يشهد الأسبوع الجاري محادثات بين روسيا من جهة والولايات المتحدة وحلف الناتو من جهة أخرى، حول أوكرانيا، وعلى الأرجح ستلعب الأزمة في كازاخستان دوراً كبيراً في تلك المفاوضات.
كازاخستان واحدة من جمهوريات آسيا الوسطى، التي كانت إحدى جمهوريات الاتحاد السوفييتي السابق، وتتمتع بعلاقات جيدة مع روسيا. وتشهد كازاخستان أعمال عنف منذ الأسبوع الماضي، بعد اندلاع تظاهرات رافضة لرفع أسعار الوقود في البلاد الغنية بالنفط.
والخميس 6 يناير/كانون الثاني، أرسلت روسيا قوات للمساعدة في إخماد تلك المظاهرات، بعد ليلة من المواجهات بين المحتجين والقوات الأوزبكية في الشوارع، أدت إلى اشتعال النار في مقر رئاسي ومكتب رئيس بلدية ألماتي أكبر مدن البلاد.
ولم تُفصح موسكو عن حجم القوات التي أرسلتها أو الدور الذي تضطلع به، لكن وسائل إعلام روسية ذكرت نقلاً عن أمانة منظمة معاهدة الأمن الجماعي أن قوام هذه القوات سيبلغ إجمالاً حوالي 2500 فرد، وبأنها سيكون لها الحق في استخدام الأسلحة إذا هاجمتها ما وصفتها بـ"عصابات مسلحة".
تلاسُن أمريكي-روسي
وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن دعا خلال اتصال مع نظيره الكازاخستاني إلى إيجاد حلّ سلمي للوضع المضطرب في كازاخستان واحترام حرية الإعلام. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس إن بلينكن "شدّد على دعم الولايات المتحدة الكامل للمؤسسات الدستورية في كازاخستان وحرية الإعلام، ودافع عن حلّ سلمي للأزمة يحترم حقوق الإنسان".
لكن بلينكن قال في تصريحات صحفية إن كازاخستان ستجد صعوبة كبرى في الحد من "النفوذ الروسي"، بعدما طلبت من موسكو نشر قوات على أراضيها لاحتواء الاضطرابات: "ثمة درس من التاريخ الحديث، مفاده أنه ما إن يدخل الروس بلداً ما فإن إخراجهم يكون أحياناً أمراً بالغ الصعوبة".
لم يتأخر الرد الروسي على تصريحات بلينكن، إذ قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، في تصريحات لقناة "سولوفيف لايف" على موقع "يوتيوب": "إن الأمر يتعلق برهاب روسيا، ومجرد ثرثرة طفولية وهراء ولا تستند إلى أي أدلة"، مشيرة إلى أن "إرسال قوات حفظ سلام من دول منظمة معاهدة الأمن الجماعي إلى كازاخستان تم بشكل قانوني تماماً".
وأكدت زاخاروفا أن "رد الفعل الأمريكي كان هجومياً وفظاً"، منوهة بأنه "لا يمكن للولايات المتحدة أن تكذب بعد الآن وأن تستخدم معايير مزدوجة عند وصف الوضع في كازاخستان على أنه احتجاجات، فمن الواضح أنها ليست سلمية"، بحسب تقرير لوكالة سبوتنيك الروسية.
يأتي هذا التلاسن بين موسكو وواشنطن في توقيت حساس للغاية، إذ تنطلق في جنيف الإثنين، 10 يناير/كانون الثاني، محادثات بين الجانبين تهدف إلى إيجاد مخرج دبلوماسي لأزمة أوكرانيا، وبعدها بيومين من المقرر إجراء محادثات لنفس الغرض بين روسيا وحلف الناتو أيضاً.
والأزمة في أوكرانيا تتمثل في حشد روسيا عشرات الآلاف من جنودها، فيما تصفه تقارير غربية وأمريكية بأنه استعداد للغزو، بينما تنفي موسكو نية الغزو وتتهم الغرب باستفزازها عن طريق نشر قوات لحلف الناتو بالقرب من حدود روسيا، في انتهاك لوعد عمره أكثر من 3 عقود بعدم توسع الحلف شرقاً.
محادثات أزمة أوكرانيا تصبح أكثر سخونة
المحادثات بين إدارة جو بايدن ورجال فلاديمير بوتين بشأن أوكرانيا من المفترض أن تنطلق في جنيف الإثنين، وربما مساء الأحد بحسب مصادر أمريكية تحدثت لرويترز، لكن الأجواء السائدة الآن لا تبعث على التفاؤل. السفيرة الأمريكية لدى حلف شمال الأطلسي (الناتو) غرّدت الجمعة، نافية تقارير تقول إن الولايات المتحدة تستعد لعرض خفض أعداد القوات في شرق أوروبا قبل المحادثات مع روسيا.
السفيرة جوليان سميث قالت في حسابها على موقع "تويتر"، بعدما بثت شبكة "إن بي سي" تقريراً أفاد بأن إجراء تغييرات في عدد القوات في بولندا ودول البلقان قيد البحث: "الإدارة الأمريكية لا تقوم بإعداد خيارات بشأن سحب القوات من أوروبا الشرقية".
والقصة هنا تتعلق بما تريده موسكو كي تتراجع عن غزو أوكرانيا أو ضم إقليم دونباس، كما فعلت مع إقليم شبه جزيرة القرم عام 2014، وهي ضمانات قانونية ملزمة تقدمها واشنطن، وتنص على أن حلف الناتو لن يضم أوكرانيا إلى عضويته أبداً، إضافة إلى مطالب أخرى تتعلق بنشر الحلف قواته في دول أخرى في شرق أوروبا.
فقبل أكثر من ثلاثة عقود، قدمت واشنطن تأكيدات لروسيا، ووعدت بأن حلف الناتو لن يتوسع شرقاً في أوروبا، لكن الناتو توسع عبر المجر وجمهورية التشيك وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبلغاريا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا وألبانيا وكرواتيا والجبل الأسود وبولندا. وتبلغ تلك المسافة قرابة 965 كيلومتراً من التعهدات المكسورة، أوصلت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى حدود أوكرانيا.
الآن وبعد أن تراجعت روسيا 965 كيلومتراً عن الخط الأحمر لآخر قادة الاتحاد السوفييتي غورباتشوف، رسم بوتين خطاً أحمر جديداً، في الثاني من ديسمبر/كانون الأول، سعياً وراء "ضمانات أمنية موثوقة وطويلة الأجل"، وأن تقرَّ هذه الضمانات "التخلي عن أي تحركات أخرى لحلف شمال الأطلسي باتجاه الشرق، أو نشر أسلحة تهددنا على مقربة من الأراضي الروسية".
وبالتالي فإن التصريحات الصادرة عن الأمريكيين وحلف الناتو من جهة وعن الروس من جهة أخرى، توحي بأن هناك استحالة لأن تقدم واشنطن لبوتين ما يريده من ضمانات بنفس القدر الذي لن يتراجع بوتين عن تلك الضمانات، فلماذا إذاً تجري تلك المحادثات؟
ضمانات يريدها بوتين ويرفضها بايدن
قالت مصادر في حلف الناتو لشبكة CNN الأمريكية إن المطالب التي وضعها بوتين على طاولة المفاوضات تبدو "سخيفة بشكل متعمد، ربما لإجبار الحلف على وقف خطط ضم أعضاء جدد أو استبعاد أوكرانيا وفنلندا تماماً من أي خطط ضم مستقبلية"، أو قد تكون تلك المطالب "مجرد لعبة هدفها أن يقول الروس لمواطنيهم إنهم حاولوا عدم التصعيد دون جدوى".
وأضافت تلك المصادر أن محادثات الأربعاء بين الحلف وروسيا تمثل فرصة لتوصيل رسالة الناتو "الصارمة" إلى بوتين، وهي أنه إذا ما صعدت موسكو التوترات فسوف تواجه "تداعيات اقتصادية خطيرة. سوف نفرض عقوبات لم نفرضها عام 2014".
ورغم أن "استفزاز بوتين" قد يكون أمراً خطيراً فإن كثيراً من المسؤولين الغربيين يرون أن عدم اتخاذ إجراءات رادعة سوف "يشجعه" على التمادي أكثر: "الاستسلام لمطالب بوتين غير الواقعية سوف يزيد الأمور سوءاً بلا شك وسيشجع الكرملين على التصرف بعدوانية أكثر"، بحسب باسي إيرونين، المحلل في مركز أبحاث دراسات الصراع.
وأضاف إيرونين لسي إن إن: "لا يجب أيضاً أن ننسى أن الصين وغيرها من القوى الدولية تراقب عن كثب ما قد تسفر عنه مقامرة الكرملين".
ويعيدنا هذا المنطق إلى ردّ الخارجية الروسية على تصريحات بلينكن بشأن كازاخستان، إذ إن زاخاروفا اتهمته بالاستخفاف بالأحداث المأساوية في كازاخستان، وقالت إنه على واشنطن تحليل سجلها الحافل بالتدخلات في دول مثل فيتنام والعراق.
وأضافت: "إذا كان أنتوني بلينكن يحب دروس التاريخ كثيراً فعليه أن يأخذ ما يلي في الاعتبار: عندما يكون الأمريكيون في منزلك ربما يكون من الصعب البقاء على قيد الحياة، وعدم التعرض للسرقة أو الاغتصاب".
وتناول تقرير لمجلة The Foreign Policy الأمريكية مدى تأثير أزمة كازاخستان على تأجيج التوترات بين روسيا والغرب، أعدته إيما أشفورد، الزميلة الأولى في مبادرة الشراكة الأمريكية الجديدة في مركز سكوكروفت للدراسات الاستراتيجية والأمنية التابع لـ"المجلس الأطلسي" الأمريكي، وماثيو كروينيغ نائب مدير المركز.
وترى راشفورد أن بعض المراقبين يصف الاضطرابات الحالية في كازاخستان بأنها ثورة ملونة، رغم أن هذا الوصف تُجانبه الدقة على الأرجح، فإن المؤكد أن موسكو ستنظر إليها على أنها ثورة ملونة، ومن ثم فهي ستؤدي بلا شك إلى تأجيج التوترات مع الغرب أكثر مما كانت عليه.
ويُطلق مصطلح الثورات الملونة عادةً على أعمال العصيان المدني وأعمال الشغب وحركات التظاهر التي تضمَّنت مبادرات أو محاولات ناجحة لتغيير الأنظمة في كثير من دول الاتحاد السوفييتي السابق، مثل يوغوسلافيا وجورجيا وأوكرانيا، وقد توسَّع استخدام المصطلح بعد ذلك، وبات يستخدم للإشارة إلى حركات التظاهر واسعة النطاق التي تطالب غالباً بالانتخابات الديمقراطية وإزاحة الأنظمة الاستبدادية. وعادة ما تصفها روسيا والصين بأنها حركات تصنعها الولايات المتحدة والقوى الغربية وأنها أدوات يستخدمها الغرب لفرض أجندته وتقويض هيمنة خصومه.
من جهته، يشير كروينيغ إلى أن بعض الآراء الأولية من خبراء مقيمين في الولايات المتحدة تذهب إلى أن ما تشهده كازاخستان هو انتفاضة تطالب بالديمقراطية، إذ عادة ما يعتبر كثير من الأمريكيين أي احتجاج ضد نظام استبدادي هو حركة لميلاد دولة ديمقراطية جديدة.
ومع ذلك، فإن ما يبدو في الواقع هو أن هذا الاحتجاج يرجع إلى أسباب تتعلق بالسخط على خفض الدعم الحكومي أكثر من كونه مطالبات بإنشاء دولة ديمقراطية. فقد ظلت النواة الصلبة لهذا النظام في السلطة منذ نهاية الحرب الباردة، ومن المستبعد أن تسقط هذه المنظومة في أي وقت قريب، وفقاً لما يذهب إليه كروينيغ.
مع ذلك، تعتقد راشفورد أن الاضطرابات الحالية في كازاخستان قد تكون كافية لهزِّ الأسواق في أوروبا وآسيا، فقد حافظ النظام الحالي على نوع من الاستقرار في كازاخستان، ونتيجة لذلك أصبحت البلاد متلقياً بارزاً للاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط والغاز على مدى العقود القليلة الماضية، وأي عجز كبير في إنتاج النفط والغاز الكازاخستاني من شأنه تعميق الأزمة التي تشهدها السوق العالمية بالفعل، ومن ثم زيادة أسعار النفط.
لكن روسيا لا تزال تجمعها روابط قوية بكازاخستان، فهي تشتري الغاز الكازاخستاني لدعم إنتاجها المتراجع، كما أن قاعدة بايكونور الفضائية -موطن برنامج الفضاء الروسي وجميع عمليات إطلاقه إلى الفضاء- تقع في كازاخستان. حتى إن هناك عدداً كبيراً من السكان الناطقين باللغة الروسية داخل البلاد. والخلاصة أن أي دعم أمريكي لهذه الاحتجاجات -ولو حتى الدعم الخطابي- يؤدي إلى تدهور العلاقات مع موسكو، ويزيد اضطراب الأوضاع في أوكرانيا.
يؤيد كروينيغ ذلك، ويكاد يجزم بأن بوتين سيرى أن لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية يداً وراء هذه الاحتجاجات. والسبب أن بوتين يرى مؤامرة غربية وراء أي شيء من المحتمل أن يضر بالمصالح الروسية، على حد تعبيره.
ما يحدث الآن تعتبره روسيا تهديداً لمصالحها، والسبب الرئيسي في ذلك هو أنه حتى إذا لم يكن هناك أي تورط حقيقي للولايات المتحدة فيما يحدث الآن، فإن الكرملين لديه نزوع دائم إلى رؤية هذا النوع من الانتفاضات على أنه ثورات ملونة جاءت بتدخل أمريكي.