تكمن مشكلة التوقعات الاقتصادية عن عام قادم -وهي التي تصدر في هذا الوقت من العام- في احتمالية أن تكون خاطئة. وبالطبع هذا قد يحدث، يوجد في الأسواق المالية العديد من الطرق للخطأ، في الاتجاه أو التوقيت أو سرعة التغيير. ومدة 12 شهراً مدة طويلة جداً وقصيرة جداً، طويلة جداً لأن الوتيرة الحادة لدورة الأعمال المالية الحالية تعني أنه حتى فكرة محددة جيداً ستنتهي في غضون أسابيع. وقصيرة جداً لأن الاتجاهات الاقتصادية العميقة قد تستغرق سنوات حتى تصبح واضحة تماماً. وفي هذا التقرير وضعت مجلة Economist البريطانية "التوقعات الفورية" جانباً، وحاولت الإجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن أن تتغير الأمور اقتصادياً خلال العقد القادم، وتحديداً "رأس المال"؟
لماذا سيُصبح رأس المال أكثر ندرة في عشرينيات القرن الحالي؟
تقول إيكونوميست، إن رأس المال في العالم اليوم وفير، إذ تتمتع القوى العاملة العالمية في منتصف العمر بالكثير من المدخرات لتوظيفها. تشير أسعار الفائدة المنخفضة طويلة الأجل والأصول باهظة الثمن إلى ندرة الطرق الجديرة بالاهتمام لاستخدام هذه المدخرات. غالباً ما تعتمد الشركات الجديدة على الأفكار، ولا تحتاج إلى الكثير من رأس المال. قد يكون من الصعب تخيُّل انتهاء هذا الوضع، لكن بمرور الوقت لا بد أن يُصبح رأس المال أقل وفرة، وسيأتي الطلب الأكبر عليه من ثلاثة مصادر على وجه الخصوص: الشعبوية الاقتصادية، وإصلاحات سلاسل التوريد، وتغير المناخ.
1- الشعبوية الاقتصادية
قبل ثلاثين عاماً رسم اثنان من أبرز الاقتصاديين الأكاديميين، سيباستيان إدواردز وروديجر دورنبوش، عناصر "الشعبوية الاقتصادية" الأساسية، ويرى الأكاديميان أن الشعبوية الاقتصادية نهج لا يرى أي قيود -مثل حدود الاقتراض أو التضخم- على النمو الاقتصادي، أي بمعنى أنها نهج اقتصادي يركز على النمو وإعادة توزيع الدخل ويغفل مخاطر التضخم وتمويل العجز، والقيود الخارجية، ورد فعل الكيانات الاقتصادية تجاه السياسات غير السوقية الصارمة.
وقام الشعبويون الاقتصاديون في أمريكا اللاتينية بطبع الأموال لدفع تكاليف الإنفاق العام، انتهى ذلك الأمر بشكل سيئ، لكن الشعبوية الاقتصادية ما زالت قائمة، إنها في أنقى صورها في فنزويلا، كما أن الأرجنتين لم تتخلص منها أبداً.
أصبح الشكل المخفف من الشعبوية الاقتصادية أكثر وضوحاً في البلدان الغنية اليوم أيضاً، إحدى العلامات هي إحياء "السياسة المالية التقديرية"، كالحزمة التي تبلغ 1.9 تريليون دولار، والتي وقّعها الرئيس الأمريكي جو بايدن في مارس/آذار، كما أن صندوق التعافي الأوروبي الذي تبلغ قيمته 750 مليار يورو (900 مليار دولار) مثالاً أكثر تواضعاً، لكنه لا يزال مهماً.
وتقول المجلة البريطانية، إن التحفيز المالي لصالح الشعبوية الاقتصادية عاد بسبب إدراك أن قيود السياسة، مثل عجز الميزانية، تكون أقل تقييداً عندما تكون أسعار الفائدة منخفضة، ولكن مع مرور الوقت سيبدأ العجز في امتصاص المدخرات.
2- إصلاحات سلاسل التوريد
العامل الثاني هو زيادة الاستثمار في استمرارية الأعمال، فمن المرجح أن يتم تقصير سلاسل التوريد عالمياً إلى حد ما. ويرجع ذلك جزئياً إلى تجنب الاختناقات في سلاسل التوريد التي أثرت على الإنتاج في عام 2021، وحتى الاقتراب المتواضع من الدعم سيتطلب المزيد من رأس المال.
وخسرت الشركات مبيعاتها أثناء الوباء بسبب نقص المخزون، كما أصبحت تكلفة الفائدة على حمل المخزون الآن أقل بكثير مما كانت عليه عندما تحولت ممارسة الأعمال نحو مستويات المخزون الضعيف والعرض في الوقت المناسب. وتشير الإيكونوميست إلى أن عامل "الأمن القومي" سيعمّق تلك المشكلة في سلاسل التوريد، فالتنافس بين أمريكا والصين يقود كلاً منهما إلى مضاعفة القدرات في بعض الصناعات الرئيسية، مثل أشباه الموصلات، ومثل هذه الازدواجية سوف تمتص رأس المال.
ومع ازدهار التجارة العالمية في السنوات التي سبقت الأزمة المالية في 2007-2009، كانت دفاتر طلبات الشحن تعادل تقريبًا 60% من الأسطول الحالي، لكنها الآن تزيد قليلاً عن 20%. يعود سبب انضباط رأس المال جزئياً إلى عدم اليقين بشأن التكنولوجيا اللازمة لجعل السفن التي يبلغ عمرها 25 عاماً متوافقة مع قواعد انبعاثات الكربون الأكثر صرامة التي تتوقعها الصناعة. ومع ذلك، قد يكون لانضباط رأس المال حدوده، إذ بدأت الطلبات في الانتفاخ مرة أخرى. وسيستغرق الأمر من سنوات قبل أن تتحسن سلاسل التوريد، وبالتالي فإن عصر الشحن الباهظ قد يستمر لأعوام أطول من المتوقع.
3- تغير المناخ
السبب الثالث لتوقع ندرة رأس المال خلال العقد الحالي هو تغير المناخ. يجادل الخبراء الاقتصاديون بأن الانتقال إلى طاقة أكثر اخضراراً هو في الأساس مشكلة إنفاق رأس المال. إذ تتطلب أي محاولة جادة لوقف الارتفاع في الاحترار العالمي التخلص من الأصول التي يقوم عليها اقتصاد الكربون -منصات النفط ومحطات الطاقة التي تعمل بالفحم والبنزين- وبناء بنية تحتية جديدة تعتمد على المركبات الكهربائية وطاقة الرياح والطاقة الشمسية وتخزين البطاريات، وبالتالي يجب توزيع الكثير من رأس المال لإنشاء هذه الأصول.
وحول الآثار الاقتصادية الأخرى لتغير المناخ، أصدرت إدارة بايدن تقريراً مؤخراً من 40 صفحة، يحذّر من أن أزمة المناخ "تُشكل مخاطر جسيمة ومنهجية على الاقتصاد العالمي، والنظام المالي في الولايات المتحدة"، ووضعت خطوات للعمل، حيث إن "التأثيرات المناخية تؤثر بالفعل على الوظائف والمنازل والعائلات الأمريكية، والمدخرات التي تم الحصول عليها بشق الأنفس، والشركات"، حسب صحيفة the Guardian.
ويقول بايدن إن الحكومة الفيدرالية الأمريكية ستقوم بوضع المخاطر المناخية في الاعتبار في مزايا الموظفين واستثمارات خطة التقاعد، ودمج الكوارث المناخية في قرارات الإقراض والميزانية، ومراجعة معايير البناء للمنازل المعرَّضة لخطر الفيضانات. ومراعاة هل تؤدي الرهون العقارية المدعومة من الحكومة للإسكان العام، إلى مخاطر حدوث فيضانات كارثية وحرائق غابات وتأثيرات مناخية أخرى.
كما تقول جينا مكارثي، كبيرة مستشاري بايدن للمناخ، إن أزمة المناخ "تشكل خطراً على اقتصادنا وعلى حياة الأمريكيين وسبل عيشهم، ويجب أن نتحرك الآن". ويقول التقرير الأمريكي إن "التأثيرات المكثفة لتغيُّر المناخ تشكل مخاطر مادية على الأصول والأوراق المالية المتداولة علناً، والاستثمارات الخاصة والشركات". مضيفاً أن أزمة المناخ "تهدد القدرة التنافسية للشركات والأسواق الأمريكية، ومدخرات الحياة والمعاشات التقاعدية للعمال والأسر في الولايات المتحدة، وقدرة المؤسسات المالية الأمريكية على خدمة المجتمعات".
من بين الخطوات الموضحة في الخطة الأمريكية، أن يقوم مجلس مراقبة الاستقرار المالي التابع للحكومة، بتطوير أدوات لتحديد وتقليل المخاطر المرتبطة بالمناخ على الاقتصاد. تخطط إدارة الخزانة لمعالجة المخاطر التي يتعرَّض لها قطاع التأمين وتوفر التغطية. تبحث لجنة الأوراق المالية والبورصات في قواعد الإفصاح الإلزامية حول الفرص والمخاطر الناتجة عن حالة الطوارئ المناخية.
في النهاية، تقول المجلة البريطانية إنه بالرغم من ظهور بعض التنبؤات الاقتصادية القصيرة التي تناقض احتمالية ندرة الطرح السابق في نقاطه الثلاث، فإن وفرة رأس المال التي نراها اليوم لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، يجب علينا أن ننتظر بما يكفي، وستكون معظم هذه التوقعات صحيحة.