التوتر الحالي بين الغرب وروسيا بسبب أوكرانيا دفع بعض الدول الأوروبية لعب دور في هذه الأزمة بعيداً عن موقف الاتحاد الأوروبي من أجل تحقيق بعض المكاسب السياسية لهذه البلدان.
كان النموذج الأكثر وضوحاً هو موقف بريطانيا التي استحوذت على اهتمام العالم يوم السبت 22 يناير/كانون الثاني حين اتهمت الرئيس فلاديمير بوتين بالتخطيط لتنصيب زعيم موالٍ لروسيا في أوكرانيا، وهو إعلان مثير دفع بها في الحال إلى الجبهة الأمامية لأخطر أزمة أمنية واجهتها أوروبا منذ عقود.
ويقول مسؤولون بريطانيون إن إعلانها لمعلومات استخباراتية حساسة محسوب ويهدف لإحباط مؤامرة محتملة وإرسال رسالة إلى بوتين. ووصفوه بأنه جزء من استراتيجية منسقة لتكون طرفاً قوياً في المواجهة الأوروبية مع روسيا، وهو دور تمارسه منذ حذَّر ونستون تشرشل من "ستار حديدي" بعد الحرب العالمية الثانية، كما يقول تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
لماذا فعلت بريطانيا ذلك؟
على أن تحركات بريطانيا تحمل أيضاً بصمة دولة حريصة على تمييز نفسها، بعد عامين من خروجها من الاتحاد الأوروبي.
يقول مالكولم تشالمرز، نائب المدير العام لمعهد الخدمات المتحدة الملكي، وهو مؤسسة فكرية في لندن: "المملكة المتحدة تميز نفسها عن ألمانيا وفرنسا، وحتى الولايات المتحدة إلى حد ما. وهذا سببه خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والشعور بضرورة أن نظهر أنفسنا بأننا قوة وسطى مستقلة".
وبريطانيا تتحرك على عدة جبهات، فهي تعد تشريعاً سيمكّنها من فرض عقوبات في حال إقدام بوتين على غزو أوكرانيا. وأرسلت وزراء بارزين إلى دول الناتو الأخرى التي تهددها روسيا. وبدأت في التواصل مباشرة مع موسكو، حيث تفيد تقارير بأن وزيرَي الخارجية والدفاع البريطانيين يعتزمان لقاء نظيريهما الروسيين خلال الأسابيع المقبلة.
وهذا الموقف المتشدد الذي تتبناه بريطانيا تبلور في مقال شديد اللهجة كتبه وزير الدفاع البريطاني بن والاس؛ إذ أعرب والاس في مقال بصحيفة The Times البريطانية عن رفضه مزاعم بوتين بأن حلف الناتو يطوّق روسيا واتهم الزعيم الروسي بـ"القومية العرقية" الفجة، القائمة على ما وصفه بالادعاء الزائف بأن الروس والأوكرانيين شعب واحد. وكان لهذا المقال صدى في واشنطن وفي العواصم الأوروبية.
إذ قالت كارين بيرس، السفيرة البريطانية في الولايات المتحدة، في مقابلة: "سواء كانت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي أو خارجه، فإنها ستعمل دوماً على التصدي لأي سلوكيات روسية مشينة. وأينما وجد الروس، ستجد دائماً المملكة المتحدة في الطرف المقابل من المواجهة".
فرصة لجونسون أيضاً
لكن والاس ليس زعيم الحكومة البريطانية، بل جونسون. ورئيس الوزراء عالق في أزمة ويسعى يائساً لإنقاذ منصبه بعد فضيحة حفلات داونينغ ستريت التي تنتهك قيود فيروس كورونا. وهذه الأزمة الهزلية السياسية لم تطغَ على النقاش العام الدائر عن الدور البريطاني في أوكرانيا فحسب، ولكنها أيضاً أثارت شكوكاً في أن جونسون سيرحب بما يلهي عن طوفان الأسئلة المزعج عن حفلات الحدائق.
وكتب سايمون جينكينز، كاتب مقالات الرأي في صحيفة The Guardian: "لا يوجد إلهاء أقوى من الحرب"، وأضاف أن الشيء الوحيد الأخطر من زعيم شعبوي في مأزق هو زعيمان شعبويان في مأزق، وهما في هذه الحالة بوتين وجونسون.
وفي الوقت نفسه، توجد أسباب تاريخية واستراتيجية كثيرة تدفع بريطانيا لاتخاذ موقف متشدد مع روسيا. فالمسؤولون البريطانيون غاضبون من الكرملين منذ تسميم عميل مخابرات روسي سابق وابنته في مدينة سالزبوري البريطانية بغاز أعصاب عام 2018، وقد حمّلت بريطانيا المخابرات العسكرية الروسية مسؤولية هذا الحادث وطردت نحو 150 دبلوماسياً.
وقال محللون إن تصرف بريطانيا عدائي عن عمد، حيث يعكس إحباط المسؤولين العسكريين من سياستها شديدة الرجعية مع الاستفزازات الروسية المتتالية، التي تتجاوز هجوم سالزبوري إلى اتهامات بأن موسكو تتدخل في الانتخابات البريطانية وتفسد سياساتها بأموال قذرة.
سياسة خارجية مستقلة
وأشارت السفيرة كارين إلى أن بريطانيا اتبعت سياسة خارجية مستقلة حتى حين كانت عضواً في الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فقد شاركت في عقوبات على مستوى الاتحاد الأوروبي حين كانت عضواً فيه، وهو ما لم تعد تفعله بعد خروجها منه. وقال مسؤولون إن هذا هو سبب احتياج الحكومة لصياغة تشريع جديد لاستهداف الأفراد الروس وقطاع الخدمات المالية.
وفضلاً عن ذلك، قال المحللون إن تصميم بريطانيا على أن تتعامل بحزم يعكس أيضاً هويتها بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. يقول كيم داروك، الذي كان مستشاراً للأمن القومي في عهد رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، إن بريطانيا رفضت يوماً إمداد أوكرانيا بالأسلحة لأنها تخشى أن ينتهي بها المطاف في الأيدي الخطأ. والآن تطغى على هذه المخاوف مزايا اتخاذ مواقف بشكل مستقل.
وقال داروك، الذي شغل لاحقاً منصب سفير لدى الولايات المتحدة: "أظن أن هذا يأتي في إطار تأكيدنا على أننا لسنا مرتبطين بالاتحاد الأوروبي، الذي يقوده الموقف الألماني الغامض من روسيا".
والأسبوع الماضي تعرض الرئيس الأمريكي جو بايدن لانتقادات واسعة النطاق لقوله يوم الأربعاء، 19 يناير/كانون الثاني، إنَّ الرد على العدوان الروسي في أوكرانيا سيعتمد على التفاصيل. قال: "الأمر سيختلف إذا كان توغلاً بسيطاً؛ إذ سينتهي بنا المطاف في القتال حول ما يجب فعله وما لا يجب فعله".
ولكن في اليوم التالي، عمل بايدن وكبار مسؤولي الإدارة على تصحيح آثار هذه التعليقات. وشدد بايدن على أنه "إذا تحركت أية وحدات روسية مجمعة عبر الحدود الأوكرانية، فهذا يعد غزواً، وسيُقابل برد اقتصادي قاسٍ ومنسق".
تقول أسوشيتد برس إنه حتى إذا نُظِر إلى ملاحظة "التوغل البسيط" على أنها زلة، فقد تطرقت إلى مسألة يحتمل أن تمثل إشكالية: بينما تتفق الولايات المتحدة وحلفاؤها على رد قوي على غزو روسي، ليس من الواضح كيف سيردون على أي عدوان روسي يحدث على نطاق أقل من ذلك؛ مثل هجوم إلكتروني أو دعم معزَّز للانفصاليين الموالين لروسيا الذين يقاتلون في شرق أوكرانيا.
كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي من بين أولئك الذين أعربوا عن قلقهم بشأن تصريح بايدن "التوغل البسيط". وقال في تغريدة: "نريد تذكير القوى العظمى بأنه لا توجد غارات صغيرة ودول صغيرة. كما أنه ليس هناك إصابات طفيفة ولا حزن بسيط على فقدان الأحباء".
سيناريوهات الغزو
في تحليل لأزمة أوكرانيا، ذكر سيث جونز، أستاذ العلوم السياسية، وفيليب واسيليفسكي، وهو ضابط سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، عدة سيناريوهات محتملة أقل من غزو روسي شامل. وكتبوا في تحليلهم، في الأسبوع الماضي، لمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، أنَّ هذا قد يشمل إرسال بوتين قوات تقليدية إلى منطقتي دونباس الانفصاليتين في دونيتسك ولوهانسك بصفتهم "حفظة سلام" ورفض سحبهم حتى تنتهي محادثات السلام بنجاح.
وكتبا: "كل الخيارات الأخرى تجلب عقوبات دولية كبيرة وصعوبات اقتصادية وستؤدي إلى نتائج عكسية لهدف إضعاف الناتو أو فصل الولايات المتحدة عن التزاماتها تجاه الأمن الأوروبي".
ومن بين تلك الخيارات الأخرى: الاستيلاء على الأراضي الأوكرانية في أقصى الغرب مثل نهر دنيبر، الذي يمتد جنوباً عبر كييف إلى البحر الأسود بالقرب من شبه جزيرة القرم. وكتب جونز وواسيليفسكي أنَّ بوتين قد يسعى إلى استخدام هذا كورقة مساومة أو دمج هذه المنطقة بالكامل في الاتحاد الروسي.
هل يمكن لروسيا احتلال كييف بسهولة؟
تقول صحيفة The Guardian البريطانية إن روسيا قد تفكر في هجوم سريع وعميق على جبهة ضيقة، يهدف إلى صدمة العدو وشلله بدلاً من احتلال الأراضي، كما فعلت أمريكا في الغارات على بغداد في أبريل/نيسان 2003.
وإذا سمحت بيلاروسيا لروسيا بالهجوم من أراضيها، فيمكن الاقتراب من العاصمة الأوكرانية كييف من الغرب وتطويقها. وأعلن ألكسندر لوكاشينكو، زعيم بيلاروسيا، يوم 17 يناير 2022، أن بلاده ستُجري تدريبات مشتركة مع روسيا على حدودها الجنوبية والغربية في فبراير/شباط المقبل، وبدأت القوات الروسية في الوصول إلى البلاد.