تعرّض عدد من كبار رجال الأعمال في مصر خلال السنوات الأخيرة لبطش السلطة، بدايةً من صلاح دياب صاحب أكبر عدد من التوكيلات لشركات أمريكية بمصر ومؤسس صحيفة "المصري اليوم"، مروراً بصفوان ثابت صاحب شركة جهينة الضخمة العاملة في مجال الألبان، وصولاً إلى حسن راتب الذي يملك مصانع إسمنت وجامعة سيناء بالعريش ومشاريع استثمار عقاري، فضلاً عن امتلاكه حتى وقت قريب لقناة المحور الفضائية.
رجال الأعمال الثلاثة المذكورون لم يشتبك أحد منهم علناً مع هرم السلطة بمصر، ولم تبدر منهم مواقف نقدية تجاه المؤسسة العسكرية، ورغم ذلك دخلوا السجن، بل وصل الحال إلى سجن نجل صفوان ثابت واستدعاء والدته للتحقيق عندما طالبت في فيديو بالإفراج عن زوجها وابنها.
رجل الأعمال الوحيد في مصر الذي اشتبك عدة مرات مع أقوى مؤسسة بالبلاد، وهي المؤسسة العسكرية، دون أن يقترب منه أحد بسوء، هو نجيب ساويرس، فكيف ردت السلطة عليه؟ ولماذا هو دون غيره من رجال الأعمال يصعب التنكيل به؟
ذروة الشغب
نشرت وكالة الأنباء الفرنسية في 20 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي تصريحات لرجل الأعمال والملياردير المصري نجيب ساويرس انتقد فيها الوضع الاقتصادي بمصر قائلاً: "يجب أن تكون الدولة جهة تنظيمية وليست مالكة للنشاط الاقتصادي"، وأشار إلى أن "الشركات المملوكة للحكومة أو التابعة للجيش لا تدفع ضرائب أو جمارك، وبالتالي تصبح المنافسة بين القطاعين الحكومي والخاص غير عادلة منذ البداية"، ثم أضاف: "المستثمرون الأجانب خائفون بعض الشيء. أنا نفسي لا أخوض عروضاً لمشاريع عندما أرى شركات حكومية، إذ إن ساحة اللعب لا تكون متكافئة".
أثارت تلك التصريحات أجواء صاخبة من الجدل في ظل القبضة الأمنية التي تهيمن على المشهد المصري، فلا يوجد رجل أعمال يجرؤ على التطرق لتلك المساحة في وسائل الإعلام سوى ساويرس. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي ينتقد فيها ساويرس تدخل الجيش في الاقتصاد، إذ سبق أن قال في أبريل/نيسان 2019 إن على الدولة أن ترفع يدها عن الاستثمارات التي بوسع القطاع الخاص تنفيذها، معتبراً أن التدخل وزيادة الاستثمار الحكومي طارد للاستثمار الخاص.
الرد على ساويرس جاء سريعاً من إعلامي السلطة قبل أن يرد السيسي بنفسه عليه. ففي البداية شن الإعلام حملة تشويه ضد ساويرس:
فالإعلامي القريب من السلطة في مصر أحمد موسى قال إن ساويرس أكثر شخص كسب أموالاً في مصر منذ عام 2014 حتى 2021، ويجب عليه أن يحترم كل المؤسسات المصرية.
أما مصطفى بكري فقد طالب ساويرس بالتوقف عن التشكيك والتحريض ضد الدولة وتعمد الإساءة إلى دور القوات المسلحة، لأن الجيش ينتج ويصنع لصالح الشعب المصري، أما الآخرون ومنهم ساويرس فلا هَم لهم إلا "التكويش" على كل شيء لحسابهم.
فيما وصف محمد الباز ساويرس بالفاسد الذي كوّن ثروةً مطعوناً في نزاهتها، ومشهود على سقوطه في مستنقع الجرائم التي تصل إلى درجة خيانة الوطن، وقال إنه يستقوي بالخارج في مواجهة الدولة المصرية.
ولتهدئة أجواء الهجوم الحاد ضده، أعلن ساويرس في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 2021 أنه سيتفرغ لحياته الشخصية وسيتجنب الدخول في أي استثمارات جديدة خلال الفترة القادمة، قائلاً: "أنا في طريقي للمعاش". لكنه نشر لاحقاً صوراً تجمعه برئيس وزراء باكستان عمران خان خلال زيارته لإسلام أباد.
رغم تلك الحملة الإعلامية فإنه قد بدا أن السلطات في مصر لم تغضب بحدة على أسرة ساويرس، إذ أعلنت شركة أوراسكوم للإنشاءات التابعة لساويرس في 25 نوفمبر أنها انضمت إلى التحالف المكون من شركة Scatec النرويجية وFertiglobe المملوكة لناصف ساويرس، وصندوق مصر السيادي المملوك للدولة لإنشاء أول مصنع لإنتاج الهيدروجين الأخضر في مصر بالعين السخنة.
السيسي يرد
تطرق السيسي خلال افتتاح عدد من المشروعات القومية بصعيد مصر في 22 ديسمبر/كانون الأول 2021 إلى تصريحات ساويرس، وقال: "سأتحدث عن القطاع الخاص لأن فيه كلام أثير بشأنه مؤخراً بينما الحكومة تحتاج جهود شركاته ولا تزاحمه"، وأضاف أن 4375 شركة ساهمت في تنفيذ المشاريع الحكومية في قطاع الإسكان والبنية الأساسية مثل الكباري والطرق بتكلفة 1100 مليار جنيه، ثم أشار السيسي إلى أن شركة أوراسكوم التي يملكها ساويرس من ضمن تلك الشركات، وكشف أن أوراسكوم نفذت مشاريع بتكلفة 75 مليار جنيه خلال آخر سبع سنوات، وعقب قائلاً: "في حد بيشتغل بـ 11 مليار جنيه ما بيشتغلش؟ مش معقول يعني".
وقد حرص السيسي على الحديث مع مقاولين يقبلون عمل مشاريع ضخمة بمليارات الجنيهات لصالح الدولة مقبل استلام 25% فقط من مستحقاتهم، ونيل الباقي بعد سنة، وتحدث عنهم كنماذج وطنية في رسالة ضمنية تستنكر تصريحات ساويرس.
مظلة حماية ساويرس
في منتصف عام 2021 كشفت مجلة فوربس الأمريكية عن قائمة أغنى العائلات العربية، وفي مقدمتهم أسرة ساويرس التي تضم الأب أنسي ساويرس قبيل وفاته في ذات العام، فضلاً عن أبنائه الثلاثة نجيب ونصيف وسميح، حيث يُقدر إجمالي ثروتهم بنحو 14 مليار دولار. ويُعتبر نجيب البالغ من العمر 67 عاماً ثاني أغنى رجل في مصر بعد شقيقه نصيف، بثروة تتجاوز 3 مليارات دولار.
مرت ثروة نجيب بطفرة من خلال استثماراته داخل مصر وخارجها. ففي عام 1996 تأسست الشركة المصرية للاتصالات، أول شبكة هاتف محمول بالبلاد، ثم طرحت رخصتها للبيع ليفوز بها نجيب ساويرس وشركاؤه أورانج الفرنسية، "فرانس تليكوم"، ومورتورلا الأمريكية في صفقة تكلفت قرابة 370 مليون دولار آنذاك، وعملت شبكة الهاتف تلك باسم موبينيل.
ساويرس وإخوته من أبرز من فازوا بمشاريع ضمن المعونة الأمريكية السنوية المقدمة لمصر، وقد أقر ساويرس في برنامج "بلا حدود" على قناة الجزيرة عام 1999 بأنه للحصول على عوائد كبيرة من مشاريع المعونة الأمريكية فقد أسس مع أشقائه شركات في أمريكا لنيل المشاريع من المنبع بدلاً من العمل كمقاول مصري من الباطن يجني مكاسب.
وقد كشفت أوراق قضية رفعها ضد ساويرس عام 2009 رجل أعمال إيطالي مقيم في سويسرا يُدعى بينديتي أن ساويرس يملك جنسية أمريكية، بينما أصر ساويرس في عام 2012 خلال حلقة ثانية شارك خلالها ببرنامج "بلا حدود" على أنه يملك جرين كارد فقط وليست لديه جنسية أمريكية.
كيف بنى ساويرس ثروته؟
القفزة الكبرى للثروة جاءت من استثمارات ساويرس بالخارج، والتي يلوح فيها التناقض أحياناً للوهلة الأولى، فشركته أوراسكوم تليكوم للإعلام والتكنولوجيا (OTMT) انخرطت في عام 2008 بمشروع في كوريا الشمالية لإنشاء شبكة الهاتف المحمول" كوريولينك". وبحسب مؤسسة بوميد الأمريكية التي يعمل بها عدد من مسؤولي الأمن القومي الأمريكي السابقين في عهد إدارة أوباما، فإن حكومة كوريا الشمالية منعت شركة ساويرس من إعادة نقل أرباحها للخارج ما أجبرها على إعادة استثمار مئات الملايين من الدولارات داخل كوريا، وهو ما يتقاطع سلباً مع العقوبات الأمريكية على كوريا الشمالية. لكن هذا المشروع مر بسلام في ظل أن قطاع الاتصالات قطاع حيوي، والعمل به داخل دولة مغلقة مثل كوريا الشمالية يمثل نافذة مهمة للقوى الراغبة في فهم ومتابعة ما يدور داخل بيونغ يانغ.
كما استفاد ساويرس كثيراً من حالة الغضب الأمريكي عقب أحداث سبتمبر، وبالأخص خلال الحرب الأمريكية على العراق وأفغانستان. إذ اشترى نجيب ساويرس حصة تبلغ 45% في شركة كونتراكت إنترناشيونال الأمريكية، وهي شركة عملت في العراق في بناء القواعد العسكرية الأمريكية وإعادة بناء الطرق والجسور والمطارات. وقد أشار الكتاب السنوي لعام 2005 الصادر عن معهد ستوكهولم الخاص بالتسلح ونزع السلاح والأمن الدولي إلى أن شركة "كونتراك إنترناشيونال" حازت على عقود في العراق بمقدار 2325 مليون دولار.
كما ساهمت كونتراك في بناء مخازن للذخيرة ومهابط للمروحيات بقاعدة باغرام بأفغانستان، فضلاً عن توسعة مركز قيادة البحرية الأمريكية والأسطول الخامس بالبحرين.
كذلك استثمر ساويرس في شبكات الهاتف المحمول في إفريقيا، حيث حازت شركته "أوراسكوم تيليكوم" رخص تشغيل 12 شبكة للهاتف المحمول في الغابون، وتوغو، وبوركينا فاسو، وزامبيا، ومالي، وغينيا الإستوائية، وبوروندي، وإفريقيا الوسطى، وذلك قبل أن تتخارج من قطاع الاتصالات، عبر الاندماج في شركة "فيمبلكوم" الروسية.
وفي بعض المشاريع خسر ساويرس مبالغ ضخمة وصلت 7 مليارات دولار في نزاعه مع السلطات الجزائرية التي استولت على شبكة الهاتف المحمول التي أسسها بالبلاد، ووصل النزاع بينهما للتحكيم الدولي في عام 2017 عقب رفع ساويرس قضية تعويض.
رحلة ساويرس في التعدين
وخلال السنوات الأخيرة اتجه ساويرس للاستثمار في تعدين الذهب بمصر، ويملك حالياً شركة "لامانشا" التي تعدُّ واحدة من أكبر 10 لاعبين في قطاع الذهب عالمياً. وفي عام 2021 أسس صندوق "لامانشا للتمويل"، وهو صندوق استثمار مقرّه في لوكسمبورغ يختص بالعمل في مجال تعدين الذهب، ويدير أصولاً تزيد قيمتها على 1.4 مليار دولار أمريكي.
وفي المجمل، يتمتع ساويرس بشبكة علاقات دولية قوية، وقدرة على النفوذ لدوائر المال العالمية، والاقتراب منه بشكل عنيف سيؤثر سلباً على الوضع الاقتصادي لمصر، لذا عمل النظام المصري على تفنيد كلام ساويرس وإبراز نماذج أخرى لمقاولين يصفهم بالوطنيين في محاولة للتشويش على تصريحاته.
لكن قبل الختام أشير إلى أنه في يناير/كانون الثاني 2020، توفي خالد بشارة الرئيس التنفيذي لأوراسكوم، والذراع اليمنى لنجيب ساويرس عقب اصطدام سيارة نقل لا تحمل لوحات معدنية بسيارته على الطريق الدائري بالعاصمة، بحسب شهود العيان، فيما ذكرت مصادر أمنية مجهولة أن الحادث يعود لسير بشارة بسرعة زائدة. وكذلك اشتعل حريق ضخم في ساحة مسرح البلازا الذى يقام عليه حفل افتتاح مهرجان الجونة السينمائي الذي تنظمه أسرة ساويرس، وذلك قبيل الافتتاح بيوم واحد، ربما تكون تلك حوادث عرضية، وقد تكون أيضاً رسائل مبطنة من بعض الجهات لساويرس.