تشهد تونس نُذُر تصعيد غير مسبوق منذ تجميد الرئيس قيس سعيد البرلمان وإطاحته بالحكومة الشرعية، حيث أعلنت قوى وأحزاب تونسية إحياء ذكرى ثورة 2011 الجمعة 14 يناير/كانون الثاني، فيما دعت حركة النهضة إلى احتجاجات ضد إجراءات سعيّد التي يصفها معارضوه بالانقلاب.
وتتأهب قوى وأحزاب تونسية لإحياء ذكرى ثورة 2011 الجمعة 14 يناير/كانون الثاني، على الرغم من تغيير رئيس البلاد، قيس سعيّد، تاريخ الاحتفال بها إلى يوم 17 ديسمبر/كانون الأول، وصدور قرار حكومي بمنع التظاهرات لمدة أسبوعين ضمن تدابير مواجهة جائحة "كورونا".
ورداً على هذه الدعوات قررت الحكومة، الخميس 13 يناير/كانون الثاني 2022، إعادة فرض حظر التجول الليلي ومنع كافة التجمعات لمدة أسبوعين، مرجعة ذلك إلى ارتفاع إصابات كورونا، بينما يرى مراقبون أن هذه الإجراءات تهدف إلى وأد الاحتجاجات.
ويأتي قرار الحكومة بعد دعوة للتظاهر والاحتفال نشرتها حركة النهضة بصفحتها الرسمية على "فيسبوك"، إذ قالت إن هذه الدعوى جاءت "بمناسبة ذكرى ثورة الحرية والكرامة 17 ديسمبر/كانون الأول – 14 يناير/كانون الثاني، ووفاء لدماء الشهداء الأبرار".
وتحلّ الذكرى على تونس هذه المرة وهي تمر بإجراءات استثنائية اتخذها سعيد في 25 يوليو/تموز منها: تجميد اختصاصات البرلمان، وإلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وإقالة رئيس الحكومة، وتوليه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة عَيَّنَ نجلاء بودن رئيسةً لها، في قرارات تعتبرها معظم قوى البلاد "انقلاباً على الدستور"، بينما ترى فيها أخرى "تصحيحاً لمسار ثورة 2011".
وشارك في الدعوة لإحياء الثورة والتظاهر ضد إجراءات سعيد كل من حركة "النهضة" (53 نائباً) وحزب "العمال" وحزب "التيار الديمقراطي" (22 نائباً) وحزب "التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات" والحزب "الجمهوري"، حيث دعوا أنصارهم إلى إحياء الذكرى الحادية عشر ليوم 14 يناير، فيما دعت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" (شعبية) إلى التظاهر تحت شعار "تصدياً لسلطة الانقلاب".
وتأتي هذه الدعوة بعدما قرر سعيد في 13 ديسمبر الماضي أن "يوم 17 ديسمبر/كانون الأول هو عيد الثورة وليس 14 يناير/كانون الثاني مثلما تمّ الإعلان عنه بعد الثورة.
اعتقال نائب رئيس حركة النهضة محور الاحتجاجات
واعتبرت "النهضة" أن قرار الحكومة منع التجوال بسبب الجائحة غرضه "استهداف التحركات المناهضة لمنظومة الانقلاب"، كما رأى حزب "العمال" (يسار) أنه "قرار سياسي مقنّع أملته رغبة سعيد وحكومته في منع التظاهرات السياسية المناهضة لانقلابه المبرمجة ليوم 14 يناير"، بحسب بيانين.
وقالت في البيان كذلك إنه "إذ تقدّر حركة النهضة أهمية حماية صحة التونسيين وحياتهم، فإنها ترفض التوظيف السياسي للوضع الصحي ومخاطر انتشار جائحة كورونا، لضرب ما تبقَّى من هوامش الحريات، وتخذيل دعوات الاحتفاء بعيد الثورة، وهو ما تجلى في القرارات الحكومية الأخيرة التي استثنت عدة مجالات وفضاءات للتجمُّعات على غرار المؤسسات التربوية ودُور العبادة والأسواق وغيرها واقتصرت على التظاهرات بكل أشكالها، في قصد ثابت لاستهداف التحركات المناهضة لمنظومة الانقلاب".
ويوم الأربعاء، حمّلت "النهضة" سلطات البلاد "المسؤولية الكاملة" عن حياة نائب رئيس الحركة، نور الدين البحيري، المحتجز قيد الإقامة الجبرية، إثر بلوغ حالته الصحية "مرحلة الخطر الشديد" بفعل إضرابه عن الطعام.
القيادي في حركة النهضة محمد القوماني، قال وفقاً لما نشرته وكالة الأنباء الفرنسية إن الحزب سيمضي قدماً في احتجاج الجمعة، متحدياً بذلك الحظر الجديد المفروض على التجمعات بسبب فيروس كورونا، وأضاف القوماني: "مبدئياً النهضة ستمضي قدماً في احتجاج الجمعة، قرار المنع سياسي ويهدف لمحاصرة الاحتجاج". وتابع السياسي التونسي: "لقد سُمح للمحتجين بالخروج يوم 25 يوليو/تموز في ذروة انتشار كورونا.. واليوم تُمنع الاحتجاجات".
تأتي تحركات النهضة، في وقت أفادت تقارير بأن نائب رئيس الحركة، نور الدين البحيري، المحتجز قيد الإقامة الجبرية حياته معرضة للخطر.
وطالبت الأمم المتحدة السلطات التونسية بالإفراج الفوري عن البحيري، واعتبر ما يحدث أنه ممارسات لم تحدث منذ أيام بن علي.
وفي سياق متصل بالأزمة التونسية عبّر مشرعون أمريكيون، مساء أمس الأربعاء، عن تخوفهم من التطورات الأخيرة التي تشهدها تونس، على خلفية قرارات "استثنائية" اتخذها الرئيس قيس سعيّد أفضت إلى دخول البلاد في أزمة.
وقال مشرّعون ينتمون للحزبين الديمقراطي والجمهوري بواشنطن في بيان لهم تعليقاً على الأحداث بتونسي وتزامناً مع ذكرى الثورة: "نعرب عن مخاوفنا بشأن التطورات الأخيرة التي تهدد الديمقراطية بتونس"، كما أعربوا عن قلقهم إزاء الاعتقالات ذات "الدوافع السياسية"، كما وصفوها.
لماذا يبدو أن "النهضة" قررت التصعيد؟
منذ انقلاب سعيد فإن "النهضة" مالت إلى إدانة قراراته ورفضها دون التوجه بشكل كبير للشارع، فقد كان من الواضح أن قطاعاً كبيراً من الشارع التونسي قد أصبح يكره الأحزاب السياسية برمتها بما فيها النهضة، وأن إجراءات سعيد تلقى تأييداً من قبل العديد من القطاعات وتجاوباً من أجهزة الدولة لاسيما الأمن.
كما أن "النهضة" نظرت إلى المعركة بأنها ليست معركتها وحدها، ولكنها معركة الأحزاب والقوى السياسية والشعب التونسي برمته الذي يجب عليه أن يدافع عن نظامه الديمقراطي، وحاولت البحث عن حلول وسط مع الرئيس.
ولكن مواقف الأحزاب السياسية كانت متذبذبة، وبدا أن معارضتها لإجراءات سعيد تتوقف على مقدار مساسها بها، وليس مقدار تناقضها مع الديمقراطية، كما أن موقف الاتحاد التونسي للشغل الذي يعتبر أقوى مؤسسات المجتمع المدني، كان مرتبكاً، وكان واضحاً أن كثيراً من القوى السياسية، تريد إقصاء "النهضة" من الساحة السياسية مع تحقيق امتيازات لها، أو جني مكاسب على حساب إقصاء الحزب الأول في البلاد، وكأن قيس سعيد سيطيح بالنهضة، ليتيح الفرصة لمنافسيها.
في المقابل، بدت مقاومة أجهزة الدولة التونسية لإجراءات سعيد غير الشرعية معدومة، بل أحياناً تتساوق معها، باستثناء القضاء الذي يبدي تحفظاً محدوداً على سياسات سعيد، مثلما بدا مما كشفه مستشار الغنوشي عن امتناع النيابة عن سجن نائب حركة النهضة ورفض محكمة للانصياع لتوجهات سعيّد في هذا الشأن.
في المقابل، دفع هذا الانقسام والاستسلام من قبل القوى السياسية سعيّد للتمادي في مواقفه وتصرفاته، فهاجم الاتحاد التونسي للشغل، والقضاء، ودعا إلى إجراء انتخابات تشريعية جديدة، مع صياغة دستور بطريقة غريبة عبر ما سماه استشارة إلكترونية بين الشعب والرئيس مباشرة ستفضي إلى دستور على مقاس الرجل الذي يبدو واضحاً أنه يحتقر الديمقراطية والأحزاب السياسية.
كما بدأ قيس سعيّد يتحرش بمعارضيه، فصدر بحق الرئيس التونسي الأسبق المنصف المرزوقي حكم بسجنه أربع سنوات لإدانته بتهمة "الاعتداء على أمن الدولة الخارجي"، وتعرض شقيقه لاعتداء بالعنف الشديد في ضاحية العاصمة التونسية رادس.
ثم وصل الأمر إلى اعتقال نائب رئيس حركة النهضة، وهذه المرة الأولى التي تقوم فيها السلطات التونسية باعتقال أحد قيادات الحركة، في مؤشر على أن إيثار الأحزاب ومنها النهضة السلامة في مواجهة سعيّد أدى إلى تماديه في إجراءاته القمعية.
كما أحالت السلطات الغنوشي والمرزوقي و17 سياسياً أمام القضاء التونسي بزعم ارتكابهم "مخالفات انتخابية".
انقلاب بدعم مصري
وبلغ الأمر إلى حد ظهور تقارير تفيد بأن سعيد يخطط لتكرار تجربة قمع إخوان مصر، وهو أمر يبدو واضحاً من خطابه وتسلسل خطواته.
وفي هذا السياق، أفاد مصدران لموقع Middle East Eye البريطاني، الأربعاء 12 يناير/كانون الثاني 2022، بأنّ ضابط مخابرات مصرياً بارزاً يتعاون مع الأمن الرئاسي التونسي، يُجهّز لخطط من أجل شن حملة ضد حركة النهضة.
المصادر التي لم يكشف موقع "ميدل إيست آي" البريطاني عن هويتها، قال أحدها للموقع إن العقيد علي محمد الفران، من المخابرات المصرية، يخطط لـ"تكرار التجربة المصرية"، بتونس، في إشارةٍ إلى قمع جماعة الإخوان المسلمين في مصر بعد الانقلاب العسكري عام 2013.
وعلِم الموقع البريطاني أن العقيد الفران، المكلف من المخابرات المصرية بـ"ملف تونس"، كان يتعاون عن قرب مع خالد اليحياوي، المدير العام للأمن الرئاسي ومستشار الرئيس قيس سعيّد.
كما أفادت مصادر الموقع البريطاني بأن الفران، الذي لعب من قبلُ دوراً بارزاً في العمليات العسكرية بمدينة العريش في شمال سيناء، قد مُنِح صلاحيات غير مقيّدة داخل تونس.
كما أكَّدت العديد من المصادر للموقع البريطاني أن هناك مسؤولين أمنيين مصريين كانوا حاضرين في القصر الرئاسي حين نفذ قيس سعيد انقلابه، وقدَّموا المشورة إلى سعيَد قبل الانقلاب وأداروا العمليات في وقت وقوعها، إضافة إلى دور إماراتي في تنفيذ العملية.
وأكد مصدرٌ للموقع البريطاني في يوليو/تموز 2021، أن "الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي عرض منح قيس سعيّد كلَّ الدعم الذي يحتاجه من أجل الانقلاب، وقد حصل قيس سعيّد على ذلك الدعم. وتم إرسال رجال الجيش والأمن المصريين إلى تونس بدعمٍ كامل من محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي".
في الأغلب فإن النهضة تعلم جيداً العلاقة بين مصر والإمارات وما يحدث في تونس، خاصة أن الدعم الإماراتي لعبير موسى رئيس الحزب الدستوري الحر المعادية للنهضة والثورة التونسية معروف.
ولكن الحركة آثرت عدم المواجهة نظراً للطابع المدني المتأصل في فكر زعيمها راشد الغنوشي، والتركيز الدائم على فكرة العمل الدستوري، والتنسيق مع الأحزاب والقوى السياسية، إضافة إلى ضعف الزخم الشعبي المضاد لإجراءات قيس سعيد في ظل السخط من أداء القوى السياسية في الفترة السابقة والمشكلات الاقتصادية.
ولكن ميل النهضة للتروي قُوبل بالتصعيد من قبل سعيد، الذي يبدو مصراً على المواجهة مع النهضة، خاصة أن تقديمها كعدو مزعوم للشعب التونسي يمكنه من حشد القوى المعادية للإسلاميين في تونس لجانبه.
هل تتغير المعادلة في تونس بعد قرار حركة النهضة النزول للشارع؟
غير أن قرار النهضة النزول للشارع قد يغير المعادلة، فللجوء للاحتجاجات السلمية ضد قرارات سعيد إذا انتهى بالقمع، فإنه سيكشف الجانب الأسوأ لدى سعيد الذي ما زال لم يختبر، وسيشوّه سُمعته في الغرب، خاصةً في ظل تزايد الانتقادات له في الخارج وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي يحكمها رئيس يعتبر الديمقراطية أحد أسس سياستها الخارجية.
كما أنه إذا صدرت أوامر من سعيد باللجوء للعنف سيكون اختباراً حاسماً للأمن والجيش التونسي اللذين حتى الآن التزما قدراً من التعامل بهدوء مع الأحداث، ويجب تذكر أن الجيش التونسي رفض الخوض في دماء التونسيين عندما طلب منه الرئيس السابق زين العابدين بن علي، وهو الرئيس الذي حكم البلاد لعقود، وكان يعتبر المؤسس الثاني لمؤسسات الدولة التونسية بعد الحبيب بورقيبة.
موقف الجيش
وقال الأكاديمي والسياسي التونسي طارق الكحلاوي، عضو المكتب التنفيذي لحزب المؤتمر من أجل الجمهورية، لوكالة الأناضول إن سعيد "يعول أيضاً على فرض إرادته بالمؤسسة الأمنية والعسكرية.. تونس حاولت خلال 10 سنوات تأسيس أمن جمهوري وجيش محايد".
ورأى أن "هذه الأجهزة (الأمنية والعسكرية) تتحرك حسب المزاج الشعبي. إذا بقيت المعركة بين النخبة والرئاسة فلن تتدخل المؤسسة العسكرية والأمنية، ربما تتدخل إذا حدث غضب شعبي كبير، وساءت الأوضاع الاقتصادية، لكنها لن لا تتدخل لتدافع عن المعارضة النخبوية".
سعيّد قد يعزز تحالفه مع مصر والإمارات وانتخاباته ستخسر شرعيتها
أما إذا مرت التظاهرات والاحتجاجات دون قمع عنيف، فإن نجاح تحدي قيس سعيد في الشارع سينزع الكثير من الشرعية عن إجراءاته الرامية لصياغة دستور وانتخاب برلمان بطريقته الغريبة، وفي نفس الوقت فإن استمرار قيس سعيد في الانفراد في الحكم سيزيد من تحمّله المسؤولية أمام الشعب التونسي عن الوضع الاقتصادي والصحي المتدهور.
في المقابل، يبقى الخيار الأرجح بالنسبة لقيس سعيد هو قمع المعارضة مقابل طلب مزيد من المساعدات من الإمارات والسعودية، ودعم أمني مصري، وهو أمر من شأنه إغضاب كثير من التونسيين حتى المعارضين لحركة النهضة، لأنه سيكون بمثابة تدخل فج في شئون بلادهم، كما أنه سيُقلق الجزائر، الحليفة التقليدية لتونس، التي تتحسس عادةً من التدخل المشرقي في شؤون المغرب العربي، وهو ما بدا من ضيقها من الدعم المصري الإماراتي لحفتر في ليبيا رغم أنه جنرال يواجه حكومة يدعمها إسلاميون.
فالنموذج الجزائري الذي يسيطر عليه العسكر تحول منذ انتهاء العشرية السوداء وتولي الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، مقاليد الحكم من نمط إقصاء الإسلاميين المعتدلين، كما حدث في التسعينيات، إلى احتوائهم داخل النظام، وتقييد حضورهم بالوسائل السياسية أكثر من الأمنية مع التركيز على الأسلوب العسكري والأمني فقط في مواجهة الجماعات المتطرفة.
كما أن خيار القمع الذي يدفع به المحور المصري الإماراتي، من شأنه إغضاب الولايات المتحدة التي رفضت هذا المنحى في السودان، رغم أنه في الأغلب سيلقى تأييداً مكتوماً من فرنسا، حليفة المستبدين العرب، أما ألمانيا التي باتت تحكمها حكومة جديدة يقودها اليسار والخضر والأحرار الديمقراطيين، فستصبح أقل تساوقاً مع توجهات فرنسا للتحالف مع الاستبداد، وبالتالي قد تكون أقل تسامحاً مما ففعلت المستشارة أنجيلا ميركل مع ما حدث في مصر في عام 2013.
تعد هذه المرة الأولى التي تقوم فيها السلطات التونسية باعتقال أحد قيادات حركة النهضة، وهو الأمر الذي ربما يسهم أكثر في تأزم المشهد السياسي بالبلاد.