تُعرف سلطنةعُمان في القواميس السياسية والعالمية بأنها الدولة صاحبة النموذج الأمثل من التعايش والوفاق، ليس فقط بين المذاهب الدينية التي تعيش على أرضها، ولكن من ناحية الوئام والحياد اللذين تسلكهما مع جيرانها والمحيط الإقليمي الأوسع نطاقاً.
فعلى مدار عقود لعبت عُمان الكثير من الأدوار الدبلوماسية والتي قدمتها كنموذج محايد في منطقة مليئة بالتجاذبات السياسية والتحالفات، فعلى سبيل المثال استضافت السلطنة العديد من اللقاءات بين ممثلي المنظمات الدولية وبين إيران قبل الانخراط في اللقاءات المباشرة، كذلك فيما يخص الحرب الدائرة في اليمن فشهدت مسقط عدداً من الاجتماعات بين الحوثيين وفاعلين دوليين في مسقط لإنهاء هذه الحرب الضروس.
ويشكل المذهب السُّني في عُمان نحو 50% من إجمالي السكان البالغ عددهم نحو 4.6 مليون نسمة (حوالي 46% منهم وافدون وأجانب)، بينما يشكل المذهب الإباضي (نسبة لعبد الله بن إباض مؤسس المذهب) نحو 45%، ويعد المذهب الرسمي للدولة وللعائلة الحاكمة.
في حين يشكل الشيعة والهندوس أقلية تُقدر نسبتها بنحو 5%، بحسب جون بيترسون (باحث غربي في الشؤون العمانية) في بحثه (المجتمع المتنوع في عمان) الذي نشر في دورية "ميدل إيست جورنال".
ذلك الوئام تم تسجيله لصالح النظام الحاكم في عمان، حيث استطاع استيعاب التنوع المذهبي والحفاظ عليه من حالة التصادم، في وقت فشلت فيه دول مجاورة، كالسعودية على سبيل المثال، في استيعاب المذاهب والأقليات، بحسب تقرير لموقع استقلال.
ولم يكن ليتوفر هذا التسامح المذهبي على وجه الخصوص لولا الأرضية الصلبة التي تأسس عليها قبل أكثر من ألف سنة، والتي نجحت في تجنيب الدولة الخليجية الواقعة جنوب شرقي الجزيرة العربية الكثير من الفتن والأزمات التي تشهدها المنطقة طوال تلك الفترة، ليخرج المجتمع العماني منها سالماً في كل مرة محافظاً على الوحدة بين أطيافه.
التسامح صفة أصيلة لدى العمانيين
يقول الشيخ عبد الله الشحري، الخطيب بمركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم إن لوكالة الأناضول "صفة التسامح ليست عابرة أو دخيلة على المجتمع العماني، وهي متأصلة منذ دخول الإسلام إلى البلد وثناء النبي عليه الصلاة والسلام، على سماحة أهل عمان".
ويضيف: "التسامح هو الصفة التي نجحت في الحفاظ على هذا المجتمع، والتسامح ليس ضعفاً أو انكساراً، وليس أن تقبل بما عند الآخر أو أن تخضع له، لكن في المقابل، ليس لي أن أرفض الآخر وألا أستمع إليه، وأنه عندما لا أقبل الآخر ولا أرضى أو أتفق معه.. أعتدي عليه".
ويوضح أن "أولى صفات التعقل هي التسامح، متى سأستمع إليك، متى سأستفيد من خبراتك إلا حين أكون متسامحاً، وهو بالضبط ما فعله أهل عُمان مع مبعوث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الصحابي عمرو بن العاص عندما أتاهم برسالة الإسلام. ماذا فعل العمانيون لأنهم كانوا متسامحين، قبلوا الرسالة وتأملوا فيها ولم يقبلوها مباشرة، وإنما أخذوا أياماً ليدرسوها ثم دخلوا في الإسلام طواعية".
ويؤكد الشحري أن صفة التسامح والتفاهم التي ميزت المجتمع العماني نفعته على كل الصعد، وسرد أمثلة تاريخية على ذلك، منها وصول العمانيين إلى الصين منذ أكثر من ألف عام خلال رحلات تجارية، وانبهار الصينيين بأخلاق العُمانيين لدرجة أن الإمبراطور في ذلك الوقت أعطى أحدهم وساماً سمّاه "وسام الأخلاق".
ويستطرد: "هناك أيضاً الطبيب البريطاني بول هاريسون الذي تحدث بهذا الكلام حوالي عام 1900، إذ انبهر بهذه الأخلاق فألف كتاب "رحلة طبيب في الجزيرة العربية" ليعرف المجتمع العماني بجملة واحدة "عمان بلد التسامح والكرم".
الهوية الإسلامية ترسخ مفهوم التعايش
يصف الشحري السلطنة بأنها "النموذج الأجمل عبر التاريخ في التعايش، فعندما نقرأ التاريخ من ألف سنة ثم نعود إلى الوقت المعاصر نجد أن المجتمع لم يفقد هذه الصفة، وكانت حاضرة. نحن كمسلمين مأمورون أن نكون متسامحين مع بعضنا بعضاً، فالتوصيف القرآني واضح، إنما المؤمنون إخوة".
ويلفت إلى أن التاريخ العُماني كان يزدحم "بالأنساب والأعراق والمجتمعات والمناطق والمذاهب المختلفة، إذ إن المذاهب في أصلها ليست نقمة ولا إشكالاً لأنها ترجمة طبيعية للعقل البشري، فنحن كبشر لا بد أن نختلف، لأنه كما قال العقلاء إذا وُجد الوفاق وجد النفاق، فلا يمكن أن نتفق معك في كل شيء إلا في إطار المطلقات والعموميات، وهي نادرة جداً".
سر تعايش المذاهب في عمان
يرى الشحري أن هناك مجموعة من العوامل المتداخلة ساهمت في صنع هذه الحالة، "أولها طبيعة المجتمع العماني، إذا لا يخفى أن هناك نقاشاً حول طبيعة المجتمعات، فالإنسان بطبيعته متشابه، وهذا ما تثبته الآن الدراسات النفسية والإنسانية".
ويشرح قائلاً: "إذا أخذنا بنظرية الجغرافيا، كما يقول روبرت كابلان في "انتقام الجغرافيا" إنه حتى التقسيمة الجغرافية نفسها تحدث تأثيراً على مستوى السلوك الاجتماعي إلى حد ما. وبالتالي، هناك طبيعة تميز بها المجتمع العماني، وهي طبيعة التسامح."
ويلفت الخطيب إلى أن "جمال المجتمع العماني أنه استطاع أن يورث هذه الطبيعة لأبنائه، ذلك عندما ننظر إلى حديث النبي عليه الصلاة والسلام، حين قال: نِعْمَ المُرضِعون أهل عمان، فإنه كان يشير فيه إلى أن أهل عمان كانوا يحسنون نقل ثقافتهم وأفكارهم والرؤى التي عاش عليها الآباء إلى الأبناء، وهي التي أبقت هذه الصفة".
وأوضح أن أحد عوامل التعايش السائد في السلطنة هو أن "الإنسان لا يُسأل عن مذهبه أو فكره أو أي أمر، وإنما ينظر إليه فقط على أنه إنسان".
قرارات وإجراءات ساهمت في التسامح
وليس الجانب العقدي فقط هو ما ساهم في ذلك بل بعض الإجراءات والقرارت الإدارية التي قامت بها السلطنة والتي جعلتها تحظى بهذه الصفة فمثلاً يحظر القانون العماني كافة أشكال التمييز على أساس الدين والمذهب، وتطبق العقوبة بالسجن تصل لعشر سنوات، أو بغرامة مالية قد تصل إلى 10 آلاف ريال عماني (26 ألف دولار) لمن يثبت عليه ذلك".
وتقول المادة 108 من القانون الجزائي العماني: "يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن 3 سنوات، ولا تزيد على 10 سنوات كل من روج لما يثير النعرات أو الفتن الدينية أو المذهبية، أو إثارة ما من شأنه الشعور بالكراهية أو البغضاء أو الفرقة بين سكان البلاد، أو حرض على ذلك".
و"يعاقب بذات العقوبة كل من عقد اجتماعاً أو ندوة أو مؤتمراً له علاقة بالأغراض المبينة في الفقرة السابقة، أو شارك في أي منها مع علمه بذلك".
ويعتبر ظرفاً مشدداً إذا وقعت الجريمة في إحدى دور العبادة، أو المنشآت الرسمية، أو في المجالس والأماكن العامة، أو من موظف عام أثناء أو بمناسبة تأدية عمله، أو من شخص ذي صفة دينية أو مكلف بها.
تجدر الإشارة إلى أن عدداً من الدول التي تشهد صراعاً مذهبياً، لديها قوانين تجرم التمييز المذهبي، غير أن القانون في عمان يعد قانوناً فاعلاً ونافذاً، وهو الأمر الذي تفتقر إليه عدد من الدول التي تمتلك ذات القانون، لكنه لا يطبق في الغالب.
وبحسب موقع الاستقلال يمكن للمؤسسات الإعلامية التقليدية أو الجديدة على وسائل التواصل الاجتماعي أن تخلق حالة الصدام المذهبي، وتقوض فرص التعايش بين أبناء المذاهب، كما هو حاصل في عدة بلدان عربية، حيث يمكن لأي فرد استعراض عشرات القنوات الفضائية في بلد واحد، وفرزها على أسس طائفية مذهبية، وكلها تؤدي دورها في الاستقطاب الطائفي وزيادة الاحتقان المذهبي بين أبناء الولد الواحد.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن القنوات الشيعية، على سبيل المثال، بلغت حتى مطلع 2017 أكثر من 250 قناة، منها 53 قناة عراقية، وكانت جميعها تقوم بدورها في الاستقطاب، والهجوم على المذاهب الأخرى، وهو الأمر الذي انعكس على فرص التعايش والتسامح بين أبناء البلد الواحد.
غير أن القانون العماني اتخذ إجراءات على عدة مستويات، في هذا الصدد أسهمت بضبط دور المؤسسة الإعلامية، ووظفتها لصالح قيم التعايش، فمنع تأسيس أي قناة تقوم على أساس طائفي، وحظر أي خطاب يروج للطائفية من أي قناة تلفزيونية أو أي وسيلة إعلامية أخرى، وأتاح لأبناء البلد من جميع المذاهب التعبير عن أنفسهم شريطة أن يسهم خطابهم في تكريس حالة السلم والتعايش، ويعزز الانتماء للدولة الواحدة.
لهذا غاب الخطاب المذهبي والطائفي من القنوات الإعلامية العمانية، ومن الوسائل الأخرى، وتم توظيف الخطاب الإعلامي في منع الصدام المذهبي، ما أثر إيجاباً في حالة التوائم بين أبناء المذاهب المتنوعة في المدن العمانية.
توريث العادات الجميلة في عصر "ما بعد الحداثة"
يعتبر الشحري أن العصر الحالي أو "عصر ما بعد الحداثة"، مليء بالإشكاليات والتحديات الكبيرة، مقارنة بعصر ما قبل الحداثة، والذي كان "من السهل حينها أن يحتفظ الإنسان بطبيعته وبخصائصه وبصفاته".
ويعزو نجاح المجتمع العماني في الحفاظ على صفة التسامح والتعايش إلى "طبيعة المجتمع العماني ووجود المعرفة العلمية الجيدة بالشريعة الإسلامية، إذ وجد العلماء دائماً في مستوى الحدث وفهمهم للمقاصد الكلية للشريعة، والتي تركز على معنى الأخوة والتراحم ليس فقط بين المسلمين ولكن مع الإنسانية جمعاء".
ويقول إن المرجعيات العلمية في السلطنة، وفي مقدمتها سماحة الشيخ أحمد الخليلي، مشغولون دائماً "بقضية التسامح والتعايش، وعلاقة الإنسان بأخيه الإنسان، وعلاقة المسلم بأخيه المسلم"، مشيراً إلى أن العمانيين تلقوا رؤية الخليلي العلمية بصدر رحب، وكانت من الأسباب التي ترسخ ثقافة التسامح في السلطنة في ظل التصادم الكبير الذي يشهد العالم الإسلامي.
أعراف وأخلاق متوارثة في المجتمع
يرى الشحري أن المجتمع العماني لديه صفات حميدة بعيدة عن صفات عصر "ما بعد الحداثة"، وأن التكاتف والتراحم صفتان لازمتان في المواطنين الذين يدعمون ويساندون بعضهم عند الحاجة، كما يحدث في أمور الزواج وعند المصائب والأمراض.
ويقول: "إشكالية ما بعد الحداثة أنها تقوم، كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري، رحمه الله، على العدمية وعلى الذاتية، أن نجعل الإنسان هو إطار البحث أو هو الأساس الذي ينطلق منه كل شيء بالتعبير العامي أنا والطوفان من بعدي. وهذا أمر غير مقبول في الثقافة العمانية، وغير مقبول في تاريخنا".