بينما تشكل الهجمات الصاروخية الحوثية مشكلة لدولة الإمارات، فإنها بمثابة كارثة كبيرة بالنسبة لدبي تحديداً رغم أنها لم تستهدفها، وقد تسهم هذه الهجمات في تفاقم الخلافات بين أبوظبي ودبي والتي كانت السياسة الخارجية دوماً أحد أسبابها.
دبي واحدة من الإمارات السبع التي تشكل دولة الإمارت العربية المتحدة، والإمارة الوحيدة التي تمتلك احتياطات كبيرة من النفط والغاز هي أبوظبي، وبالتالي هي المسيطرة على الإمارات وخاصة فيما يتعلق بالدفاع والسياسة الخارجية منذ تشكيل الإمارات عقب الانسحاب البريطاني من الخليج عام 1971.
تاريخ الخلافات بين أبوظبي ودبي
منذ أن نالت الإمارات استقلالها قبل 50 عاماً، كانت بنية السلطة لديها مزدوجة الرأس، مع وجود هويات وأولويات محددة لأبوظبي ودبي، كان لهذه الخلافات بين أبوظبي ودبي تأثيرات على السياسات الداخلية للبلاد بشكل واضح للعيان وقد انعكست أيضاً، على مر السنين، على السياسة الخارجية للبلاد التي بدت متناقضة في كثير من الأحيان، حسب تقرير لمعهد دول الخليج العربية في اشنطن.
وظهرت الخلافات بين أبوظبي ودبي واضحة خلال الحرب الإيرانية-العراقية، حيث كانت الإمارات بها "معسكران"، إذ قادت دبي "مجموعة واضحة الحياد" (مع الشارقة وأم القيوين)، بينما اتبعت أبوظبي ما أصبح حديثاً يُعرف بمجلس التعاون الخليجي الموالي للعراق (إلى جانب إمارات رأس الخيمة وعجمان والفجيرة).
كما حافظت دبي دوماً على استقلالية نسبية داخل الاتحاد بما في ذلك فرقها الشرطية الخاصة، والتي تخلت عنها بعد ذلك، كما تخلت عن البرنامج العسكري المستقل تحت ضغط أبوظبي التي انفردت به.
ولجأت دبي لإيجاد سبل لعمل توازن اقتصادي ومالي يمكِّنها من الحفاظ على ذاتيتها، وعدم الانزلاق نحو النزعة المركزية لأبوظبي التي استطاعت إخضاع بقية الإمارات، جرى ذلك عبر سياسات تحويل دبي لمركز مالي مهم في العالم، والاهتمام بالإنشاءات والسياحة والتجارة والسيطرة على الموانئ العالمية، ومع الوضع السياسي لعائلة آل مكتوم في التحالف الحاكم، الذي ضمنته لهم بريطانيا، استطاعت دبي أن تحدث طفرات اقتصادية أدت للحفاظ على التوازن بينها وبين أبوظبي إلى حد ما.
في المقابل، تعتبر أبوظبي إمارة مهيمنة بسبب وضعها السياسي واحتياطياتها النفطية، ودورها التاريخي في تأسيس الاتحاد، كما أن أراضيها تمثل 83% من مساحة الإمارات.
ودستور الإمارات ينص على امتلاك كل إمارة من إماراتها السبع لثرواتها المحلية، وهو ما يعمق من الفجوة الاقتصادية بين الإمارات وبعضها البعض، ويجعل بعض الإمارات الفقيرة غير قادرة على تدبير الحد الأدنى من إيراداتها.
كيف عززت أبوظبي قبضتها على الاتحاد؟
من خلال بيع النفط والعائدات، تقدم أبوظبي المساعدة المالية والاقتصادية إلى مشيخات الإمارات الأخرى وتحتفظ أبوظبي بالسيطرة على الإمارات الأخرى، بينما تتمتع دبي باستقلال نسبي كبير، وإن كانت أصبحت أكثر اندماجاً في الاتحاد بعد الأزمة المالية التي ضربتها عام 2008، حيث تلقت دعماً من أبوظبي لإنقاذها، وهو دعم جاء متأخراً كوسيلة على ما يبدو للضغط على دبي لبيع بعض ممتلكاتها وكذلك التنازل عن بعض استقلاليتها.
في ذلك الوقت، قالت بعض المصادر الإعلامية إن إمارة أبوظبي ستطلب من شقيقتها الصغرى دبي أن تتنازل عن بعض القضايا لاسيما فيما يتعلق بمستقبل شركة طيران الإمارات، والعلاقات التجارية التي تجمع دبي بإيران، والحياة الليلية الصاخبة التي ترى فيها بعض الأوساط المحافظة في أبوظبي "مخلة بالأخلاق".
وتعززت سيطرة أبوظبي على البلاد بفضل النمو الكبير للقوة العسكرية الإماراتية، حيث بات ينظر للجيش الإماراتي بأنه أكفأ قوة عسكرية عربية بالنظر لحجمه، وهو أمر يظهر واضحاً في الفارق بين أدائه وأداء الجيش السعودي الأكبر حجماً في حرب اليمن.
وعلى الرغم من أن الرئيس الفخري لوزارة الدفاع الإماراتية هو حاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، وعلى الرغم من أن لقب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية يحمله الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، يُعتبر الشيخ محمد بن زايد، أخ الشيخ خليفة وولي عهد أبوظبي، وسيط القوة الحقيقي عندما يتعلق الأمر بالشؤون العسكرية. قاد محمد بن زايد، على مدى عقود عدة بصفته نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، تغييرات جوهرية داخل المؤسسة العسكرية، ولا سيما الحرس الرئاسي. فبالإضافة إلى جمع الأموال لشراء أفضل الأسلحة والمعدات المتاحة، صاغ محمد بن زايد أيضاً الثقافة التنظيمية للمؤسسة العسكرية وطور رأس المال البشري لها.
حرب اليمن ذروة الخلافات بين الجانبين
خلال السنوات الماضية، أفادت تقارير عدة بوجود خلافات بين الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم دبي رئيس وزراء الإمارات، وبين الشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي الحاكم الفعلي للبلاد، حول السياسة الخارجية تحديداً.
حيث أفيد بأن بن راشد انتقد سياسات التوسع العسكري الإماراتي في ليبيا واليمن وغيرها، موضحاً أنها كلفت البلاد المليارات دون مقابل.
وهو ما سبق أن أكده راشد بن حمد الشرقي، نجل حاكم إمارة الفجيرة، عقب خروجه من الإمارات، حيث نقلت عنه صحيفة The New York Times الأمريكية، في 14 يوليو/تموز 2018 استياء حكام الإمارات الست الأخرى من أبوظبي بسبب عدم مشاورتها لهم قبل إرسال القوات الإماراتية إلى اليمن.
حصار قطر كان سبباً رئيسياً للخلاف
كما قيل إن دبي وبقية الإمارات المشكلة للاتحاد كانت قلقة من السياسة التي يقودها محمد بن زايد فيما يتعلق بحصار قطر على وجه الخصوص الذي بدأ عام 2017، وانتهى العام الماضي.
فدبي التي تعد مركزاً للتجارة والنقل والترانزيت بالمنطقة قد تضررت بشدة من الحصار على قطر، حيث افتتحت الأخيرة ميناء حمد لتعزيز قطاع خدمة التجارة وتسهيل الاستيراد والتصدير، بعيداً عن منطقة جبل علي التي تخدم الغاية ذاتها في دبي، كما تزايد اعتماد الدوحة على سلطنة عُمان في تجارتها الخارجية.
كما عانت إمارة دبي خصوصاً من خسائر بمليارات الدولارات بعدما منعت الشركات القطرية من العمل فيها، وفقدت استثمارات قطرية في قطاع العقارات تقدر بمئات ملايين الدولارات.
كذلك الموقف من إيران
يعتقد أن طبيعة العلاقة مع إيران هو أحد أبرز أسباب الخلافات بين أبوظبي ودبي، إذ تعتبر الأخيرة المنفذ الرئيسي للتجارة الخارجية الإيرانية بما فيها غير المشروعة، كما يوجد بها جالية إيرانية نشطة وممثلة حتى في المؤسسات الحكومية بما في ذلك المؤسسات الأمنية.
وأدت الاختلافات الجوهرية بين أبوظبي ودبي إلى تعقيد العلاقات الثنائية بين الإمارات العربية المتحدة وإيران، حيث إن نهج أبوظبي أقرب للموقف السعودي المناهض لطهران، في حين ينظر قادة دبي "إلى علاقتهم مع إيران من خلال عدسة تجارية مقدمين العلاقات التجارية على العلاقات السياسية".
بدلاً من أن تكون هذه مشكلة، فإن هذه المواقف المتباينة بين الإمارتين الرئيسيتين أعطت دولة الإمارات بعض المساحة للمناورة داخل بنية الأمن الإقليمي للخليج. وقد سمحت لها هذه المواقف بالفعل بتنفيذ سياسات تختلف عن سياسة جارتها الكبرى السعودية دون أن يبدو أنها تتحدى وجهات نظرها. ولعل أفضل ما يوضح ذلك هو تقليص الإمارات علاقاتها مع إيران، وليس قطعها، عندما قطعت السعودية والبحرين والسودان العلاقات مع إيران أوائل عام 2016 عقب الهجمات على السفارة السعودية في طهران.
ولكن بصفة عامة بعد إنقاذ أبوظبي دبي من أزمتها المالية، أخذت الإمارات تدريجياً تتحدث بصوت واحد، هو "صوت أبوظبي" في تعاملاتها وخلافاتها مع طهران".
وعملت أبوظبي بهدوء على تقليص العلاقات الاقتصادية لإمارات معينة مع إيران، بما في ذلك دور دبي كمركز مالي للشركات الإيرانية التي تخرق العقوبات.. وإن كان ذلك محدود النجاح، حسب معهد دول الخليج العربية في اشنطن.
بن راشد يلمح لاستيائه من سياسات بن زايد.. فهل استجاب الأخير؟
في أغسطس/آب 2018، غرد بن راشد قائلاً " #علمتني_الحياة أن الخوض الكثير في السياسة في عالمنا العربي هو مضيعة للوقت.. ومَفسدة للأخلاق.. ومَهلكة للموارد.. من يريد خلق إنجاز لشعبه فالوطن هو الميدان.. والتاريخ هو الشاهد.. إما إنجازات عظيمة تتحدث عن نفسها أو خطب فارغة لا قيمة لكلماتها ولا صفحاتها".
اعتبر الكثيرون أن هذه التغريدة انتقاد ضمني لسياسات محمد زايد في التدخل الخارجي بالمنطقة العربية، والذي قد يضر السياسات الاقتصادية المحلية.
ومن الواضح أن أكثر ما كان يقلق بن راشد من حرب اليمن تحديداً ليس فقط المليارات التي أنفقت في الحروب، ولكن الأخطر هو أن تتعرض دبي لهجوم صاروخي من الحوثيين.
فالمدينة التي تقدم نفسها كعاصمة عالمية للسياحة والسفر والتجارة والعقارات، يمكن أن تتدمر سمعتها لعقود لو علقت طائرة حوثية مسيرة بخسة الثمن في برج خليفة الأيقوني.
ويعتقد أن هذه المخاوف التي عبر عنها بن راشد، قد يكون لها دور في التغيير في السياسة الإماراتية الذي بدأ بالانسحاب من اليمن، والذي جاء بعد هجمات حوثية على الإمارات كانت بمثابة إنذار للسيناريو الذي ينتظر الإمارات من هذه الحرب، ولذا جاء قرارها بالانسحاب من اليمن في منتصف عام 2019.
في ذلك الوقت قال نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني نعيم قاسم إن هناك "خلافات قوية" بين ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد وحاكم دبي محمد بن راشد بسبب سياسة الأول والحروب التي ورط فيها بلاده، كاشفاً في الوقت ذاته عن اتصالات سرية بين الحوثيين والإمارات لتنظيم عملية انسحاب الأولى من اليمن لأن "الانسحاب على الأرض لا بد أن يكون مواكَباً بتواصل ولو سرّي أو بالواسطة أحياناً من أجل الاتفاق على بعض الخطوات".
كما أن الخسائر الكبيرة التي ألحقها الهجوم على منشأة أرامكو السعودية في سبتمبر/أيلول 2019، والذي يشتبه في أن إيران تقف وراءه، أظهر للإماراتيين خطورة التورط في نزاعات المنطقة، وعزز التوجهات للتهدئة والابتعاد عن المشكلات التي دعا إليها الشيخ محمد بن راشد حاكم دبي.
وبعد ذلك شاركت الإمارات على مضض في قمة العلا عام 2021 التي أنهت الحصار الخليجي على قطر، ثم فاجأ بن زايد العالم بزيارة لتركيا التي كانت أبوظبي تعتبرها خصمها الأول لدعمها الديمقراطية والإسلام السياسي بالمنطقة، في زيارة تضمنت استقبال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان له وإبرام اتفاقات اقتصادية مهمة.
الإمارات تترك ميناء الحديدة الاستراتيجي للحوثيين
بلغ التفاهم غير الرسمي بين الحوثيين والإمارات في اليمن ذروته، عندما انسحب عدد من الألوية العسكرية اليمنية التابعة للإمارات من الحديدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2021 من دون سبب معروف لتترك قوات الحكومة الشرعية بمواجهة الحوثيين، رغم أن الإمارات كانت قد قامت بعملية عسكرية كبيرة للسيطرة على الميناء في عام 2017، وكلفت هذه المعارك التحالف العربي تكلفة كبيرة وخسائر كبيرة في القوات اليمنية الموالية للحكومة الشرعية.
وأدى انسحاب القوات التابعة للإمارات من الحديدة إلى استيلاء الحوثيين عليها؛ ما سهل لهم العمليات في البحر وأصاب قوات الحكومة الشرعية والتحالف العربي بنكسة ظهرت واضحة في محافظة مأرب الاستراتيجية.
كان هذا الانسحاب الذي استغربته حتى الأمم المتحدة مؤشراً على رغبة أبوظبي في استرضاء الحوثيين حتى لو على حساب حليفتها السعودية.
عودة إماراتية تغضب أنصار الله
ولكن مؤخراً عاد الدور الإماراتي يتصاعد في في اليمن، وتحدث مسؤول أمريكي لصحيفة وول ستريت جورنال عن زيادة التنسيق بين الإمارات والسعودية مؤخراً، قائلاً إن الإماراتيين يقدمون المزيد من القوة كجزء من التحالف الذي تقوده السعودية، وأسفرت تحركات الميليشيات اليمنية الموالية للإمارات عن هزيمة للحوثيين في مأرب، وهي المحافظ الرئيسية الأخيرة المتبقية في يد قوات التحالف في شمال اليمن.
وقد ينذر عودة الدور الإماراتي لليمن بتجدد الخلافات بين أبوظبي ودبي.
فخلال الفترة الأخيرة، بدا أن الإمارات قد قررت التركيز على الاقتصاد، والتخلي تدريجياً عن التورط في الأزمات الخارجية، وبدا أن الهدف الجديد جعل الإمارات كلها على شاكلة دبي أي التوجه لسياسات تحررية على النمط الغربي بدءاً من جعل الإجازة الأسبوعية الأحد بدلاً من الجمعة، ورفع الرقابة عن السينما، وغيرها من الإجراءات الرامية لترويج الإمارات كلها للغرب، وليس دبي فقط.
والآن مع عودة القصف الحوثي فإن هذا النموذج مهدد، وقد تكون كيفية الرد على الهجوم الحوثي سبباً لتجدد الخلافات بين أبوظبي ودبي.، فقد تسعى أبوظبي للرد أو على الأقل إبقاء دعمها للجهد الحربي للتحالف العربي في اليمن، بينما ستنظر دبي للأمر من منظور اقتصادي بالأساس، وهو ما يعني أنها قد تطلب عدم الرد أو التهدئة أو حتى تفاهم سري مع الحوثيين، وترك السعودية وحلفائها يواجهون مصيرهم في اليمن.
واللافت في هذا الصدد، أن الحوثيين لم يستهدفوا في الهجومين الأخيرين دبي بل أبوظبي فقط، في رسالة ضمنية لمعاقبة الأخيرة على دعمها للتحالف العربي في اليمن، ولكن الرسالة الأخطر هي أن الحوثيين قد ينتقلون في المرحلة القادمة لدبي الأكثر هشاشة لأي هجمات عسكرية، وبالتالي ستدفع دبي ثمن مغامرة لم تخضها وليس لها علاقة بها.
بالنسبة لدبي احتمال سقوط صواريخ حوثية حتى لو تحييد أغلبها بالمضادات، مسألة مختلفة تماماً عن السعودية وحتى أبوظبي.
فبينما تستطيع أبوظبي الصمود أمام التداعيات الاقتصادية، للهجمات الحوثية، بفضل أموال النفط وصندوقها السيادي الذي يعد واحداً من أكبر الصناديق في العالم، فإن دبي التي تعتمد بشكل كامل على قطاعات الاستثمار الأجنبي والعقارات والسياحة والنقل، وكونها مقراً للشركات الأجنبية بالمنطقة، معرضة لكارثة اقتصادية حقيقية إذا استهدفتها هجمات الحوثيين.
تجدر الإشارة إلى أن عدد سكان الإمارات يبلغ 10 ملايين، 90% منهم من الأجانب من 200 جنسية مختلفة. وفرضت الإمارات نفسها مركزاً للمال والأعمال، بفنادقها الفخمة وأبنيتها الحديثة وأبحاثها في مجال التكنولوجيا وسعيها إلى اقتصاد يقوم على تنويع مصادر الطاقة، وطموحاتها الفضائية.
ولكن دبي تحديداً ليست موطناً فقط للعمالة الكادحة من جنوب آسيا والعالم العربي كبقية دول الخليج، بل هي مقصد شتوي مفضل للسائحين من كل العالم، وموطن لكثير من النخب الغربية الباحثة عن الدفء في الشتاء تحت شمس الخليج والأهم المستفيدة من الملاذات الضريبية الآمنة التي توفرها دبي، وهذه الفئات ستكون الأكثر حساسية لأي هجوم حوثي، فهؤلاء القوم لم يتركوا بلادهم هرباً من البرد والضرائب لرؤية الصواريخ تنهال عليهم من سماء الشرق الأوسط.