رسمي أن الرئيس التونسي "استمع إلى عرض حول وضع المالية العمومية وسير المرفق المالي في تونس، وشدد على ضرورة صرف الجرايات (الرواتب) في مواعيدها".
وقد تأخر صرف رواتب الموظفين والعاملين في المؤسسات الحكومية والشركات العمومية التابعة للدولة لأكثر من 10 أيام بسبب عدم توفر السيولة المالية الكافية في خزينة الدولة.
وتُصرف الأجور عادةً بين يومي 18 و22 من كل شهر، إلا أن تأخير حدث في صرف كامل مستحقات موظفي الدولة، حيث لم يقع صرف أجور سوى الأمنيين والعسكريين العاملين بوزارتي الداخلية والدفاع بتاريخ 24 و25 يناير، ولم يحصل بقية العاملين في التعليم والنقل والصحة والشركات العمومية على رواتبهم.
تغوّل كتلة الأجور
وتبلغ كتلة أجور موظفي القطاع العام 1.66 مليار دينار شهرياً (575,133 مليون دولار) وسنوياً 19920 مليون دينار (6.9 مليار دولار) أكثر بقليل من ثلث ميزانية تونس لسنة 2022 التي تبلغ قيمتها 57,2 مليار دينار. ويرى خبراء اقتصاديون أن كتلة الأجور في الوظيفة العمومية بتونس مرتفعة جداً مقارنة بباقي دول العالم.
فقد ارتفعت من 7.9 مليار دينار تونسي (نحو 3 مليارات دولار) سنة 2011 إلى ما لا يقل عن 19.5 مليار دينار (نحو 7.3 مليار دولار) في السنة الماضية؛ ونتيجة لذلك نبّه أكثر من طرف داخلي من خلال تصريحات الخبراء، وخارجي من خلال انتقادات صندوق النقد الدولي، إلى ضرورة كبح جماح الأجور التي يتقاضاها 690.091 ألف موظف، من بينهم 152 ألف تم انتدابهم في الفترة بين 2011 و2016، الكثير منهم يعد "غير منتج"، بحسب إحصاءات لجان الوظيفة العمومية.
من جانبه، يرى النائب بمجلس نواب الشعب المجمدة أعماله، ياسين العياري، أن الحلول لتأخر دفع الرواتب ستكون في طلب قروض سريعة من البنوك التونسية، وإن توفرت السيولة ستكون بفوائد خيالية أقصى ما يمكن أن تقدمه هو تأخير "الصدمة" إلى بضعة أسابيع.
وإلى جانب أزمة الرواتب، ارتفعت نسبة البطالة في البلاد إلى 18.4% خلال الثلث الأخير من عام 2021 بعد أن كانت في حدود 17.4% خلال العام الذي سبقه، وارتفع عجز ميزانية سنة 2022 إلى 9.3 مليار دينار. وقد كانت الحكومة التونسية بقيادة رئيسة الوزراء نجلاء بودن تفاوض صندوق النقد من أجل اتفاق مالي جديد للحصول على ما لا يقل عن 4 مليارات دولار، لتوفير تمويلات لموازنة العام الجاري 2022، فيما بلغت ديون تونس 102.1 مليار دينار (35.5 مليار دولار)، وهو رقم قياسي لم تسجله البلاد من قبل.
إلى ذلك، حمّل قيس سعيد من سمّاهم "المناوئين" لمسار 25 يوليو مسؤولية المشاكل الاقتصادية التي تعترض حكومته منذ عدة أشهر.
وقال سعيد في بيان الرئاسة: "لا بد من تحميل كل طرف مسؤوليته كاملة؛ لأن المناوئين للشعب التونسي هدفهم التنكيل به في كل مظاهر الحياة، فمرة يتعلّق الأمر بالأدوية الحياتية، ومرّة بالبنزين، وهذه الأيام بالنسبة لعدد من المواد الأساسية كالقمح والزيت المدعّم".
وأضاف: "أن ما يحصل ليس من قبيل الصدفة ولكنه بتدبير وترتيب مسبق ممن يهزّهم الحنين إلى ما قبل 25 يوليو".
ميزانية دون رصيد
عدم حصول أكثر من 690 ألف موظف حكومي على رواتبهم لحدود يوم 01 فبراير الذي أمر فيه الرئيس التونسي بصرف الرواتب (من غير المعلوم لحد الآن ما إذا دخلت الرواتب حسابات الموظفين أم أن العملية لا تزال جارية) يبعث على القلق لعدة اعتبارات أهمها مزيد تدهور المقدرة الشرائية للتونسيين وتراجع الإقبال على الاقتراض والاستهلاك، ما سيتسبب في ركود للاقتصاد وتراجع إنتاج الثروة.
رضا الشكندالي، أستاذ الاقتصاد في الجامعة التونسي، اعتبر في حديثه لموقع البورصة المحلي أن التأخر الملحوظ في صرف الدولة لرواتب موظفيها يعكس شح السيولة في البلاد في ظل استيفاء جميع الحلول من بينها التوجه للسوق الداخلية وإصدار سندات رقاعيّة وشراء قروض من البنوك الداخلية.
هذا ما يجعل الأموال البنكية الموجه لتمويل الاستثمار الخاص عبر القروض تستحوذ عليها القروض الحكومية، ما سيرفع في سعر الفائدة وبالتالي سعر المنتوجات والسلع، والنتيجة ارتفاع نسبة التضخم ومزيد الصعوبات للاقتصاد قد تؤدي به لوضع مشابه لفنزويلا، طباعة المال دون إنتاج للثروة سوى الثروة البترولية.
اندلاع الاحتجاجات
وللتعبير عن غضبهم، نظم الكثير من الموظفين في عدة دوائر حكومية وقفات احتجاجية أمام مقرات عملهم، مطالبين الحكومة بتقديم توضيحات عن أسباب تأخر تنزيل الأجور ومدى قدرتها على توفيرها للأشهر القادمة.
واستنكرت الجامعة العامة للتعليم العالي والبحث العلمي في تونس (نقابة قطاعية تتبع اتحاد الشغل) وبشدة تكرار تأخر صرف رواتب الأساتذة الجامعيين، ولوّحت بتنفيذ تحركات احتجاجية، وسط تحذير من أن يتسبب قانون المالية 2022 في خسائر مالية تفوق 4.5 مليار دينار (تقريباً 1.5 مليار دولار)، إثر تجميد بعض شركات التجارة الدولية أنشطتها هذا الشهر، وتلويحها بالخروج النهائي من البلاد بسبب ضريبة التصدير الجديدة المحددة بـ19% من مداخيل الشركات المصدرة بعد أن كانت معفاة منها لتشجيع التصدير وإدخال العملة الصعبة.
ويسعى المسؤولون الحكوميون في تونس لإجراءات جديدة من أجل ملء خزينة الدولة وصرف رواتب موظفيها بعد رفض الصناديق المالية الدولية والدول الكبرى منحها قروضاً، ومن بين هذه الإجراءات إصدار ضرائب جديدة على الأفراد والشركات.
ونبّه الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي، أن المنظمة النقابية لن توافق على تمرير قرارات جاهزة بدون التشاور فيها، محذراً من "انفجار اجتماعي خطير بسبب حالة الاحتقان التي تعيشها البلاد حالياً.
استهداف التجارة الدولية
وقال نائب رئيس الغرفة النقابية الوطنية لشركات التجارة الدولية بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، زياد الجوادي، إن شركات التجارة الدولية تستعد للخروج نهائياً من تونس أو تغيير طبيعة أنشطتها التي انطلقت في ممارستها منذ سنوات طويلة بسبب الإجراءات الواردة في قانون المالية لسنة 2022.
وكشف الجوادي، في تصريحات إعلامية، عن أن نحو ألف شركة تعمل في مجال التجارة الدولية بدأت فعلياً اتخاذ الخطوات العملية اللازمة للتعبير عن رفضها هذه الإجراءات، إذ أوقفت هذه الشركات أنشطتها كلياً طيلة يناير/كانون الثاني الماضي، وراسلت الجهات المعنية لإيقاف العمل بهذا الفصل أو تأجيل تنفيذه.
ولفت الجوادي إلى أن عملية إيقاف النشاط منذ بداية سنة 2022 تسبب في خسارة صادرات بقيمة 375 مليون دينار (129 مليون دولار)، وهي خسارة تتحملها الشركات والدولة على حد السواء.
وحذر من أن نحو 4.5 مليار دينار (1.55 مليار دولار) صادرات مهددة بالاندثار في صورة عدم إيجاد حل عملي وسريع للخروج من الأزمة الراهنة.
ويعزو خبراء اقتصاد الانسداد المالي في تونس للظروف السياسية الاستثنائية التي تمر بها البلاد منذ 25 يوليو/تموز 2021 إثر إقدام الرئيس سعيّد على تجميد البرلمان وحل الحكومة وتسيير البلاد من خلال مراسيم رئاسية.
هذه الظروف تفرض على كل المانحين الدوليين، وفي مقدمتهم صندوق النقد الدولي، التريث وانتظار مآل انفراج الأوضاع. فالوضع السياسي الراهن يزيد في تعميق الأزمة السياسية والاقتصادية ويصعب مجهودات إيجاد التمويلات اللازمة لخلاص أجور عمال وموظفي الوزارات والشركات الحكومية.
السيناريوهات المحتملة
يعتبر تأخر صرف أجور الوظيفة العمومية والقطاع العام خلال شهر يناير واحتمالية عدم إيجاد الموارد المالية اللازمة لصرف أجور الأشهر القادمة، تمظهراً مباشراً وخطيراً للأزمة الاقتصادية متعددة الأوجه التي تعيشها البلاد منذ سنوات وتسارعت وتيرتها خلال الأشهر الستة الأخيرة. وهو ما يجعل مستقبل البلاد مفتوحاً على عدة سيناريوهات.
السيناريو المباشر – انتفاضة شعبية: عجز الحكومة عن توفير السيولة المالية الضرورية لخلاص رواتب العمال والموظفين العاملين في مؤسسات وشركات الدولة بسبب شروط صندوق النقد الدولي التعجيزية مقابل تقديم قروض لتونس، وفشل سعيد في تحقيق الشيء الوحيد الذي يطلبه منه الشعب بشكل عاجل: خطة اقتصادية قابلة للتطبيق للتعامل مع المظالم الطويلة الأمد التي تعرض لها التونسيين الذين يعانون من ارتفاع معدلات البطالة وتدهور مستويات المعيشة.
وهو ما سيؤدي في نهاية المطاف لانتفاضة شعبية ربما تكون أفظع من انتفاضة الخبز 1984 في حالة خروج الناس للشارع وتمسّكهم بخلاص مرتباتهم وإلغاء الضرائب الجديدة التي فرضها الرئيس على الاستهلاك.
سيناريو انهيار الدولة: تواجه البلاد على المدى القريب والمتوسط أخطار متعددة (أزمة التداين وارتفاع البطالة والركود الاقتصادي وانتشار نشاط الاقتصاد الموازي غير القانوني) تضعف مقدرة الدولة على الصمود والتواصل في ظل غياب حلول إصلاحية حقيقية وانغلاق مؤسسة الحكم على نفسها ورفضها الحوار مع الجميع بمن فيهم مساندوها في قرارات 25 يوليو التي اعتبرت انقلاباً على الديمقراطية، وهو ما سيؤدي في نهاية الأمر إلى تفكك الدولة وفقدان مؤسساتها النجاعة وعجزها عن توفير مواردها المالية الأساسية.
وقد أشار المنتدى الاقتصادي العالمي، في تقريره الصادر في يناير/كانون الثاني 2022، حول المخاطر العالمية المتوقعة في المجالات الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والصحية، إلى الوضع الذي ستواجه تونس خلال السنتين المقبلتين، من مخاطر انهيار الدولة والتداين والبطالة وتواصل الركود الاقتصادي وانتشار النشاط الاقتصادي غير القانوني.
الوقوع في السيناريو الاقتصادي اللبناني: إذ سبق لوكالة موديز أن قامت بتخفيض ترقيم تونس السيادي إلى درجة Caa1 مع آفاق سلبية مما يعني دخول الاقتصاد التونسي في منعرج خطير واعتبار تونس دولة غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها، وبالتالي استحالة خروج تونس إلى السوق المالية العالمية للاقتراض، وسقوطها في أحضان نادي باريس (المختص بالدول المثقلة بالديون). وهذا يعني في نهاية الأمر فقدان استقلالية القرار الوطني وسقوط سيادة الدولة أمام أعتاب الدول الراعية وأبرزها فرنسا، ما يعني عودة الحماية والاستعمار لكن بشكل عصري وليّن.
سيناريو الضغوط الدولية: استخدام المجتمع الدولي لنفوذه للضغط على قيس سعيد من أجل كبح ميوله الاستبدادية ودفعه للحوار حول الإصلاحات السياسية والاقتصادية الكبرى مع مكونات الساحة السياسية في تونس. في هذه الحالة، بإمكان المجتمع الدولي والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التدخل لدى صندوق النقد الدولي للمساعدة في التخفيف من تأثير الإصلاحات الاقتصادية المؤلمة اللازمة لمساعدة تونس، بما في ذلك معالجة كتلة أجور القطاع العام المرتفعة وخصخصة جزء من الشركات العمومية وليس كلها مثلما يشترط الصندوق، والرفع التدريجي للدعم على المواد الأولية.
هناك خطر حقيقي على ما تبقى من ديمقراطية نشيطة في العالم العربي، وخوف من أن تصبح بين ليلة وضحاها طيّ التاريخ.