حزن شديد في المملكة العربية السعودية إثر وفاة الداعية ورئيس المجلس الأعلى للقضاء السابق صالح بن محمد اللحيدان، الذي عاصر كل ملوك السعودية منذ تأسيس الدولة السعودية الحديثة، كما أعادت وفاته للأذهان بعض فتاواه المثيرة للجدل ومواقفه التي بدت متحفظة من الإصلاحات في المملكة.
وكان الشيخ اللحيدان تعرض لأزمة صحية قبل أسابيع دخل على إثرها المستشفى، وتصدر اسمه وقتها التريند، وسط تفاعل عدد كبير من الدعاة والمشاهير مع نبأ مرض الشيخ على تويتر، حيث انهالت التغريدات التي تدعو له بالشفاء.
وقد تفاعل نشطاء التواصل الاجتماعي مع وفاة اللحيدان عبر وسم #صالح _اللحيدان بالمواساة والعزاء والدعوات له.
الشيخ اللحيدان عاصر كل ملوك السعودية وخطيب الحرم المكي
والشيخ صالح اللحيدان وُلد في مدينة البكيرية في منطقة القصيم عام 1931، وتدرج في عدة مناصب منها عضو في هيئة كبار العلماء منذ تأسيسها وعضو في رابطة العالم الإسلامي ورئيس مجلس القضاء الأعلى سابقاً.
وتخرج اللحيدان في كلية الشريعة في الرياض عام 1959، وعمل سكرتيراً للشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، مفتي السعودية السابق، في الإفتاء بعد تخرجه، إلى أن عُيِّن عام 1963 مساعداً لرئيس المحكمة الكبرى في الرياض، ثم صار رئيساً للمحكمة عام 1964.
وحصل على درجة الماجستير من المعهد العالي للقضاء عام 1969 واستمر رئيساً للمحكمة الكبرى إلى أن عُين عام 1970 قاضي تمييز وعضواً في الهيئة القضائية العليا.
وفي عام 1982 عُيِّن رئيساً للهيئة الدائمة في مجلس القضاء الأعلى، واستمر في ذلك نائباً لرئيس المجلس في غيابه إلى أن عُين عام 1992 رئيساً للمجلس في الهيئة العامة والدائمة. وهو أيضاً عضو في هيئة كبار العلماء منذ إنشائها عام 1971 وعضو في رابطة العالم الإسلامي وكان له نشاط في مجلة الراية الإسلامية ومديرها ورئيس تحريرها.
وعرف السعوديون اللحيدان طوال تلك العقود من خلال ظهوره الدائم في وسائل الإعلام المحلية، حيث قدم دروساً ومحاضرات دينية في التلفزيون والإذاعة الرسمية، كما كان أحد مدرسي الحرم المكي الشريف.
عندما توفي الملك عبد العزيز آل سعود، مؤسس المملكة، عام 1953، كان الشيخ اللحيدان شاباً عشرينياً شهد تولي الملك سعود حكم البلاد خلفاً لوالده الراحل، ومن ثم عاصر الملوك فيصل وخالد وفهد وعبد الله، والملك الحالي سلمان بن عبد العزيز.
"اقتلوا مُلَّاك الفضائيات".. فتوى مثيرة للجدل
وارتبط اسم اللحيدان بفتوى شهيرة عام 2008 دعا فيها لإعدام مُلاك قنوات فضائية بعد محاكمتهم ما لم يستجيبوا لمنعهم من بث محتوى عبر قنواتهم، "يفسد عقائد الناس، كما يتعلق بالسحر وأنواعه، وتمثيليات فيها شركيات ظاهرة وما يتعلق بنشر الخلاعة والمجون وما يتعلق بالمضحكات التي لا تليق برمضان واستهزاء برجالات علم أو رجالات أمر بمعروف ونهي عن المنكر.."، على حد قوله.
وأثارت الفتوى انتقادات شديدة، خاصة أن قنوات MBC السعودية هي أكبر مجموعة قنوات عربية متخصصة في الدراما، وفهم أنها مشمولة بفتواه، خاصة أنها كانت تعرض دراما أجنبية ومصرية إضافة إلى الدراما التركية في ذلك الوقت.
وبطبيعة الحال، فإن مجموعة MBC تعمل بموافقة من الحكومة السعودية وتمثل وجهة نظرها، حتى لو كانت ملكيتها خاصة ومقرها في دبي.
وانتقدت قناة العربية في ذلك الوقت فتوى رئيس المجلس الأعلى للقضاء، وقالت إنها تذكر الغرب بهجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، التي دمرت برجي مركز التجارة العالمي، حيث قالت إن الفتوى غطتها وعلقت عليها أكثر من 300 مطبوعة بين صحف ومواقع إلكترونية ووكالات أنباء
وبعد الجدل الذي أثارته الفتوى برر اللحيدان موقفه بالقول إنّ "هؤلاء المسؤولين والباثّين إذا لم يمتنعوا ومنعتهم السلطة ولم يمتنعوا وعادوا في ذلك فإنهم يُعاقبون، ومن لم يردعه العقاب واستمر على إفساد الناس فيما يبث، فإنه يجوز للسلطة قتلهم قضاء".
إلا أنّ الشيخ قال: "إنّ المقصود كان الفضائيات التي تروّج للسحر والشعوذة والتي تبث ما يفسد عقائد الناس من شرك بالله وتنشر الخلاعة والمجون والمضحكات".
كما سعى الشيخ صالح اللحيدان إلى "توضيح" فتواه، وقال وسط جدل غير مسبوق في السعودية إزاء الفتوى "إن تدبيراً من هذا النوع إنما يكون عبر القضاء"·
ثم أُعفِي اللحيدان نفسه من منصب رئيس مجلس القضاء الأعلى بعد هذه الفتوى، ولكنه بقي عضواً في هيئة كبار العلماء.
صراع مستمر مع مجموعة MBC
وبعد ذلك هدد اللحيدان باعتباره مستشاراً قضائياً بوزارة العدل السعودية وعضو ما يعرف باتحاد المؤرخين العرب، برفع دعوى قضائية ضد مجموعة الـ MBC رداً على بث القناة ما وصفه بالبرامج الخادشة للحياء.
جاء ذلك تعليقاً من اللحيدان عقب بث إحدى قنوات الـMBC مصارعة نسائية زعم منتقدوها آنذاك أن النساء ظهرن فيها شبه عاريات، وقمنَ بحركات إغرائية تثير المشاهد.
وأضاف اللحيدان أن 50 % من برامج الـMBC تشكل خرقاً للمألوف العقلي والشرعي، وتتساهل في كثير من الضوابط الشرعية.
وعندما أعلنت MBC نيتها عرض مسلسل "الفاروق" الذي يتناول حياة الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، قال اللحيدان إن لجنة المؤرخين العرب ستراقب مسلسل "الفاروق" وستقاضي الجهات المنتجة للعمل "في حال وجود أخطاء تاريخية تسيء" لشخصية "عمر بن الخطاب" ثاني الخلفاء الراشدين.
وقال اللحيدان إن أقوال "عمر" تأخذ صفة الأحكام، وبالتالي "فإن أي خطأ فيها يعتبر كذباً"، مؤكداً ضرورة "عدم خروج ما يُعرض من سيرة عمر بن الخطاب عن ثلاث قواعد ذكرها علماء المصطلح، فإما أن يكون ما قاله عمر مرفوعاً، أو أن يكون موقوفاً له حكم الرفع، أو أن يكون ما قاله موقوفاً".
ونقلت صحيفة "الشرق" السعودية عن اللحيدان قوله آنذاك: "كُتب التاريخ والأخبار والسير التي يعتمد عليها كتاب الأعمال التاريخية مليئة بالأحاديث الضعيفة والواهنة، بالإضافة إلى أنها مليئة بالأحاديث الموضوعة التي لا أصل لها حيث لا يجوز الاعتماد عليها".
انتقاد ضمني لإصلاحات الملك الراحل عبد الله بشأن النساء
وقع خلاف ضمني بين اللحيدان والسلطة في السعودية، عام 2011، عندما قرر العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله السماح للمرأة بمزيد من الحقوق السياسية، وأن يكون لها الحق في التصويت والترشح في انتخابات المجالس البلدية والتعيين في مجلس الشورى الذي يستشيره الملك في السياسة.
إذ تحدث اللحيدان بحذر في ذلك الوقت متفادياً انتقاد قرار الملك مباشرة، وقال إنه لم يأخذ برأيه في هذه الإصلاحات، ولكن لم يقُل إذا ما كان يؤيد الإصلاح أم يعارضه.
غير أنه اعتبر أن الشعرة بين الحاكم والرعية قد تنقطع إذا شُدت بقوة، حسبما نقلت وكالة رويترز آنذاك.
وقال اللحيدان إنه كان يتمنى لو لم يقُل الملك إنه استشار كبار العلماء وإنه لم يسمع عن القرار قبل أن يسمع الخطاب الذي ألقاه الملك، وأعلن فيه هذه الإصلاحات.
وسبق أن أكد اللحيدان أهميته ونفوذه، عندما قال إنه عضو في هيئة كبار العلماء وإنه واحد من اثنين من العلماء في الهيئة شهدا أول اجتماع لها.
وقبل ذلك، عندما انتقد رجل دين بارز أول جامعة مختلطة في السعودية عند افتتاحها في عهد الملك عبد الله عام 2009، أُعفي من منصبه على الفور.
موقفه من إصلاحات الأمير محمد بن سلمان
وبعد تولِّي الملك سلمان السلطة وصعود نفوذ الأمير محمد بن سلمان، وتنفيذه إصلاحات أكثر جذرية من إصلاحات الملك عبد الله، كان لافتاً عدم حدوث خلاف بين اللحيدان والعهد الجديد، رغم أن الشيخ محسوب على التيار المحافظ في المملكة.
فليس هناك تقارير موثَّقة عن انتقاد اللحيدان لهذه الإصلاحات مثلما فعل مع إصلاحات الملك عبد الله ضمنياً، وفي الوقت ذاته استمر اللحيدان في منصبه كعضو بهيئة كبار العلماء رغم اعتقال ومحاصرة دعاة أكثر اعتدالاً منه مثل عائض القرني الذي انتقد فتوى اللحيدان بقتل مُلَّاك الفضائيات.
ويوصف اللحيدان من قِبَل منتقديه بأنه من المقربين من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وقيل إنه أصدر فتاوى متعددة يقول فيها إنه لا يُسمح للمسلمين بالاحتجاج أو حتى انتقاد الحكام علناً، لأن ذلك من شأنه أن يؤدي إلى تمرد من شأنه أن يبرر بدوره رد فعل الحكام العنيف.
ولكن اللافت أنه عندما سئل في أحد البرامج، بشأن رأيه حول تنظيم هيئة الترفيه الحكومية حفلاً في إحدى الجامعات المخصصة للنساء ودعي فيه فنانون أجانب، بدأ إجابته بالدعوة بالتوفيق لولاة الأمور، كل في مجال عمله، ثم قال إن هذا عمل غير كريم، ولا يُشكر من يؤديه، ثم تحول للدعاء لأهل سوريا، والدعاء على إيران وحزب الله، وقال لولا "ذنوبنا ما وُجدت هذه المشاكل"، وأردف قائلاً: "إن بلاد الشام جاءها هذا البغاء بسبب ذنوب الجميع، ثم تحول لمهاجمة الحوثيين".