انفجار الرئيس الأوكراني علناً بسبب ما قال إنه "إحساس" بأن حرباً قد بدأت بالفعل، ونفي وزارة الدفاع ما يتردد على لسان مسؤولين أمريكيين بشأن غزو روسي وشيك، يثيران تساؤلات حول حقيقة ما يجري على الأرض.
تتزامن الأزمة الأوكرانية، التي تهدد أوروبا والعالم حالياً بحرب لا أحد يمكنه التنبؤ بمسارها أو حتى أطرافها إذا ما اندلعت بالفعل، مع مرور 30 عاماً على سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي كانت أوكرانيا دولة أساسية فيه، وهو ما يضيف بُعداً أكثر خطورة لما يحدث، خصوصاً أن أزمة مشابهة انتهت عام 2014 بضم روسيا شبه جزيرة القرم من أوكرانيا ولم تتطور الأمور أبعد من ذلك.
فالأزمة الأوكرانية في الأساس أزمة جيوسياسية، إذ يريد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن يُرغم حلف الناتو على وقف تمدده شرقاً، ولأن موسكو لا تثق بقدرة الدول الأوروبية على التحرك دون موافقة واشنطن، فقد قرر الرئيس الروسي أن يطلب ضمانات قانونية مكتوبة من نظيره الأمريكي بايدن تنص على أن الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً.
وكانت أوكرانيا عضواً مؤسساً مع روسيا في الاتحاد السوفييتي السابق، وكانت مقراً لثلث الأسلحة النووية السوفييتية وقوة كبيرة في حلف وارسو (الحلف العسكري الشرقي). وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي، حصلت أوكرانيا على استقلالها عام 1991، بعد إجراء استفتاء لمواطنيها للاختيار بين البقاء ضمن الاتحاد الروسي (روسيا وروسيا البيضاء وأوكرانيا) أو الاستقلال كأمَّة أوكرانية، وصوّت 90% من السكان لصالح الاستقلال.
ولا تزال روسيا تنفي نيتها غزو أوكرانيا بينما تُظهر صور الأقمار الصناعية تزايد الحشود العسكرية الروسية على الحدود مع أوكرانيا، لكن التصريحات الصادرة عن المسؤولين الأوكرانيين في اليومين الأخيرين، تطرح تساؤلات بشأن حقيقة ما يجري في كواليس الأزمة التي يتابعها العالم بقلق بالغ.
"أوكرانيا ليست تيتانيك"!
خلال مؤتمر صحفي عقده الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الجمعة 28 يناير/كانون الثاني، توالت أسئلة الصحفيين حول الغزو الروسي المحتمل أو "الوشيك"، فانفعل زيلينسكي ودعا إلى التوقف عن "إثار الفزع"، مضيفاً أنه في حالة اندلاع الحرب فعلاً فـ"لن يتدخل جيش أي دولة أخرى للدفاع عن أوكرانيا".
زيلينسكي اتهم الصحافة بإثارة الذعر، وبدا مصمماً بشكل لافت، على التقليل من الخطر، وقال إن بعض الدول الأوروبية تعمل على خلق أجواء الذعر، بسبب احتمال نشوب حرب بين أوكرانيا وروسيا، داعياً إياها إلى التصرف بحذر أكبر، عند الحديث عن التوتر بين بلاده وروسيا.
وعلى الرغم من عدم تحديد زيلينسكي دولاً بعينها، فإنه خلال الأسابيع القليلة الماضية، أرسلت السويد قوات عسكرية وتعزيزات إلى جزيرة غوتلاند، وبدأ النقاش يتركز حول مدى قدرة الجيش السويدي على صد أي هجوم روسي يستهدف البلاد من ناحية، وإذا ما كان الوقت أصبح مناسباً للانضمام إلى حلف الناتو من ناحية أخرى، على خلفية الأزمة الأوكرانية.
وكان الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبرغ، قد صرح مؤخراً بأن السويد وفنلندا تتوافر فيهما إلى حد كبير، المعايير الدفاعية للحلف، ويمكنهما الانضمام بسرعة إلى الناتو في حالة اتخاذ قرار سياسي لكل منهما. وقبل ذلك، قالت نائبة وزيرة الخارجية الأمريكية، فيكتوريا نولاند، إن الولايات المتحدة مستعدة للتباحث مع فنلندا والسويد بشأن إمكانية انضمامهما إلى الناتو، إذا أعربت هاتان الدولتان عن هذه الرغبة.
وأعلن وزير الدفاع السويدي بيتر هولتكفيست، أن "القوات المسلحة تتخذ الإجراءات اللازمة لحماية سلامة السويد وإظهار قدرتنا على حماية البلاد ومصالحها".
ورداً على أسئلة تتعلق بإجلاء سفارات غربية بعض موظفيها، أبدى الرئيس الأوكراني انزعاجه بشكل علني: "الدبلوماسيون مثل قادة السفن"، وأضاف: "يجب أن يكونوا آخر من يغادر سفينة تغرق. وأوكرانيا ليست تيتانيك".
وهذه هي المرة الأولى التي ينتقد فيها الرئيس الأوكراني إجلاء دبلوماسيين غربيين بشكل علني، والخطوة جاءت بداية من جانب إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال الأسبوع الماضي، وأعلنت بريطانيا عن الخطوة ذاتها ثم عدد من الدول الغربية الأخرى.
وكانت السفارة الأمريكية قد أصدرت بياناً قالت فيه: "تشاورنا مع الحكومة الأوكرانية بشأن هذه الخطوة، ونقوم بالتنسيق مع سفارات الحلفاء والشركاء في كييف مع تحديد مواقفهم"، لكن الواضح أن هذا التصرف قد أغضب كييف.
أوكرانيا تنفي تقارير أمريكية
ونقلت رويترز، الجمعة، أيضاً تصريحات لثلاثة مسؤولين أمريكيين قالوا فيها إن الحشد العسكري الروسي بالقرب من حدود أوكرانيا اتسع ليشمل إمدادت الدم إلى جانب مواد طبية أخرى تسمح بعلاج المصابين، مما يدعم تعليقات أمريكية بأن روسيا أصبح لديها الآن "بوضوح" القدرات اللازمة للتحرك ضد جارتها.
إذ يضيف الكشف عن إمدادات الدم من جانب هؤلاء المسؤولين، الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم، بُعداً إلى التحذيرات الأمريكية المتنامية من أن روسيا ربما تستعد لغزو جديد لأوكرانيا، في الوقت الذي تحشد فيه أكثر من مئة ألف جندي بالقرب من حدودها.
إلا أن هانا ماليار، نائبة وزير الدفاع الأوكراني، نفت تلك التصريحات الأمريكية، وقالت على حسابها الرسمي بـ"فيسبوك" السبت 29 يناير/كانون الثاني: "هذه المعلومات غير صحيحة. مثل هذه (الأخبار) هي أحد عناصر الحرب الإعلامية والنفسية. الغرض من مثل هذه المعلومات هو نشر الفزع والخوف في مجتمعنا".
ويتزامن ذلك السعي الواضح من جانب كييف إلى التقليل من التقارير الغربية التي تشير إلى أن الغزو الروسي بات وشيكاً، مع اتجاه واضح من جانب الكرملين إلى ما يصفه خبراء بأنه "طمأنة" لأوكرانيا.
إذ قال بوتين، الجمعة، إن الولايات المتحدة وحلف الناتو لم يتجاوبا مع المطالب الأمنية الرئيسية لروسيا في المواجهة حول أوكرانيا، لكنه أبدى الاستعداد لمواصلة الحوار. كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، لمحطات إذاعة روسية: "إذا كان الأمر متوقفاً على روسيا فلن تكون هناك أي حرب. لا نريد حروباً. لكننا لن نسمح أيضاً لأحد بأن يدوس على مصالحنا بفظاظة أو يتجاهلها".
جونسون وبايدن وماكرون.. لكلٍّ أسبابه الخاصة
لا أحد يمكنه الجزم بما قد يقْدم عليه الرئيس الروسي في نهاية المطاف، لكن بعض المحللين يرون أن مواقف بعض الزعماء في الأزمة الحالية ربما تكون لها دوافع تخص أوضاعهم الداخلية الخاصة وليست فقط متعلقة بأوكرانيا أو الحفاظ على استقلالها.
فرئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، عالق في أزمة سياسية عنيفة ويسعى لإنقاذ منصبه بعد فضيحة حفلات شارك فيها وانتهكت القيود الخاصة بجائحة كورونا، ويرى كثير من المحللين والمراقبين أن هذا هو أحد الأسباب الرئيسية وراء الموقف المتشدد للندن بشأن الأزمة الأوكرانية.
وكانت وزارة الخارجية البريطانية قد نشرت تقريراً الأسبوع الماضي، قالت فيه إن بوتين يريد تنصيب حكومة موالية له في أوكرانيا، وذكرت أسماء شخصيات أوكرانية بعينها، فيما ردَّت الخارجية الروسية بوصف تلك التقارير بأنها "هراء". ونشرت صحيفة الغارديان مقالاً بعنوان "لا يوجد إلهاءٌ أقوى من الحرب"، حذَّر من أنه لا يوجد أخطر من زعيم شعبوي في مأزق، وهما في هذه الحالة بوتين وجونسون.
وفيما يتعلق بالرئيس الأمريكي، يرى كثير من المحللين أنه في ظل الموقف الداخلي الصعب الذي يواجهه بايدن في عام يشهد انتخابات التجديد النصفي للكونغرس وتراجع شعبية بايدن إلى أدنى مستوى لها، يعتبر الحديث عن الحرب الوشيكة إلهاءً مرحَّباً به في هذا التوقيت.
ورصد تحليل لهيئة الإذاعة البريطانية BBC فوائد "حديث الحرب" لبايدن وجونسون ومعهما أيضاً الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي ينتظر انتخابات رئاسية في أبريل/نيسان المقبل، فالأول يعيش صعوبات ما بعد الانسحاب من أفغانستان؛ والثاني يواجه تحديات ما بعد بريكست؛ بينما ينتظر الثالث اختباراً صعباً للفوز بفترة رئاسية ثانية. وعلى الجانب الآخر يوجد بوتين في المكان الذي يريده تماماً وهو مركز اهتمام العالم.
الخلاصة هنا أن التصريحات الصادرة مؤخراً عن الرئيس الأوكراني ومسؤولين آخرين، تكشف عن تباينات واضحة في المواقف بين أطراف الأزمة التي تشغل العالم حالياً، ولكل طرفٍ أهدافه الخاصة؛ وهو ما قد يتسبب في اندلاع حرب يصفها الجميع بأنها "غير حتمية" ويسعون للحيلولة دون اندلاعها.