حذّرت وكالات الاستخبارات الغربية من أنَّ روسيا تفكر في غزو أوكرانيا، ربما بمشاركة 175000 جندي. وقد نقلت حكومة الرئيس فلاديمير بوتين بالفعل أكثر من 100000 جندي على طول الحدود الأوكرانية، بما في ذلك داخل بيلاروسيا. بينما يُوجِّه المسؤولون الروس اتهامات مرتابة بشكل شنيع للغرب. على سبيل المثال، ألقى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف باللوم مؤخراً على الناتو في عودة "سيناريو كابوس المواجهة العسكرية".
ومع ذلك، خلُص تقرير حديث إلى أنه على الرغم من انتشار روسيا المكثف وخطابها التهديدي، فإنَّها لا تخطط لغزو أوكرانيا. ووجد التقرير، الذي أعدّه "مشروع التهديدات الحرجة" التابع لمعهد American Enterprise Institute ومعهد دراسة الحرب، أنَّ التكاليف السياسية والاقتصادية لغزو حقيقي باهظة للغاية بالنسبة لروسيا. ويقول التقرير: "ربما يحاول بوتين ممارسة التضليل الاستراتيجي حتى يوقع الغرب في عملية دبلوماسية ودوامة التخطيط العسكري التي ستجعله غير مستعد".
وبدلاً من غزو أوكرانيا مباشرةً مرة أخرى، تسعى روسيا إلى مزيد من زعزعة الاستقرار في البلاد قبل انتخاباتها، ونشر قوات في بيلاروسيا، وتقسيم الناتو، والتعجيل بتقديم الغرب تنازلات لتهدئة الأزمة.
تهديد روسيا لأوكرانيا بغزوها قد يأتي بنتائج عكسية
يقول التقرير إنه حتى بدون غزو أوكرانيا، تُشكِّل التحركات العسكرية الروسية تهديدات خطيرة لحلفاء أمريكا، بما في ذلك دول البلطيق. ففي مقابل مجرد التفكير في خفض حشدها العسكري، تطالب روسيا بقبول الناتو إطاراً أمنياً مختلفاً لأوروبا، والتخلي عن أي انضمام مستقبلي إلى الناتو والتعاون العسكري مع أية دولة من خارج الناتو.
تقول مجلة The Atlantic الأمريكية التي علقت على معهد American Enterprise Institute، إن تقييم "مشروع التهديدات الحرجة" ومعهد دراسة الحرب لنوايا روسيا يتوافق مع تفضيل الدولة للحرب الهجينة أو سياسة عدم تجاوز عتبة الحرب؛ المتمثلة في الدمج بين المعلومات المضللة والإجراءات السياسية والاقتصادية والعسكرية المصممة لشل أو إضعاف الخصوم دون إثارة رد فعل ناجح.
وعلى الرغم من أنَّ عمليات الانتشار العسكرية الروسية كانت سريعة، لكنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها تعرفوا عليها مبكراً بما يكفي لتنبيه بعضهم البعض والاتفاق على الرد. كانت عاصفة الانتقام الروسية المتصاعدة منذ وصول بوتين إلى السلطة مشروطة برد فعل سريع. وارتفع الإنفاق الدفاعي من قبل أعضاء الناتو الأوروبيين منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2014.
وأسفرت المشاورات الثنائية واجتماعات الناتو عن مجموعة من العقوبات السياسية والاقتصادية المحتملة، لا سيما طرد روسيا من شبكة جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك (سويفت)، التي استهدفت وقف بوتين ورجال أعماله.
وتقدم تركيا طائرات بدون طيار إلى أوكرانيا، وأرسلت الولايات المتحدة مستشارين عسكريين وصواريخ جافلين، وألمانيا تعيد النظر في خط أنابيب نورد ستريم 2. وصحيح أنَّ المجتمعات الديمقراطية بطيئة في التوافق، لكن بمجرد تحقيق ذلك يكون التزامها دائماً، وكان لدى الولايات المتحدة وحلفائها الوقت للتنظيم، كما تقول المجلة الأمريكية.
"تهديدات روسيا لأوكرانيا توحّد الناتو"
وفي محاولة لتهدئة الأزمة التي خلقها بوتين، استبعدت إدارة بايدن نشر القوات الأمريكية للدفاع عن أوكرانيا. وتقول "ذي أتلنتلك" إنه من الواضح أنَّ جو بايدن كان يأمل في منع اندلاع حرب ناتجة عن سوء التقدير -بمعنى إساءة أحد الأطراف تفسير تصرفات الطرف الآخر، وتصاعد العنف إلى كارثة نووية.
وعلى الرغم من أنَّ الاستراتيجية العسكرية المنهجية تأخذ في الاعتبار إخبار الخصم بما لن تفعله؛ مما يؤدي إلى دفع الخصم إلى هزيمة ذاتية، في الظروف التي يكون فيها عدم تناسق المصالح واضحاً للغاية، لكن وضع سقف للتصعيد المحتمل من المرجح أن يجعل سياسة أمريكا أكثر مصداقية. ففي أعقاب استسلام الولايات المتحدة في أفغانستان، لا يمكن تصديق الادعاء بأنَّ إدارة بايدن "ستخوض أية معركة أو تتحمل أي عبء"؛ من أجل استقلال حكومة ما بعد الاتحاد السوفييتي التي ما زالت فاسدة.
ووافق بايدن على مطلب روسيا بإجراء مناقشات حول إطار أمني أوروبي جديد. ومثّلت تلك الموافقة بلا شك تنازلاً، إذا أعطت بعض المكانة للمخاوف الروسية، وقد أثارت قلق حلفاء الناتو في الخطوط الأمامية والذين لديهم مخاوف طويلة الأمد (ومبررة) من التخلي عنهم.
بيد أنَّ إجراء المناقشات في منتدى الناتو، كما وافقت روسيا الآن، يسمح لدول الغرب بإظهار تضامنها المتزايد. لقد وحدت تهديدات روسيا التحالف. وستعكس المناقشات أيضاً نموذج القوة المفضل لدى الولايات المتحدة، الذي ينبع من قدرتها على إقناع الآخرين بتقاسم أعباء ما تحاول تحقيقه، مع النموذج الذي تتبعه روسيا والصين، والذي يعتمد على تهديد الدول للاستسلام.
الولايات المتحدة وحلفاؤها تقف على الجانب الأسهل في هذه الحجة. قد تحشد روسيا بعض الدعم بين الدول التي تشعر بالتهديد من الحكومات التي تخضع للمساءلة من قبل مواطنيها، لكن الولايات المتحدة لديها الميزة الأخلاقية والتقديرية المتمثلة في المجادلة ضد فرض الدول القوية إرادتها على أولئك غير القادرين على حماية أنفسهم.
الجيش الروسي لم ينجح بإخضاع المقاومة الأوكرانية في دونباس حتى الآن
ولا يعني ذلك أنَّ أوكرانيا غير قادرة حقاً على حماية نفسها؛ فالشيء الآخر الذي قد يعرقل الغزو الروسي لأوكرانيا هو حقيقة أنه، حتى في دونباس، لم ينجح الجيش الروسي القوي في إخضاع المقاومة الأوكرانية. بل على العكس تماماً؛ عززت روسيا الهوية الوطنية الأوكرانية.
وتقول المجلة الأمريكية، إن الاحتلال الروسي سيواجه "نوع التمرد الذي أثبت الجيش الروسي أنه غير قادر على إخضاعه في أفغانستان والشيشان، على الرغم من وحشيته". وهناك نصف مليون أوكراني لديهم خبرة عسكرية. وقال 24% من المشاركين في أحد استطلاعات الرأي الحديثة إنهم سيقاومون الاحتلال الروسي "بسلاح في أيديهم". قد تنجح روسيا في الاستيلاء على أوكرانيا، لكن من المستبعد أن تستطيع الاحتفاظ بها.
قد لا تقاتل دول الناتو من أجل أوكرانيا، لكن من المحتمل أن تُسلِّح الأوكرانيين وتدربهم للقتال للدفاع عن أنفسهم. وقد يؤدي الغزو الروسي إلى فتح أبواب الدعم الغربي لأوكرانيا على مصراعيه، وتنشيط تعبئة مماثلة للمجتمع المدني بين دول خط المواجهة في الناتو.
لقد أقنعت تهديدات بوتين الألمان بالفعل بأنَّ خط "نورد ستريم 2" ليس مجرد صفقة تجارية، بل هو وسيلة للضغط الجيوسياسي. وفي هذا السياق، يمكن للاتحاد الأوروبي استخدام أدواته التنظيمية في شركة Gazprom والشركات الروسية الأخرى التي تسعى للوصول إلى الأسواق الأوروبية استخداماً أقوى، للتدقيق في ممارساتها وفرض الامتثال للقانون.
تقول المجلة الأمريكية إن "الشفافية أداة تدمير محتملة ضد المستبدين؛ لأنَّ الفساد ينزع الشرعية. وتواجه حكومات المجتمعات الحرة بالفعل التدقيق العام؛ مما يجعلها في وضع جيد للمطالبة بنفس الشيء من الآخرين. في حين يخشى قادة روسيا المحاسبة على ثرواتهم. ويبدو أنَّ الكشف عن الفساد في أوراق بنما قد دفع بوتين إلى إطلاق العنان للمراقبة السيبرانية ضد الولايات المتحدة".
وجاءت المحاولات الروسية السابقة لترهيب أوكرانيا للعزوف عن اختيار المسار الغربي بنتائج عكسية. يقول 58% من الأوكرانيين الآن إنهم سيصوتون لعضوية الناتو، وقد طورت الأمة إحساساً أكبر بالهوية الوطنية ومجتمعاً أكثر مرونة. وتتجه السويد وفنلندا نحو تحالف أوثق مع الناتو، في ظل توضيح روسيا لمخاطر البقاء خارج اتفاقية الدفاع المشترك الغربية. وتوحد حلف الناتو، رافضاً قبول حصول روسيا على حق النقض على عضوية الحلف أو أفعاله. وعملت الولايات المتحدة، في الوقت الذي تتجنب فيه التدخل العسكري، على صياغة مجموعة موثوقة من العقوبات وحصلت على دعم دولي لها.
تضيف المجلة: يفتقر بوتين إلى الرؤية ليعرف أنَّ شن عمليات عسكرية ناجحة لا يماثل الفوز في الحرب، وهو درس أعادت الولايات المتحدة تعلمه مؤخراً في أفغانستان. إنَّ تكرار روسيا الآن للخطأ ذاته الذي ارتكبته الولايات المتحدة، التي تتعافى منه ببطء، هو تطور مثير للسخرية.