تفرض طبيعة الحرب الباردة بين الصين وروسيا من جهة، وأمريكا وحلفائها من جهة أخرى، تغييرات كبيرة على الاستعدادات العسكرية لدى تلك الأطراف، فلماذا تتدرب القوات البرية في الجيش الأمريكي على إغراق السفن الحربية؟
مجلة The National Interest الأمريكية نشرت تقريراً يجيب عن هذا السؤال، في إطار ما تشهده الساحة الدولية من مناطق ساخنة متعددة تفرض على الجيش الأمريكي الاستعداد للدخول في مواجهات عسكرية في ساحات ربما تمثل تحدياً لم يواجهه من قبل.
فالأفرع المختلفة للجيش، أي جيش، تتمثل في القوات البحرية والقوات الجوية والقوات البرية بشكل أساسي، إضافة إلى أفرع أخرى معاونة. لكن في ظل التهديدات الصينية المتزايدة بغزو تايوان أو إعادة توحيدها (على حسب وجهة النظر في واشنطن أو بكين)، يسعى قادة البنتاغون لإعادة ترتيب العلاقة بين الأفرع المختلفة للجيش تحقيقاً لأقصى استفادة ممكنة.
المحيط الهادئ.. ساحة الصراع مع الصين
وتتجه الولايات المتحدة والصين إلى منافسة أمنية واسعة النطاق في المستقبل المنظور؛ لذا فإن وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تُعد العدَّة لصراع القوى العظمى، وبدأت تنشر سيلاً من التحليلات والمصطلحات الفنية المُصاغة حديثاً لتفسير الصورة التي ستكون عليها تلك المنافسة.
تُطالب بكين بالحق في مساحات شاسعة من بحر الصين الجنوبي مما تعتبره مياهاً إقليمية تابعة لها، وعمدت من أجل ذلك إلى إنشاء شبكة من القواعد العسكرية مع الحكومات الصديقة لها لتطويق المنافسين المحتملين مثل الهند وأستراليا؛ ولذلك، يبدو الأرجح أن يكون الاشتباك بين الولايات المتحدة والصين اشتباكاً بالسفن والصواريخ والطائرات، وربما بمشاركة جانبية من القوات الخاصة والبرمائية، لكن لن يكون لألوية المشاة الآلية والدبابات مشاركة كبيرة في هذا السياق.
وفي ضوء ذلك، يتطلع الجيش الأمريكي إلى الحفاظ على عقيدة قتالية تقوم على المعارك والعمليات العسكرية المعتمدة على مشاركة الأفرع العسكرية المتعددة، وتتضمن دمج عمليات الجيش العسكرية لتشهد العمل المشترك للقوات البحرية والجوية في النطاقات الجوية والبحرية والسيبرانية، بحسب تقرير المجلة الأمريكية.
وكانت مجلة National Interest نفسها قد نشرت تقريراً عنوانه "هل أصبحت الصين أكبر قوة بحرية في العالم؟"، رصد امتلاك الصين أسطولاً بحرياً أكبر حجماً من نظيره الأمريكي، لكن ذلك الأسطول التابع للبحرية الصينية لا يمثل سوى ضلع واحد من أضلاع البحرية الصينية الإجمالية، التي تضم أيضاً خفر السواحل وسفن صيد تمثل ميليشيات بحرية.
اليوم، يمكن لبطاريات الصواريخ الأرضية أن تهدد السفن التي تبعد عشرات أو حتى مئات الكيلومترات. ومع ذلك، لا يُرجح أن تواجه الولايات المتحدة إبحار سفن حربية معادية على نطاق ساحلها، وذلك على خلاف بعض حلفائها، مثل اليابان أو السويد. ومع ذلك، يقترح بعض الخبراء أن ينشر الجيش الأمريكي قوة شبيهة بـ"مدفعية الساحل الاستكشافية" في بؤر التوتر الواقعة في جزر المحيط الهادئ.
لجأت البحرية الصينية إلى هذا النهج بالفعل، فقد أقامت شبكة من القواعد العسكرية الصغيرة على جزرٍ متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، أو حتى على جزر اصطناعية أنشأتها. وتستضيف هذه القواعد بطاريات صواريخ مضادة للسفن ومنظومات دفاع جوي مضادة للطائرات، وفقاً للاستراتيجية المعروفة باسم "منع الوصول/حظر الدخول إلى المنطقة" (A2/AD).
إغراق سفينة حربية
في 12 يوليو/تموز 2018، كان موعد السفينة الحربية الأمريكية "راسين" USS Racine مع رحلة الإبحار الأخيرة والنهاية القاسية لتاريخ خدمتها الطويل في البحرية الأمريكية.
تعرضت سفينة إنزال الدبابات التي يبلغ طولها 522 قدماً (159.2 متراً) لأربعة أنواع مختلفة من الصواريخ الموجَّهة، تسبب أحدها في انفجار هائل أدَّى إلى تفرُّق شظايا حطام السفينة في البحر وأحدث خرقاً في بدنها، حتى كشف أجزاءها الداخلية.
وفي النهاية، تلقت السفينة البالغة من العمر 46 عاماً، إصابةً بطوربيد بحري من طراز "مارك 48" Mark 48، كاد يشقُّها إلى نصفين. وبعد ساعة، غرقت السفينة الحربية التي يبلغ وزنها خمسة آلاف طن في قاع المحيط الهادئ على بعد 55 ميلاً (88.5 كيلومتراً) شمال هاواي.
شاركت أربعة أفرع عسكرية مختلفة في مراسم إغراق السفينة الحربية راسين التي جاءت ضمن مناورات "ذا باسيفيك ريم" (أو RIMPAC) البحرية، المعروفة باسم "سينكيكس" SINKEX.
فقد انضمت إلى المناورات طائرات دورية من طراز "بيه 8 بوسيدون" P-8 Poseidon التابعة للبحرية الأسترالية، وبطاريات صواريخ سطح-سطح من النوع 12 التابعة لقوة الدفاع الذاتي البرية اليابانية (الجيش الياباني)، وغواصة "أولمبيا" Olympia من فئة غواصات "لوس أنجلوس" التابعة للبحرية الأمريكية، بالإضافة إلى رجال مدفعية وطياري طائرات هليكوبتر من الجيش الأمريكي.
حلَّقت طائرة هليكوبتر هجومية تابعة للجيش الأمريكي من طراز "إيه إتش 64 أباتشي" AH-64E Apache Guardian في النطاق الجوي للسفينة مستعينةً بطائرة بدون طيار من طراز "إم كيو- 1 سي غراي إيغل" MQ-1C Gray Eagle، لمشاركة إحداثيات السفينة راسين وبيانات الاستهداف عبر "خط الاتصال العسكري 16" (Link 16) إلى وحدتي مدفعية مشاركتين في المناورات.
أطلقت إحدى البطاريات صواريخ "نافال سترايك" Naval Strike نرويجية الصنع من شاحنة تحميل عسكرية على بعد 101.4 كيلومتراً. وتعرضت السفينة للهجوم بستة صواريخ من راجمة الصواريخ "هيمارس" HIMARS التابعة للواء المدفعية الأمريكي الميداني السابع عشر، المتمركز في مقاطعة كاواي في ولاية هاواي الأمريكية.
لماذا تجري القوات البرية تدريبات على إغراق السفن؟
كان الهدف من اللجوء إلى راجمات الصواريخ المتعددة في الأصل هو حيازة القدرة على إطلاق سيلٍ من القذائف الفتاكة والعشوائية على نطاق واسع، واستخدام الذخائر العنقودية فيها، إلا أن سلاح المشاة البحرية الأمريكي بدأ مؤخراً في الاعتماد على إطلاق صواريخ فردية موجَّهة بواسطة نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) من طراز "إم 31" M31.
وقد تكون هذه الذخائر دقيقة بما يكفي لإصابة سفينة، وهو ما أبرزته مناورات سينكيكس، لكن التوجيه بنظام تحديد المواقع العالمي لن يكون كافياً لضرب الأهداف المتحركة بدقة، ومن ثم قد يتطلب الأمر تعزيز دقة هذه الصواريخ باستخدام منظومات تتبع صاروخية أو الاستعانة بطرف ثالث للتوجيه بالليزر.
والمهم هنا، هو أن راجمات الصواريخ "هيمارس" ليست قابلة للنشر في القواعد المقامة على الجزر فحسب، بل ويمكن إطلاقها أيضاً من على متن السفن الحربية. وقد أجرى الفوج البحري الحادي عشر التابع للجيش الأمريكي هذه التجربة في مناورات "داون بليتز" Dawn Blitz في عام 2017، واستهدف السفينة الحربية USS Anchorage من فئة سفن النقل البرمائي بصواريخ "إم 31".
وفي هذا السياق، تخطط قوات البحرية الأمريكية لدمج أسلحتها المضادة للسفن مع الإمكانيات التي توفرها أذرعها الجوية والبرية من خلال منهجية جديدة تسمى "المشاركة التعاونية" (Cooperative Engagement). ومن ثم، يمكن للصواريخ البحرية- سواء كانت على متن السفن أم لم تكن- أن تضطلع بدورها في عقيدة "الفتك الموجَّه" الجديدة للقوات البحرية الأمريكية، والقائمة على ربط بيانات أجهزة التتبع والرصد معاً أثناء استخدام القوة النارية لمنصات عديدة معاً.
كما أبدى الجيش الأمريكي في مناورات سينكيكس قدرته على استخدام منظومات إطلاق الصواريخ المعتمدة على المركبات العسكرية كمنصات لإطلاق الصواريخ من طراز "نافال سترايك" التي حصل عليها حديثاً. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام صواريخ كروز دون سرعة الصوت لتنطلق بسرعة منخفضة فوق البحر أو التضاريس البحرية لتضرب أهدافاً بحرية أو برية على نطاق يصل إلى 185 كيلومتراً، علاوة على أنه يمكن الجمع فيها بين نظام تحديد المواقع العالمي ومنظومات التوجيه بالأشعة تحت الحمراء.
ويبدو هذا النوع من الحلول المرتجلة باستخدام التكنولوجيا المتاحة خياراً أفضل من النوازع سيئة السمعة لدى البنتاغون للحلول العسكرية باهظة التكلفة أو العمل على الوصول إلى تفوق نوعي مكلِّف على الخصوم.
الخلاصة أن القدرات المتنامية لدى الجيش ومشاة البحرية لتزويد السفن بمنظومات الدفاع الصاروخية والعمل المشترك بين أذرع القوات البحرية يكشف عن استعدادٍ لتكييف أنظمة الأسلحة المتوفرة بالفعل لخوض الحرب الباردة الجديدة في أوروبا [بين الولايات المتحدة وحلفائها، وروسيا] ومواجهة التحديات التي تفرضها البيئة الأمنية المتغيرة للمحيط الهادئ [بين الولايات المتحدة وحلفائها، والصين] في القرن الحادي والعشرين.