لسنواتٍ طويلة، اعتاد نور سلطان نزارباييف، الرئيس السابق لـ كازاخستان، على إظهار المواطنين حبهم الجم له. كان زعيماً للبلاد على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود، وكان يُغمَر بالثناء والتملُّق في الأحداث الكبيرة، وعلت صورته اللوحات الإعلانية في جميع أنحاء البلاد.
عندما تنحَّى في عام 2019، اختار خليفته، قاسم جومارت توكاييف، واحتفظ بسلطة كبيرة كرئيس لمجلس الأمن وسمسار سلطة من وراء الكواليس. واحتفظ بلقبه الرسمي، "إلباسي"، أو زعيم الأمة. كما تغيَّر اسم مدينة أستانا، العاصمة التي أمر ببنائها في قلب السهوب الكازاخستانية، إلى نور سلطان تكريماً له.
بدا أن نزارباييف كأنه وَجَدَ إجابةً للمشكلة التي تزعج الحكام المستبدين طويلي الأمد في أنحاء المنطقة، فقد تنحَّى في سنِّ الشيخوخة دون المخاطرة بأن يلقى عقاباً من أيِّ نوع. ولا شك في أن هذا هو ما كان فلاديمير بوتين وآخرون يراقبونه باهتمامٍ كبير، كما تصف ذلك صحيفة The Guardian البريطانية.
من هو نور سلطان نزارباييف الذي لا يزال يحكم كازاخستان من خلف الكواليس؟
مع انهيار الاتحاد السوفييتي في عام 1990، أعلنت كازاخستان استقلالها، وكان عامل الصلب سابقاً، نور سلطان نزارباييف، البالغ حينئذٍ 51 عاماً، يستعد ليصبح أول رئيسٍ للأمة الجديدة. تقول صحيفة Washington Post الأمريكية إنه على الرغم من أنه كان عضواً سابقاً في الحزب الشيوعي، فقد وَعَدَ بمستقبل جديد مشرق للبلاد، حيث قال للصحيفة الأمريكية قبيل انتخابات 1994، إن البلد يمكن أن يصبح "أرضاً واعدةً للديمقراطية واقتصاد السوق".
في هذا الأسبوع، خرج المتظاهرون بكازاخستان في أعنف احتجاجات بحقبة ما بعد الشيوعية. بدأوا احتجاجاتهم يوم الأحد 2 يناير/كانون الثاني 2022، وسط غضبٍ من ارتفاع أسعار الوقود، ولكن سرعان ما انقلب الغضب على أول زعيمٍ بعد الاستقلال في البلاد. ورغم أن نزارباييف (81 عاماً)، تنحى رسمياً عن منصبه كرئيس منذ ثلاث سنوات، فإنه أصبح هدفاً للمتظاهرين.
قام المتظاهرون بهدم تماثيل نزارباييف، التي كان من المفترض أن تكون نصباً تذكارية لإرثه. وبدلاً من ترديد لقبه "إلباسي"، يردِّدون الآن هتاف "شال كيت"، أي "ارحل أيها العجوز".
أصبح هذا الشعار صرخة حشد للمحتجين، وكثير منهم غاضبون من دور نزارباييف المستمر كحاكم فعلي مدى الحياة. غمرت وسائل التواصل الاجتماعي لقطاتٌ من هدم تماثيل نزارباييف، بينما وَرَدَ أن قصراً رئاسياً في ألماتي، أكبر مدينة بكازاخستان، قد اقتُحِم.
أدى الاستياء من الفقر وعدم المساواة والفساد إلى زيادة الاضطرابات بالبلاد في السنوات الأخيرة، ومعظم الغضب مُوجَّه إلى نزارباييف نفسه، الذي بدا لفترة طويلة أنه لا يمكن المساس به.
حتى الآن، لا يُرى نزارباييف في الأرجاء. لقد كان مُقرَّباً من بوتين ولكنه سعى أيضاً إلى شراكات أخرى، حيث زار البيت الأبيض في عام 2018 للقاء الرئيس دونالد ترامب. وتُعَدُّ دولته، الغنية بالنفط والغاز الطبيعي والفحم، ذات أهمية اقتصادية ليس فقط للمنطقة ولكن أيضاً لأوروبا والجارة الكبيرة الأخرى، الصين.
فقر وفساد وانعدام للمساواة
تقول "الغارديان"، إن نزاباييف تمكَّن من الحفاظ على تماسك البلاد خلال التسعينيات، وفي وقت لاحق تمكَّن من تفادي العنف القمعي الشديد لأقرانه في أوزبكستان وتركمانستان، مع تجنُّب المشاعر الثورية في قيرغيزستان. وعندما قُتل 16 شخصاً في احتجاجات عام 2011، طلب النصيحة من توني بلير حول أفضل السبل لتبرير العنف.
ورَسَمَ نزاباييف مساراً جيوسياسياً دقيقاً في السنوات التي أعقبت استقلال كازاخستان، وظل ودوداً تجاه روسيا، بينما كان يغازل أيضاً القادة الغربيين وشركات الطاقة، الذين غضوا الطرف عن الافتقار إلى الديمقراطية وركَّزوا بدلاً من ذلك على تأمين العقود المربحة في البلاد.
ساعد المحامون والمحاسبون والمستشارون الغربيون النخبة الكازاخستانية الجديدة على استثمار ثرواتهم في قصور لندن والفيلات السويسرية. يُعتقد أن ابنة نزارباييف وحفيده يمتلكان عقاراتٍ في لندن تُقدَّر بـ80 مليون جنيه إسترليني. وشارَكَ نزارباييف أيضاً في تدفُّقٍ مستمرٍ من المهندسين المعماريين الغربيين والمخطِّطين الحضريين لبناء عاصمته الجديدة.
في عام 2010، أمر نزارباييف، ربما وهو قلِقٌ من مرور العمر، العلماء باختراع "ترياق" يمكن أن يطيل عمر الإنسان. في النهاية، على ما يبدو، وافق على حتمية الشيخوخة البشرية وأعلن تنحيه في عام 2019.
في العام الماضي، قدم المخرج أوليفر ستون فيلم Qazaq: History of the Golden Man الذي دار حول الفترة التي قضاها نزارباييف في منصبه، ونُصِبَت العديد من التماثيل للزعيم المتنحي في أرجاء البلاد.
ثورة ضد رئيس "مجلس الأمن" في كازاخستان
والآن، أصبحت صورة نزارباييف مثيرةً للاستياء، إذ أعلن توكاييف، الأربعاء 5 يناير/كانون الثاني 2022، أنه سيحل محل نزارباييف كرئيس لمجلس الأمن، وكانت هناك شائعات بأن نزارباييف قد يغادر البلاد من أجل "العلاج الطبي".
لم يتَّضِح بعد كيف يمكن أن تتطوَّر الاضطرابات في كازاخستان، وما هو الدور الذي سيلعبه نزارباييف فيها، لكن يبدو من المؤكد أن أحداث الأيام القليلة الماضية ستغير الإرث التاريخي الذي كان يتصوَّر أنه سيتركه.
وكان مسؤولون في كازاخستان قد ذكروا أن أكثر من ألف شخص أصيبوا حتى الآن في الاحتجاجات الجارية، وأن نحو 400 نقلوا إلى المستشفيات و62 في العناية المركزة. ولم يتم الكشف عن عدد القتلى من المتظاهرين، في حين ذكرت تقارير إعلامية يوم الخميس، أن 13 ضابطاً أمنياً قتلوا وأصيب 353.
وأفادت تقارير بأن عشرات الجثث مصفوفة في المشرحة بعد أن قامت القوات الكازاخستانية بإطلاق النار على المتظاهرين في أعمال الشغب.
وقالت قوات الأمن في كازاخستان إنها قتلت العشرات ممن وصفتهم بمثيري الشغب المناهضين للحكومة، في عملية لاستعادة النظام بمدينة ألماتي عاصمة البلاد السابقة، بعد أن حاول المتظاهرون السيطرة على مراكز الشرطة بالمدينة، في احتجاجات اتسع نطاقها سريعاً لتشمل معارضة للرئيس السابق نور سلطان نزارباييف الذي لايزال يحتفظ بسلطات واسعة في الجمهورية السوفييتية السابقة رغم استقالته عام 2019.
ووصل مدى الاحتجاجات إلى سيطرة المحتجين على مطار ألماتي كبرى مدن البلاد، وكذلك مقر نزارباييف في المدينة.
وبعد مناشدة من الرئيس لموسكو للتدخل، بدأت الوحدات المتقدمة من الجيش الروسي بالفعل في تنفيذ مهامها بكازاخستان يوم الخميس، حسبما نقلت وكالة تاس "Tass" الروسية عن سكرتارية منظمة معاهدة الأمن الجماعي.
وبحسب منظمة معاهدة الأمن الجماعي، فإن وحدة حفظ السلام التي وصلت إلى عاصمة كازاخستان، تضم وحدات من القوات المسلحة لروسيا وبيلاروسيا وأرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان.
وقالت الأمانة العامة لـ"منظمة معاهدة الأمن الجماعي"، إن المهمة الرئيسية لقوات حفظ السلام هي حماية المنشآت الحكومية والعسكرية المهمة، ومساعدة قوات حفظ القانون والنظام بالبلاد في تحقيق الاستقرار، وإن وجود القوات سيكون لفترة مؤقتة، حسب قولها.