منذ أن انتشرت الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني في محافظة دير الزور بسوريا -والتي كانت معظمها سابقاً تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"- نجحت خلال أعوام قليلة من وجودها هناك، بتطويع الآلاف من الشبان المحليين في صفوفها، ما حقّق للحرس الثوري اتصالاً مهماً بالمجتمعات المحلية. وتحاول إيران التقرّب من السكان واكتساب الشرعية منهم، عبر أنشطتها وأعمالها المدنية الخيرية، التي اعتمدت فيها بشكل رئيسي على المركز الثقافي الإيراني، ومنظمة "جهاد البناء".
وتقول صحيفة The Washington Post الأمريكية إنه حين فتح الجيش السوري مكاتب في محافظة دير الزور الشهر الماضي، ديسمبر/كانون الأول 2021، لتجنيد مقاتلين ممكن كان لهم نشاط سابق مع المعارضة أو انشقوا عن النظام، لم يأتِ أحد تقريباً. ووفقاً لموقع إخباري محلي، كان العدد قليلاً جداً لدرجة أنَّ مسؤولي الأمن السوريين اضطروا لسحب المارة الأصحاء إلى الداخل على أمل تسجيلهم.
الميليشيات الإيرانية تتفوق على جيش النظام السوري في تجنيد المقاتلين
وفي حين كان النظام السوري قد تعهَّد بـ"الصفح وبدء صفحة جديدة مع الكثير من الشباب" كجزء من مساعٍ أوسع نطاقاً للمصالحة، واجهت المبادرة عقبة كبرى، إذ كانت الميليشيات المرتبطة بإيران والنشطة في المحافظة تعرض بديلاً أكثر جاذبية، وذلك وفقاً لخبراء محليين وأفراد مسلحين سابقين.
وتمارس إيران لعبة طويلة الأمد في دير الزور، فنجحت في تجنيد السوريين المحليين في الميليشيات الحليفة، ووفَّرت خدمات لا تستطيع الحكومة المفتقرة بشدة إلى الثقة توفيرها، وأرست جذوراً في محافظة استراتيجية يمكن أن تعزز مصالح طهران الإقليمية حتى بعد انتهاء الحرب السورية في نهاية المطاف وتراجع أهمية دعم إيران للرئيس بشار الأسد.
وقال الخبراء إنَّ إيران تبني المدارس وتفتتحها وتوزع كراتين الغذاء. وتحاول تحويل المساجد في المحافظة السُنّيّة إلى شيعية، وهو المذهب الرسمي لإيران، وفي حين تحول قلة من السوريين بالفعل إلى المذهب الشيعي، بات الأذان الشيعي الآن مسموعاً للمرة الأولى في دير الزور، بحسب "واشنطن بوست".
إيران تعرض رواتب على المقاتلين لا يستطيع النظام دفعها
يروي شاب يُدعى أبو خديجة أنَّه حين انضم إلى ميليشيا مدعومة من إيران قبل ثلاث سنوات، لم يكن دافعه الدين أو الأيديولوجيا. بل أراد الراتب والمزايا. ومثل الكثير من الشباب السوري الذي انضم إلى الميليشيات، قال أبو خديجة إنَّه اعتبر أنَّهم "الحل الوحيد للهروب من الجيش".
وقال إنَّه في حين يدفع الجيش السوري في دير الزور راتباً شهرياً يبلغ 27 ألف ليرة سورية، وهو ما يعادل نحو 7.5 دولار أمريكي، تعرض الميليشيات المدعومة من إيران أكثر من ضعف ذلك، فضلاً عن وجود رواتب أعلى في مناطق مثل مدينة البوكمال على الحدود العراقية.
وقال أبو خديجة، الذي يبلغ الآن 26 عاماً، إنَّه انضم إلى كتيبة تتألف من 100 سوري يحمون في الغالب المخازن الإيرانية في دير الزور. وهم مُكلَّفون بالتناوب لمدة 15 يوم عمل و15 يوم إجازة. وأضاف أنه على العكس من ذلك، كثيراً ما يرسل الجيش السوري الجنود بعيداً عن مناطقهم لشهرين على الأقل كل مرة، مع إجازة تبلغ 5 أيام فقط.
وأضاف الشاب أنَّ بطاقة التعريف الخاصة بالميليشيا تُخوِّل المقاتلين الحصول على كرتونة غذاء شهرية، تتضمَّن سكر وزيت طهي وأرز وتونة معلبة وحبوب. وتكون الكراتين مُزيَّنة بصورة للقائد العسكري الإيراني الراحل قاسم سليماني، الذي اغتالته القوات الأمريكية في العراق قبل عامين، إلى جانب جملتين باللغة العربية والفارسية تقولان: "هدية من المقاومة الإسلامية". يُقدَّم لحاملي البطاقات أيضاً رحلات مجانية إلى دمشق كل اثنين وثلاثاء على متن طائرات إيرانية، ويمكن لأولئك الراغبين في الزيارة، لأي سبب، التسجيل في الرحلة قبل يوم واحد.
يشير أبو خديجة إلى أنَّ بطاقة التعريف لا تسمح له فقط بحمل السلاح، بل الأهم أنَّها تحميه من التعرض للاعتقال أو الاستجواب على يد الجيش السوري، المكروه والمرهوب من معظم السكان.
ممر بري من إيران حتى لبنان
كانت الميليشيات المدعومة من إيران طوال معظم فترة الحرب السورية تمثل داعمة حاسمة للنظام السوري، لكنَّها في بعض المناطق، خصوصاً شرقي البلاد، تمثل أيضاً منافسة على النفوذ المحلي.
منحت إيران أولوية لترسيخ موقعها في محافظة دير الزور، وتتولى ميليشيات حليفة مختلفة بشكل أساسي السيطرة على المدن الرئيسية. ولعل المدينة الأهم هي البوكمال، الواقعة على طول نهر الفرات عند الحدود العراقية.
وتمثل هذه المدينة معبراً استراتيجياً لإيران، التي تسعى لإقامة "ممر بري" -من إيران ويمر بالعراق وسوريا وصولاً إلى لبنان- يسمح بنقل المعدات العسكرية إلى حلفاء طهران، لاسيما حزب الله في لبنان. وتمنح حركة المواد والمقاتلين بطول هذا الممر البري إيران العديد من المزايا الاستراتيجية، بما في ذلك قدرة أكبر على مواجهة عدوتها إسرائيل.
ولضمان بقاء هذا الممر في يدٍ صديقة، تمارس إيران حملتها متعددة الجوانب لنيل دعم السكان. فقال عمار الحمد، وهو محلل مقيم في سوريا ومتخصص في الشؤون القبلية في شرق وشمال شرق سوريا: "يريد الإيرانيون إنشاء قاعدة شعبية موالية لهم في حال اضطروا للمغادرة يوماً ما".
"الإيرانيون لديهم نفوذ أكبر من الجيش"
ويعمل عددٌ لا يُحصى من الميليشيات في دير الزور، بعضها متحالف مع النظام السوري وحليفه روسيا بالإضافة إلى تلك المتحالفة مع إيران. ووفقاً لناشط محلي يُعرَف باسم أبو مارية، تضم العديد من الميليشيات المرتبطة بإيران أفراداً وقيادات محلية سورية تتلقَّى الأوامر من قادة إيرانيين أرفع منهم. وقدَّر أبو مارية أنَّه يوجد نحو 12 ميليشيا كبيرة متحالفة مع إيران في المحافظة تتألف من مقاتلين أجانب، بينهم إيرانيون وكذلك أفغان وباكستانيون.
قال أبو خديجة إنَّ السكان في منطقته تقبَّلوا إلى حدٍّ كبير الهيمنة الإيرانية، في الغالب لأنَّ الميليشيات المدعومة من إيران لديها بوضوح سلطة على الأرض أكبر من الجيش السوري. بل ويُقدِّم السكان الشكاوى لدى المسؤولين الإيرانيين حين يتسبب جنود الحكومة بمشكلات. وأضاف: "لديهم نفوذ أكبر من الجيش".
يشعر معظم سكان دير الزور بالقلق من الجيش السوري، الذي اشتهر بارتكاب الفظائع خلال الحرب التي امتدت 10 سنوات. ولا يوجد خوف مماثل من الإيرانيين. وقال أبو خديجة: "إنَّهم يحاولون نيل دعم الناس، بعكس الجيش. إذا أراد الجيش شيئاً من شخصٍ ما، فإنَّه يكسر الباب. الإيرانيون لا يفعلون أموراً كهذه".
قال عمر أبو ليلى، وهو من سكان المنطقة الأصليين ويترأس شبكة رصد تُدعى "دير الزور 24": "لا توجد سلطة حقيقية على الأرض بقوة إيران في أعين السكان". وقال إنَّ إيران مدركة لذلك، لكنَّه أضاف أنَّ "إيران ليست غبية: إنَّها تتأكَّد من عدم اكتساب عداوة الناس".
مدارس ومشافٍ ومساعدات إنسانية
مع ذلك، تندلع احتجاجات متناثرة ضد الوجود الإيراني على الجانب المقابل من نهر الفرات كما تقول "واشنطن بوست"، حيث تظل الأرض خارج سيطرة النظام السوري وتتولى "قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الأكراد وتدعمها الولايات المتحدة السيطرة. وقال أبو ليلى إنَّ الاحتجاجات المتواضعة، التي ينظمها عادةً سوريون نازحون من مناطق أخرى، تطالب بحق العودة إلى ديارهم وخروج الإيرانيين.
وكجزء من محاولة نيل دعم السكان المحليين، عمل الإيرانيون على المساعدة في تحسين ظروف المعيشة. فوفقاً لتقارير محلية، تبني منظمة "جهاد البناء" المدارس وتقيم المستشفيات الميدانية وتفتتح دور الحضانة في دير الزور وكذلك في مدن حلب وحماة ومناطق أخرى في مناطق سوريا التي تسيطر عليها الحكومة.
وقال أبو ليلى إنَّ "المركز الثقافي الإيراني" يعيد، في غضون ذلك، تأهيل المساجد في محاولة لنشر المذهب الشيعي، ونظَّم خلال شهر رمضان المبارك صفوفاً في اللغة الفارسية والتاريخ الإيراني، وقدَّم حوافز مالية للأسر التي تُنهي الصف، وأقام المركز أيضاً أضرحة شيعية لجذب الزوار.