عندما كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مرشحاً رئاسياً عام 2017، حمل خطاباً ليبرالياً متسامحاً يطالب بسياسات مرنة مع الهجرة، وينتقد إيطاليا لتركها سفن اللاجئين تغرق بالبحر، ويقول إن فرنسا ارتكبت أخطاء أحياناً باستهدافها المسلمين بشكل غير عادل.
ولكن اليوم يستعد ماكرون لدخول حملة الانتخابات الرئاسية في 2022، مسلحاً بجهوده لتقييد حريات المسلمين الذين انتخبوه بدعوى محاربة الانفصالية، ولكنه نتيجة هذه السياسات أخرج مارد التطرف الفرنسي من مخبئه، حيث لم يعد يواجه فقط السياسية اليمينية المتطرفة ماريان لوبان، بل المرشح الشعبوي الأكثر تطرفاً إريك زمور، وحتى منافسته الوحيدة الرئيسية التي لا تصنف متطرفة فاليري بيكريس هي يمينية محافظة تفاخر بأنها تمنع البوركيني في منطقة "إل دي فرانس" التي تحكمها (المنطقة المركزية في فرنسا التي تضم باريس وتسمى جزيرة فرنسا).
بينما يكاد تختفي التيارات الليبرالية واليسارية في الحملة الانتخابية التي تحولت إلى صراع بين يمين محافظ ويمين متطرف، وماكرون الذي كان يصنف ليبرالياً، ولكنه فعلياً أصبح يمينياً يذكي النزعات الشعبوية ليس فقط ضد المسلمين والمهاجرين الذين يتركهم يموتون في بحر المانش، بل يهدد جارة فرنسا بريطانيا حليفته التاريخية التي أنقذتها من الهزيمة في الحرب العالمية الأولى وحررتها في الثانية بقطع الكهرباء.
فعلى مدار سنوات حكمه الأربع الماضية، انتهج ماكرون سياسات شعبوية، لم تؤدّ فقط لمعاناة المسلمين، ولكن أغضبت حلفاءه، وأدت إلى جعل المزايدة على العداء للإسلام والمهاجرين والسياسات القومية الشعبوية هو الخطاب السائد في فرنسا.
أنكر وجود أمة جزائرية.. تقلبات صادمة في موقف ماكرون من المسلمين
تظهر مواقف ماكرون من المسلمين تقلبات لافتة، فالرجل صدم فرنسا، عندما غازل الناخبين المسلمين الجزائريين في انتخابات 2017، بقوله إن "الاستعمار جريمة ضد الإنسانية، وإن الدولة ينبغي أن تكون محايدة تجاه الدين.. وهو ما يأتي في صلب العلمانية.. فعلينا واجب ترك كل شخص يمارس دينه بكرامة". بالإضافة إلى ذلك دعا ماكرون إلى تدريس الشؤون الدينية في المدرسة.
وانتهى به الأمر إلى إنكار وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، ورفض الاعتذار عن جرائم الاستعمار الفرنسي للجزائر.
بل إن ماكرون المرشح أيد البوركيني، وهو لباس البحر الذي ترتديه النساء المسلمات المتدينات.
ولكنه انقلب على مواقفه، حيث سعى لمنع أحواض السباحة من أن تخصص أوقاتاً منفصلة للنساء المسلمات.
إيمانويل ماكرون حامل لواء الإسلام وحاصد أصواتهم
ماكرون المرشح في 2017، كان يحمل "لواء الإسلام" على حد قول الكاتب الفرنسي "ميشال براسبارت"، بهدف استقطاب أصوات الناخبين الفرنسيين المسلمين، الذين يمثلون نحو 6% من الناخبين، والتي كان من المتوقع أن يتقاسمها كل من مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلونشون (4%)، والمرشح الاشتراكي بونوا هامون (2%).
وأظهر استطلاع لمركز إيفوب أن 86% من المسلمين صوَّتوا لفرانسوا هولاند عام 2012، ولكن في انتخابات عام 2017، تراجع مرشح اليسار المعتدل بونوا آمون، حيث حصل في الجولة الأولى على 6.35% من الأصوات فقط.
ومن الواضح أن المسلمين وغيرهم لم يعطوا أصواتهم لمرشح اليسار المعتدل، كما أن مرشح اليسار الراديكالي جان لوك ميلينشون في الأغلب لم يحصل على أصوات كثير من المسلمين لأنهم لم يريدوا المراهنة على حصان يُعتقد أنه خاسر، ومرشح اليمين المحافظ طاردته فضيحة في ذلك الوقت، إضافة إلى موقف اليمين السلبي من المسلمين، وبالتالي يرجح أن نسبة كبيرة من أصوات المسلمين ذهبت في الجولة الأولى لماكرون بعد أن قدم خطاباً بدا مشجعاً ناحية المسلمين.
ولكن بعد أن أصبح رئيساً صدم العالم الإسلامي بموقفه من نشر الصور المسيئة للرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، ولم يسعَ للنأي بنفسه وحكومته عنها، وكان من الممكن أن يكتفي بإدانتها مع التأكيد على أنه لا يستطيع منعها في إطار حرية التعبير.
ماكرون الذي جاء بأصوات المسلمين، وقدم نفسه على أنه الرجل الذي سيصالح فرنسا مع مسلميها ويتبرأ من تاريخها الاستعماري دخل في مواجهة عبثية مع ملياري مسلم، لن تفيد إلا المتطرفين على الجانبين.
ووصل الأمر بالرئيس إيمانويل ماكرون في توجهه نحو اليمين إلى أنه جاء في منتصف عام 2020، بوزير داخلية يميني متشدد هو جيرالد دارمانان جده لأمه من الحركيين الذين حاربوا مع فرنسا ضد استقلال الجزائر وأصوله من ناحية والده يهودي مالطي، وهو وزير مشغول بالعداء للثقافة الإسلامية لدرجة أنه يخصص وقته الثمين للهجوم على بيع الطعام الحلال في محلات فرنسا.
دعم التغول الروسي في خاصرة أوروبا الجنوبية
ولكن تقلبات ماكرون وتناقضاته لم تقتصر على المسلمين، فسياسات ماكرون الأوروبية تتسم بازدواجية واضحة ترفع شعارات سيادة الاتحاد الأوروبي واستقلاله الاستراتيجي والعسكري، بينما هي فعلياً تسعى لتحقيق مصالح فرنسا حتى لو عرّضت أمن بعض الدول الأوروبية للخطر.
فالرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقدم نفسه على أنه قائد الاتحاد الأوروبي الغيور على سيادته، رغم أن فرنسا فعلياً شبه صديق لروسيا أكبر خصم للاتحاد الأوروبي.
وأحد أسباب التجرؤ الروسي على أوروبا والناتو هو ضعف ردود فعل أكبر دولتين في الاتحاد الأوروبي وهما ألمانيا وفرنسا، والأخيرة تحديداً، تعتبر أكبر دولة متحفظة على اتخاذ موقف حاسم ضد روسيا رغم تحرشاتها بالاتحاد الأوروبي، بل إنها في كثير من الأحيان بدت شبه متحالفة مع روسيا، وذلك عندما كادت تبيع لها حاملتي مروحيات في أول صفقة غربية مع روسيا، والتي تقوضت بعد الاستيلاء الروسي على القرم.
ولقد وصلت هذه العلاقة المريبة بين فرنسا وروسيا إلى مساندة باريس خليفة حفتر أمير الحرب الليبي الذي جلب مرتزقة فاغنر الروس وسمح لموسكو بإرسال طائراتها والسيطرة على مناطق في ليبيا التي تعد خاصرة أوروبا الجنوبية، ليستكمل بوتين بفضل ماكرون حلقة الحصار على الاتحاد الأوروبي من الناحية الجنوبية.
في المقابل، فإن ماكرون يحاول تنصيب تركيا خصماً للاتحاد الأوروبي، وهي الدولة التي تتطلع إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي وتريد علاقة متوازنة معه.
ولم يقُم ماكرون بأي تحرك يذكر إزاء التهديدات الروسية لأوكرانيا وتحركات طيرانها العسكري ضد دول البلطيق، رغم ما تحمله التحركات الروسية من مخاطر حقيقية، خاصة في ظل فارق القوة بين موسكو وكييف ودول البلطيق وغيرها من الدول الأوروبية المجاورة لروسيا.
في المقابل، فإنه أرسل قوات بحرية إلى شرق البحر المتوسط لمساندة اليونان ضد تركيا، متجاهلاً حقيقة أن التحركات التركية جاءت بسبب الاستفزازات اليونانية التي خالفت التفاهمات التي أبرمت بوساطة ألمانية، في منتصف 2020 بين البلدين، بعدما كادا يدخلان في اشتباك بحري.
ولكن عقب هذه التهدئة خالفت اليونان شروطها عبر توقيع اتفاق مثير للجدل لترسيم الحدود البحرية مع مصر تجاهل مطالبات تركيا؛ مما دفع الأخيرة للتصعيد إلى تأكيد ما تعتبره حقوقاً لها في شرق المتوسط.
دخل في مواجهة غريبة مع بريطانيا
وقد وصلت تصرفات الرئيس الفرنسي الغريبة إلى حد تهديد بريطانيا بقطع الكهرباء عنها بسبب خلاف تافه على الصيد، ولكن الواقع أن هدفه هو مزايدة انتخابية رديئة لو صدرت من دونالد ترامب لملأت الصحافة الغربية صفحاتها عويلاً على شعبوية الرئيس الجمهوري اليميني.
وبلغ الأمر في هذه الأزمة التي أججها ماكرون إلى أن بعض الفرنسيين هددوا بمنع شحن البضائع من بلادهم إلى بريطانيا متوعدين بحصار للجزر البريطانية التي تعتمد في تجارتها مع القارة الأوروبية بشكل كبير على فرنسا.
اعتداءات عنصرية على المسلمين
استهداف ماكرون للمسلمين، حسب وصف زعيم اليسار الفرنسي الراديكالي جان لوك ميلينشون، تسبب في مزيد من الاعتداءات العنصرية ضدهم.
فخلال ذروة حملة ماكرون على المسلمين في بلاده في أكتوبر/تشرين الأول 2020 شهدت باريس اعتداء إرهابياً تعرضت له محجبتان من أصل جزائري، حيث تم طعنهما بسلاح أبيض أسفل برج إيفل.
وها هو وزير داخلية ماكرون يعترف متأخراً بتعرض المسلمين للمضايقات وأن الاعتداءات عليهم وصلت إلى المساجد.
وازدادت الاعتداءات على المسلمين في فرنسا بنسبة 53 بالمئة خلال 2020، مقارنة بالعام الذي قبله، إذ أعلن رئيس المرصد الوطني ضد معاداة الإسلام بفرنسا عبد الله زكري، أن البلاد شهدت 235 اعتداء على المسلمين في 2020، مقابل 154 عام 2019.
وها هو يحصر نفسه في مربع اليمين
والنتيجة يواجه ماكرون تحدياً سياسياً داخلياً كبيراً قبيل الانتخابات المقررة في أبريل/نيسان 2022.
فبعد أن كانت أغلب استطلاعات الرأي تتوقع له فوزاً مريحاً في رئاسيات الربيع المقبل في مواجهة مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان، على غرار انتخابات 2017، فإن شعبيته تتراجع، في وقت نجح فيه اليمين الكلاسيكي (حزب الجمهوريين) في التغلب على انقساماته واختار فاليري بيكريس، لمنافسته.
ويبدو أن هناك دينامية سياسية انطلقت مع تسمية بيكريس قد تؤدي لتمكنها من الوصول إلى الجولة الثانية للانتخابات، لا بل التفوق على ماكرون وانتزاع الرئاسة منه.
كذلك، فإن بروز اسم إريك زمور، الشعبوي والأكثر يمينية من لوبان، فرض مواضيع الهجرات والهوية والإسلام على الجدل السياسي، وهي المواضيع التي وضعها ماكرون نفسه في الواجهة، رغم أنه لن يستطيع منافسة اليمين في الادعاء بتمتعه بالقوة المزعومة الكافية في هذا الملف مهما فعل.
ويرى مرشحو اليمين في هذه المواضيع نقاط ضعف ماكرون، وبالتالي سيركزون عليها.
ثم إن تمدد وباء المتحور "أوميكرون" الصاعق أدخل عنصراً جديداً على المنافسة، لأن فشل الحكومة في مواجهته وحماية السكان منه ستكون له انعكاسات سلبية على الدورة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتالي من الصعب اليوم التنبؤ بتبعاته السياسية، وكيف ستنعكس في صناديق الاقتراع.
هل يعطي المسلمون أصواتهم لماكرون مجدداً؟
في المقابل، خسر ماكرون تأييد المسلمين وأغلب اليساريين وكثير من الليبراليين، واقتنع ماكرون بخسارة أصوات المسلمين، لذلك يحاول المزايدة على اليمين المتطرف لتعويض خسائره الانتخابية المقبلة، وأصبح ينافس اليمين على الأصوات المحافظة منافسة تبدو صعبة؛ لأن الأولى للناخب المحافظ أن يعطي صوته للمرشحين اليمينيين سواء محافظين أو متطرفين.
وبطبيعة الحال، فإن المسلمين قد يضطرون لإعطاء أصواتهم لماكرون إذا واجه في الجولة الانتخابية الثانية أياً من المرشحين المتطرفين لوبان وزمور، ولكن إذا تواجه ماكرون مع المرشحة اليمينية فاليري بيكري، فقد تحصل الأخيرة على أصوات المسلمين التي ترجح الكفة في اللحظات الحرجة، حتى لو تم تختلف فاليري عن ماكرون كثيراً، فإن ما عاناه المسلمون في عهد ماكرون سيدفعهم للتصويت العقابي.
فبالنسبة للمسلمين والليبراليين واليساريين، قد تتحول انتخابات فرنسا إلى سباق لا يعنيهم كثيراً محصور بين ليبرالي سابق يزايد على اليمين، ويمينية متشددة وأخرى محافظة ومرشح شعبوي متطرف يدعو للصراع بين الإسلام والمسيحية لينافس ماكرون على لقب ترامب فرنسا.