كشفت الأزمة الأوكرانية واحتمال غزو روسيا لكييف، تبايناً أوروبياً بشكل كبير، ولم يظهر الاتحاد الأوروبي ككتلة واحدة أمام المخاطر الروسية، فقد كانت أوروبا الشرقية قلقة من "التنمر الروسي" ولديها رغبة كبيرة في التصدي له، وأما الغربية فقد ظهرت فلم تكن على استعداد لاختبار غضب موسكو بل ساعية للمساومة معها.
وفي خضم ذلك، برزت دولة من بين أكثر الدول الأوروبية -خصيصاً في شقها الشرقي- مناصرة لأوكرانيا وداعمة لها أمام الاستفزازات الروسية، وهي رومانيا. فما الذي يدفع بوخارست لذلك؟
رومانيا "أقوى مناصر" لأوكرانيا بين جاراتها في النزاع مع روسيا
كانت الأزمة في أوكرانيا سبباً دفعَ جارتها رومانيا إلى الاضطلاع بدور عسكري وأمني أشد فاعلية في أوروبا الشرقية من دورها في أي وقت مضى في تاريخها الحديث، فقد أخذت على عاتقها تقديم الدعم لكل من كييف وحلفائها في الناتو.
وتقول صحيفة The Independent البريطانية، إنه في الأيام الأخيرة، أبدت بوخارست ترحيبها العلني بالانتشار المحتمل لقوات أمريكية وفرنسية في أراضيها، والذي يفترض به تعزيز قوام ما يقرب من 1000 فرد عسكري أمريكي موجود بالفعل في البلاد في عدة قواعد، منها محطة "إيغيس آشور" للدفاع الجوي الصاروخي المتطور في مدينة ديفسيلو جنوبي البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، تقدم رومانيا منذ عدة سنوات دعماً للأمن السيبراني لأوكرانيا، وتجري محادثات مكثفة مع كييف حول تعزيز التعاون الأمني البحري في البحر الأسود، كما منحت أوكرانيا ما سمّاه مستشار الشؤون الخارجية السابق "دعماً سياسياً غير مشروط" في مواجهة أي توغل محتمل لروسيا في الأراضي الأوكرانية.
رومانيا مركز قوة استثنائي بالنسبة لحلف الناتو
وفي معرض الحديث عن الأزمة الأوكرانية، قال الرئيس الروماني كلاوس يوهانيس في بيان يوم الأربعاء 26 يناير/كانون الثاني: "يجب أن نكون مستعدين لأي سيناريو محتمل. الأزمة لا تتعلق بأوكرانيا فحسب، أو بالأمن في البحر الأسود، أو الأمن الأوروبي، بل تتعلق بأمن المنطقة الأوروبية الأطلسية بأكملها".
وقالت فلورنس بارلي، وزير الدفاع الفرنسية، بعد اجتماع مع نظرائها في رومانيا يوم الخميس 27 يناير/كانون الثاني، إن فريقاً من الخبراء الفرنسيين وصل إلى رومانيا لرسم الملامح المزمعة لعملية انتشار القوات.
وأضافت بارلي: "الوضع الأمني الحالي مُقلق على الجانب الشرقي من أوروبا. والرومانيون حريصون أشد الحرص على تعزيز أمنهم، لا سيما مع التصاعد المستمر للتوترات في أوكرانيا".
ربما لم تعتنق أي دولة أخرى في أوروبا الشرقية دورَ "الرادع المتأهب" ضد غزو روسي محتمل لأوكرانيا بالحماس الذي أبدته رومانيا، التي انضمت إلى حلف الناتو في عام 2007.
وفي هذا السياق، يقول رادو ماجدين، مستشار السياسة الخارجية السابق للحكومة الرومانية، لصحيفة ذي إندبندنت: "رومانيا هي الركيزة العسكرية لحلف الناتو في جنوب شرق أوروبا. فهي مركز لجنوب شرق أوروبا، وهي تتيح كثيراً من التسهيلات، سواء على مستوى الناتو أم على المستوى الثنائي مع أوكرانيا".
كان انسحاب قوات الناتو من رومانيا وبلغاريا من بين المطالب التي أعلن عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لتجنب الصدام مع القوى الغربية حول أوكرانيا، وهو ما أثار قدراً من القلق في بوخارست.
وفي وقت متأخر من يوم الأربعاء 26 يناير/كانون الثاني، شوهدت قوافل دبلوماسية تتدفق عبر شوارع العاصمة الرومانية في سيارات المرسيدس الرسمية السوداء. وتنتشر بين الشباب الروماني مخاوف من حرب وشيكة، واحتمالات التورط في أي صراع عسكري يندلع.
رومانيا تخشى على مولدوفا من الخطر الروسي أيضاً
إذا كانت قلة هي من تعتقد أن الروس سيحاولون غزو رومانيا نفسها، فإن مخاوف رومانيا لا تقتصر على ما يتعلق بأمن أوكرانيا، التي تشاركها حدوداً طولها 600 كيلومتر، بل تشمل أيضاً الاحتمال القائم بتورط مولدوفا في أي صراع يشمل روسيا وحلف الناتو.
ويخشى الرومانيون من أن أي توغل عسكري روسي في أوكرانيا قد يبث حالة من عدم الاستقرار ويتسع نطاقه إلى مولدوفا الواقعة على جزء من الحدود بين أوكرانيا ورومانيا، وهي دولة تتحدث الغالبية العظمى من سكانها اللغةَ الرومانية ويبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، ولطالما تنازعت رومانيا وروسيا بشأنها على مدى قرون. ويرى كثيرون أن مولدوفا تنتمي إلى رومانيا التاريخية.
لا تزال منطقة ترانسنيستريا التي يسيطر عليها الكرملين، وهي منطقة تحتلها روسيا في مولدوفا، المرتكز الأبرز لموسكو في أقصى غرب أوكرانيا، على بعد 161 كيلومتراً فحسب من الحدود الرومانية، وقد أشار بعض الخبراء إلى احتمال أن تستخدمها روسيا لإشعال جبهة أخرى ضد أوكرانيا.
يزعم كثير من المحللين أن الأسلحة والمعدات المتوفرة لدى القوات الروسية في ترانسنيستريا قديمة ومتهالكة، ومع ذلك فإن هناك شكوكاً في أن تكون روسيا قد زوَّدت قواتها المقدرة بنحو 1500 جندي هناك بأسلحة ومعدات متطورة، وعلى كلٍّ فهي تستطيع فعل ذلك في مدة قصيرة، كما تقول الصحيفة البريطانية.
وبناءً على ذلك، قال ماجدين، مستشار السياسة الخارجية الروماني: "نحن نحترز من أي مفاجآت قد تواجهنا روسيا بها في مولدوفا. وكلما زاد الحضور الأمني لقوات الناتو هناك، كان ذلك أحفظ لأمن رومانيا".
من الجدير بالذكر أن رومانيا واحدة من أكبر البلدان في أوروبا الشرقية، إذ يبلغ عدد سكانها نحو 19 مليون نسمة، ويتوزع شتاتها العرقي في بقاع كثيرة، منها صربيا وأوكرانيا، وكلتاهما عرضة للتأثير الروسي وضغوطه. لكن الأزمات الداخلية لرومانيا استنزفت البلاد لسنوات، ما دفع بها إلى الابتعاد عن شؤون أوروبا الشرقية، حتى اقتصر التركيز في سياساتها الخارجية على شؤون الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
عداء عميق الجذور بين روسيا ورومانيا
ولكن يبدو أن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا قد يدفع رومانيا إلى تغيير نهجها السابق، لا سيما وأن العداء الروماني لروسيا عداء عميق الجذور.
تعود هذه الجذور إلى الغزوات الروسية المتكررة للبلاد على مر القرون، ومزاعم بوخارست بأن موسكو سرقت منذ قرن من الزمان آثاراً ذهبية ثمينة كانت تستحوذ عليها العائلة الملكية التي خلعها الشعب الروماني منذ عقود طويلة.
بالإضافة إلى ذلك، تعاونت القوات المسلحة الرومانية تعاوناً وثيقاً مع ألمانيا النازية ضد روسيا خلال الحرب العالمية الثانية، وحتى في حصار ستالينغراد الشهير.
بعد سقوط النظام الشيوعي في عام 1990، كانت رومانيا واحدة من أشد الدول فرحاً بذلك بين الدول المنتمية إلى حلف وارسو السابق، فقد سارعت بالانضمام إلى التكتلات الأمنية والاقتصادية الغربية، ومنها الاتحاد الأوروبي الذي انضمت إليه في عام 2007، وقد كان الخوف من الأطماع الروسية أحد الدوافع البارزة لهذا التحول. يقول ماجدين: "حتى في تسعينيات القرن الماضي، كانت النخبة الرومانية تعرف أن المهلة الزمنية السانحة لنا محدودة، قبل أن يعود الروس للتعافي في نهاية المطاف، لذلك كان علينا الانضمام إلى جميع التكتلات في أعجل وقت ممكن".