قبل أيام أعاد المغرب مطالبة فرنسا باسترداد أرشيف أحد أبرز قادة المقاومة ضد الاستعمار، لتنضم إلى الجزائر في الضغط على باريس، لرفع السرية عن أرشيف الاستعمار الفرنسي.
وقال بيان صادر عن المجلس الوطني لحقوق الإنسان (حكومي)، إن المغرب طالب فرنسا باسترجاع أرشيف محمد عبد الكريم الخطابي، أحد أبرز قادة الحركات التحررية بالعالم، وقائد المقاومة الريفية ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي في البلاد، بحسب تقرير للأناضول.
الاستعمار الفرنسي للمغرب استمر في الفترة من 1912 إلى 1956، والاستعمار الإسباني بين 1913 و1956، حيث اقتصر على شمالي البلاد. ولا تزال مدينتا سبتة ومليلية أقصى شمال المغرب تحت إدارة مدريد، وتعتبر الرباط أنهما "ثغران محتلان".
وأفاد البيان بأن "رئيسة المجلس آمنة بوعياش وجهت عن طريق السلك الدبلوماسي مذكرة كتابية للأرشيف الدبلوماسي الفرنسي، التابع لوزارة أوروبا والشؤون الخارجية، تحث من خلالها على أهمية استرجاع المغرب لأرشيف المرحوم محمد بن عبد الكريم الخطابي".
وأضاف البيان أن "استرجاع أرشيف الخطابي يدخل في إطار جهود الحفاظ على الأرشيف الوطني والذاكرة المغربية الجماعية. مراسلة المجلس جاءت دعماً لطلب في الموضوع، سبق أن وجّهته مؤسسة أرشيف المغرب (حكومية)، للأرشيف الدبلوماسي، من أجل استرجاع الوثائق الأصلية للمرحوم عبد الكريم الخطابي، التي توجد بحوزتها، بعد أن استحوذت الجيوش الفرنسية عليها سنة 1926".
فرنسا ترفض الكشف عن أرشيفها الاستعماري
هذا الطلب المغربي يزيد من الضغوط التي تواجهها فرنسا بشأن أرشيف ماضيها الاستعماري، الذي لا يزال قيد السرية بشكل شبه كامل، ورغم الخطوات التي اتخذها الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون ووعوده بالكشف عن ذلك الأرشيف، فإن الأمور لا تزال تراوح مكانها تقريباً.
إذ لا تزال قضية كتابة تاريخ الاستعمار الفرنسي للجزائر تمثل العقبة الجوهرية أمام تطبيع العلاقات الثنائية بين البلدين، ولم تنجح خطوة تكليف خبيرين للعمل على ملف "الذاكرة" الحساس في تحقيق ذلك الهدف، وها هو المغرب يدخل على خط أزمة التاريخ الاستعماري الفرنسي.
ويعد الخطابي من أبرز قادة الحركات التحررية بالعالم، وكان يلقب بـ"أسد الريف"، حيث قاد المقاومة لهزيمة المستعمر الإسباني في معركة "أنوال" عام 1921، التي شهدت مقتل أكثر من 15 ألف جندي إسباني وأسر المئات، لتنسحب على إثرها إسبانيا من منطقة الريف، شمالي المملكة.
ومع نهاية حرب الريف (استمرت بين 1920 و1927)، اضطر الخطابي إلى الاستسلام بعد إنزال عسكري ضخم للجيشين الفرنسي والإسباني بالمنطقة، لتقوم فرنسا بنفيه إلى جزيرة لارينيون (قرب مدغشقر) لنحو 20 عاماً، قبل أن تسمح له باللجوء إلى مصر، حيث وافته المنية هناك عام 1963.
وقال بيان المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب إن "الأرشيف الوطني، علاوة على قيمته الرمزية، له أهمية بالغة في توطيد دولة الحق والقانون وفي قراءة الأحداث التاريخية، خاصة ما يتعلق منها بتاريخنا الراهن".
وعلى الرغم من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قام بعمل غير مسبوق قيما يتعلق بقضية التاريخ الاستعماري لبلاده، ليس فقط فيما يخص الجزائر ودول إفريقية أخرى في منطقة الساحل، فإن فرض السرية على الأرشيف الاستعماري لباريس لا يزال سارياً ولا يتم الكشف عن أغلبه، فيما يصفه أغلب المؤرخين بأنه إصرار فرنسي على فرض الرؤية الاستعمارية الخاصة بها.
ماكرون وخطوات غير مسبوقة في ملف الذاكرة
لكن رغم أن ماكرون أصبح أول رئيس فرنسي يتخذ خطوات غير مسبوقة في التعامل مع الإرث الاستعماري لبلاده، حتى إنه شارك في إحياء ذكرى مجزرة باريس بحق جزائريين، إلا أنه ما زال يرفض الاعتذار عن الفظائع الاستعمارية أو التحقيق فيها جدياً. وقد كشف التقرير الرسمي عن فترة الحكم الاستعماري الفرنسي للجزائر الذي دام 132 عاماً وحرب التحرير الوحشية التي أنهته، عن هذا التناقض الصارخ، بحسب تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
وتسبب هذا التناقض في تأكيد اتهامات يواجهها ماكرون بأنه يرغب في كسب الناخبين الفرنسيين ذوي الأصول الجزائرية، وبأنه في الوقت نفسه يغازل القوميين الفرنسيين الذين يمجدون إمبراطوريتهم القديمة، خصوصاً أنه كان قد أعرب صراحة عن أنه لن يعبر عن "ندم ولا اعتذار" عن الجرائم التي ارتكبتها القوات الفرنسية في الجزائر.
والحقيقة أن ماكرون لم يختلف كثيراً عن سابقيه في كل ما يتعلق بالعلاقة التي تسعى فرنسا للاحتفاظ بها مع مستعمراتها السابقة، حيث إن الوعود المتكررة بفتح صفحة جديدة بين فرنسا ومستعمراتها لا تعدو كونها كلاماً في كلام ومجرد "طقس"، حسب البروفيسور يان تايلور، المختص بالسياسة الإفريقية في جامعة سانت أندروز في اسكوتلندا.
وقال تايلور لموقع دويتش فيله الألماني إن النفوذ الفرنسي مستمر في المستعمرات السابقة، رغم وعود كثير من المرشحين للرئاسة منذ مطلع ثمانيات القرن العشرين بتغيير ذلك: "يعدون بالتغير، لكن بعد تسلمهم مهامهم سرعان ما يلاحظ الرؤساء الفرنسيون أن المصالح السياسية والاقتصادية لبلادهم في القارة السمراء كبيرة، وأن ليس هناك مصلحة حقيقة لدى الأفارقة ولا لدى الفرنسيين بأي تغيير".
وكان بيان صادر عن قصر الإليزيه قبل فترة قد قال إن ماكرون يأمل أن "ينظر إلى التاريخ وجهاً لوجه"، كما فعل مع رواندا عبر الاعتراف بـ"مسؤوليات" فرنسا في الإبادة الجماعية للتوتسي 1994، مع التأكيد في الوقت نفسه أن "هذا لا يعني إعادة كتابة التاريخ أو إعادة اختراعه".
تاريخ على الطريقة الفرنسية
لكن واقع الأمور هو ألا أحد يريد إعادة كتابة التاريخ ولا حتى اختراعه، بل يبحث الجميع عن الحقيقة، وهو أمر من الصعب تحقيقه في ظل إصرار باريس على الاحتفاظ بمستندات وأوراق وذكريات استولت عليها أثناء الحقبة الاستعمارية، ولا تزال تحتفظ بها وتفرض السرية عليها، رغم أنها لا تخص تاريخ فرنسا من الأساس، بل تتعلق بتاريخ مستعمراتها.
وكانت فرنسا قد أعلنت في ديسمبر/كانون الأول الماضي رفع السرية عن أرشيف ما يسمى بـ"التحقيقات القضائية" للحرب الجزائرية، وهي خطوة طالما تردَّد صناع القرار الفرنسيون في اتخاذها، لأنها تكشف جزءاً من ماضي البلاد البشع، وليس كل القصة بالطبع.
والقرار هنا يتعلق برفع السرية عن أرشيف ما يوصف فرنسياً بأنها "تحقيقات قضائية" خاصة بحرب التحرير الجزائرية بين 1954 و1962، تزامناً مع مرور نحو 60 عاماً على انتهائها، وقبل 15 عاماً من انتهاء مدة السرية المفروضة والمقدرة بـ75 عاماً.
وقالت وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشلو لمحطة "بي إف إم تي في": "أفتح قبل 15 عاماً أرشيف التحقيقات القضائية لقوات الدرك والشرطة حول حرب الجزائر"، بحسب تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية BBC.
لكن النائب الجزائري السابق كمال بلعربي، كان قد أعرب عن تشككه في التحرك الفرنسي "لرفع السرية التي تطغى على دورها في الجزائر". وأضاف بلعربي للأناضول أن الفرنسيين لن يسلموا الوثائق السرية، وقال: "ستستمر فرنسا في التلاعب بالأرشيف. أهم ما في الأمر هو أن نظل ملتزمين بمطالبنا بمحاسبة فرنسا على الجرائم التي ارتكبتها في الجزائر خلال 132 عاماً".
أما توفيق بوقاعدة، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، فقال إن كشف النقاب عن الوثائق لن يؤثر بشكل كبير على العلاقات الفرنسية مع الجزائر، وأضاف أن قرار ماكرون يهدف إلى تهدئة التوترات المحيطة بالموضوع. وقال إن "أهم القضايا العالقة بين فرنسا والجزائر تتعلق بوثائق ما قبل فترة الاستعمار".
وتابع الأكاديمي الجزائري أن فرنسا ليس لها الحق في امتلاك وثائق ما قبل الاستعمار، وأضاف: "إنه تراث إنساني يخص الشعب الجزائري، وهذا ما ترفضه باريس"، مشيراً إلى أنه "من المضلل توقع تسليم فرنسا وثائق تتضمن أبشع المجازر التي ارتكبتها بحق الجزائريين".
ورغم أن صحيفة "لوموند" الفرنسية قد أشارت إلى أنه تمّ تسليم الجزائر عدداً من محتويات الأرشيف الجزائري، في عملية بدأت منذ 1967، فإن الجزائر ترى أن ما تسلمته يبقى قليلاً للغاية. إذ تتهم السلطات الجزائرية القوات الفرنسية بتهريب مئات الآلاف من الخرائط والوثائق التاريخية خلال فترة الاستعمار (1830-1962)، بما في ذلك تلك التي تعود إلى العهد العثماني (1518-1830).
ورغم أن القانون الفرنسي يسمح للمؤرخين الفرنسيين بالتقدم لطلب الوصول إلى الوثائق، فإن الإجراءات تكون طويلة، وغالباً ما تُرفض الطلبات تحت ذريعة "الأمن القومي". ومن غير المتوقع أن يشمل رفع السرية ملفات الجيش.
والحقيقة أن الاستعمار الفرنسي كان دائماً ما يركز ليس فقط على سرقة ثروات المستعمرات، ولكن تاريخها أيضاً، وبدأ ذلك مع الاستعمار الفرنسي القصير لمصر، عندما تمكن الفرنسيون من فك شفرة "حجر رشيد"، واستولوا على كثير من الآثار وأسرار الحضارة الفرعونية، ونقلوها إلى باريس.