بعد أن فجّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون غضباً جزائرياً رسمياً وشعبياً غير متوقع بذلك الحجم عندما شكك في تاريخ الجزائر، يحاول مؤخراً تهدئة الأوضاع، لحسابات انتخابية وإقليمية، وحتى لا تضيع مصالح بلاده في الجزائر أمام قوى دولية منافسة، وعلى رأسها روسيا والصين وتركيا.
"فحرب الذاكرة" المستعرة بين الجزائر وفرنسا إلى اليوم، يُشكِّل الأرشيف الجزائري في الحقبة الاستعمارية (1830-1962) أحد عناوينها.
إذ تتهم الجزائر فرنسا بسرقة أرشيفها الذي يؤرّخ للحقبة الاستعمارية وما قبلها، بل وحتى لفترة ما بعد الاستقلال إلى 1966، والمتعلقة بالتجارب النووية في الصحراء الجزائرية، وتُطالب إلى اليوم باستعادته.
ماكرون، الذي يستعد لدخول معركة انتخابية حاسمة، في أبريل/نيسان المقبل، قرر أخيراً رفع طابع السرية عن جزء من الأرشيف السري للجزائر في الفترة ما بين 1954 و1966.
ففي 23 ديسمبر/كانون الأول 2021، نُشر قرار وزاري في الجريدة الرسمية، أقرّ فتح الأرشيف القضائي الفرنسي "فيما يتعلق" بالحرب الجزائرية (1954-1962)، قبل نحو 15 عاماً من الفترة المحددة.
فتح الأرشيف بأمر وزاري
وبحسب جريدة لوفيغارو الفرنسية، فإن باريس فتحت أرشيفها المتعلق بالشؤون القضائية وتحقيقات الشرطة في الجزائر إبان حرب التحرير الجزائرية (1954-1962).
إذ يتيح المرسوم الذي وقعته وزارات الثقافة والدفاع والخارجية والداخلية الفرنسية، الاطلاع على جميع "المحفوظات العامة الصادرة في سياق القضايا المتعلقة بالأعمال التي ارتكبت في سياق الحرب الجزائرية، بين 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 و31 ديسمبر/كانون الأول 1966".
وكانت القوانين الفرنسية تمنع الاطلاع على هذا الأرشيف إلا بعد 75 سنة، أي في الفترة ما بين 2029 و2041، ومن الآن فصاعداً سيكون الوصول إليه دون قيود بحكم ما يسمى إجراء "الإعفاء العام".
وفي 10 ديسمبر/كانون الأول الجاري، أعلنت وزيرة الثقافة الفرنسية روزلين باشيلو، التي تتولى الوصاية على الأرشيف الوطني باستثناء ذلك الخاص بوزارتي الدفاع والخارجية، عن هذه المبادرة، في إطار مشروع ماكرون، لما يسميه "مصالحة الذاكرة".
ومن شأن الاطلاع على الأرشيف السري لحرب التحرير الجزائرية الكشف عن الكثير من جرائم الحرب، وجرائم ضد الإنسانية، على غرار التعذيب والاغتيالات والإخفاءات القسرية التي ارتكبها الجيش الفرنسي وشرطته ضد الرجال والنساء الذين قاوموا الاحتلال.
إلا أنه من غير المستبعد أن تتم عرقلة الوصول إلى بعض الوثائق التي قد تسبب إحراجاً سياسياً ودولياً لفرنسا.
حيث نقل موقع "دي دبليو" الألماني عن صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية أنه جرى في وقت سابق "إعادة ختم عشرات الآلاف من الوثائق التي كانت متاحة للعامة، ما أعاق البحث التاريخي وأعاد فرض السرية على المعلومات التي تم الكشف عنها سابقاً".
ويتوقع خبراء ومراقبون أن يؤدي القرار الفرنسي الجديد إلى إعادة فتح تلك الملفات مجدداً.
علاقات متصدعة
تأتي الخطوة الفرنسية بفتح أرشيف حرب التحرير الجزائرية، في سياق محاولة ماكرون تهدئة الغضب الجزائري، الذي أضرّ بالكثير من المصالح الفرنسية، وعلى مستويات متعددة.
فالنقطة التي أفاضت كأس الغضب الجزائري، في ظل علاقات متصدعة بين الطرفين كانت تشكيك ماكرون، في 30 سبتمبر/أيلول الماضي، في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
والرد الجزائري كان سريعاً باستدعاء سفير البلاد لدى باريس، وغلق الأجواء الجزائرية أمام الطيران الحربي الفرنسي، ليراكم بذلك جبل الجليد في العلاقات المتصدعة بين البلدين.
فماكرون، الذي وصف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، في نوفمبر/تشرين الثاني 2020، بـ"الشجاع"، لم يتقبل إلغاء زيارة رئيس الوزراء الفرنسي جان كاستيكس، للجزائر في أبريل/نيسان الماضي.
وألغيت الزيارة بعد أن طلبت الجزائر تأجيلها في آخر لحظة، إثر تقليص باريس مدة الزيارة ليوم واحد، والوفد إلى أربعة وزراء، بينما كانت تنتظر الجزائر وفداً أكبر ولمدة أطول لمناقشة قضايا أوسع والتوقيع على عدة اتفاقيات، إيذاناً بانطلاق عهد جديد في العلاقات بين البلدين.
ويقول الصحفي الفرنسي "جان بيار فيليو"، في مقال له بجريدة "لوموند"، "سلط إلغاء زيارة كاستيكس، وسط بيان مناهض لفرنسا لأحد أعضاء الحكومة (الجزائرية)، الضوء على هشاشة رهان ماكرون على تبون".
وانتهز ماكرون، فرصة لقاء شباب معظمهم من أصل جزائري، بتوجيه قصف سياسي بلا ضوابط دبلوماسية ضد تبون، وما سمّاه "النظام السياسي العسكري" و"المتعب" و "الصعب جداً"، و"القائم على ريع الذاكرة".
قبل أن يطلق رصاصة الرحمة على العلاقات الجزائرية الفرنسية، عندما شكك في وجود أمة جزائرية قبل الاستعمار الفرنسي.
فهذه الكلمات العنيفة والصادمة، التي وصفها وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة، بـ"الإفلاس"، نقلت العلاقات بين البلدين من مرحلة "الفتور" إلى "التوتر".
مصالح باريس في خطر
لم يكن يتوقع الرئيس الفرنسي أن تكون ردة الجزائر على تصريحاته بتلك القوة، خاصة بعد سحب السفير الجزائري من باريس، وإغلاق الأجواء الجزائرية أمام الطيران الحربي الفرنسي العامل في مالي.
لكن لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فالجزائر سرعت من عملية تقليص تعاونها التجاري مع فرنسا، على غرار تقليص استيراد القمح الفرنسي والانفتاح على السوق الروسية والأوكرانية، بل وحتى الأمريكية.
إذ احتكرت فرنسا الواردات الجزائرية الضخمة من القمح لسنوات طويلة، وسيكون الفلاح الفرنسي أول المتضررين من هذا القرار الجزائري، وسيضطره للبحث عن أسواق جديدة في ظل منافسة شرسة مع قمح أوروبا الشرقية والقمح الأمريكي.
ومن شأن ذلك الإضرار بصورة ماكرون أمام الناخبين العاملين في قطاع الزراعة، وقد ينعكس ذلك في صورة عدم منحه أصواتهم في الانتخابات الرئاسية المقررة في أبريل/نيسان المقبل.
وملف الهجرة يعد ورقة انتخابية هامة بالنسبة لماكرون، لذك يحاول الضغط على الحكومة الجزائرية لاستقبال المهاجرين المطرودين، من خلال تقليص منح التأشيرة للجزائريين إلى 50%، بحسب وزير الداخلية الفرنسي جيرالد دارمانان.
بينما أشارت "منظمة حماية المستهلك" الجزائرية، في ديسمبر/كانون الأول الجاري، أن أكثر من 95% من طلبات التأشيرة إلى فرنسا رفضت مؤخراً.
في حين ترفض الحكومة الجزائرية إعادة إدخال الأشخاص الذين مروا عبر الجزائر في طريق الهجرة، ولا يملكون وثائق تثبت أنهم جزائريون، مع إمكانية تلفيق هؤلاء لهويتهم وادعائهم بأنهم جزائريون، دون توثيق هويتهم، بحسب مسؤولين جزائريين.
وبعيداً عن ملف الهجرة، تراجعت مكانة الشركات الفرنسية في سوق الاستثمار بالجزائر إلى المرتبة الثانية خلف تركيا، وأصبحت غير مرغوب فيها بالسوق الجزائرية، بعدما فازت بعقود بملايين الدولارات في عهد الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، وتواجه اليوم نهاية عهدها الذهبي على غرار شركات تسيير المياه، والمترو، والعملاق النفطي "توتال"، وبنك كريدي أغريكول.
واللغة الفرنسية المهيمنة على الإدارة الجزائرية منذ الاستقلال في 1962، أصبحت ركائزها مهددة، خاصة بعد قرار وزارات العمل، والتكوين، والرياضة، منع استعمال اللغة الفرنسية وتعميم استعمال اللغة العربية في المراسلات وجميع الوثائق الرسمية.
ونقاش واسع في الجزائر يدور حول جعل اللغة الإنجليزية لغة ثانية في التعليم بدل الفرنسية، وهذا سيشكل أكبر تهديد للنفوذ الفرنسي بالجزائر، وأخطر من مجرد تقليص التعاملات التجارية والاقتصادية مع فرنسا.
ناهيك عن حاجة فرنسا لدعم الجزائر في ملفات إقليمية ساخنة في ليبيا ومالي، والتي تواجه فيها باريس صعوبات بالغة، خاصة في ظل منافسة قوى كبرى مثل روسيا وتركيا، واقتراب الموقف الجزائري منهما على حساب مصالحها.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلدى ماكرون مخاوف من أن تصوت الجالية الجزائرية الحاملة للجنسية الفرنسية تصويتاً عقابياً ضده، وهي التي لعبت دوراً بارزاً في فوزه بالرئاسة في 2017، بعد منافسة قوية في الدور الأول، مع أنه كان حينها شخصية طارئة على الحياة السياسية.
وفي هذا الصدد، قامت الجزائر بقرصة أذن لماكرون، عندما نقلت وكالة الأنباء الجزائرية عن سفير البلاد لدى باريس، محمد عنتر، أن الجالية الجزائرية بفرنسا يجب أن تلعب دورها في الحياة السياسية وتؤثر في المشهد الفرنسي.
وأثار ذلك قلق باريس، واعتبره محللون فرنسيون تدخلاً في الشأن الداخلي لبلادهم، رغم أن العديد من المرشحين الرئاسيين الفرنسين كانوا يزورن الجزائر، ولقاء مسؤوليها للحصول على دعم الناخبين من أصول جزائرية، وبينهم ماكرون ذاته.
خطوات إلى الوراء
أمام ردة فعل الجزائر التي لم تعدها فرنسا، لجأ ماكرون إلى خطوات لتهدئة "حصان شمال إفريقيا الجامح"، وهو اللقب الذي يطلقه الإسكندنافيون على الجزائر.
فالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون رفض عودة سفير بلاده إلى باريس إلا بتوفر شرط "الاحترام الكامل للدولة الجزائرية"، مشدداً على أن هذا الاحترام يتضمن "نسيان أن الجزائر كانت مستعمرة فرنسية".
وحتى لا تخسر فرنسا نفوذها ومصالحها بالجزائر سارعت إلى التهدئة، عبر تأكيد وزير خارجيتها جان إيف لودريان، أمام برلمان بلاده "الاحترام الراسخ للسيادة الجزائرية".
كما قام ماكرون بخطوة لم يسبقه إليها أي رئيس فرنسي، عندما توجه إلى مكان مجزرة 17 أكتوبر/تشرين الأول 1961، التي ارتكبتها الشرطة الجزائرية بحق متظاهرين جزائريين في باريس، ورمت بجثث بعضهم في نهر السين، الذي يشق العاصمة الفرنسية.
ووصف ماكرون تلك المجازر بأنها "جرائم لا مبرر لها بالنسبة إلى الجمهورية"، إلا أن الجزائر تعاملت بصمت مع هذه الخطوة ولم تعلق عليها.
وحتى بعدما أعرب ماكرون، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عن أسفه للجدل وسوء الفهم الذي تسببت فيه تصريحاته الأخيرة حول تاريخ الجزائر، إلا أن الأخيرة لم تعد سفيرها إلى باريس.
وفي محاولة لإذابة الجليد، توجه لودريان إلى الجزائر، في 8 ديسمبر/كانون الأول الجاري، والتقى الرئيس تبون، ووزير خارجيته لعمامرة، بهدف "تعزيز الثقة بين فرنسا والجزائر، في كنف السيادة الكاملة لكلِّ بلد" على حد قوله.
كما بحث لودريان مع الرئيس تبون ملفات إقليمة ودولية، قائلاً عقب اللقاء إن "الجزائر وفرنسا تواجهان تحدياتٍ كبيرةً، إقليمياً ودولياً، بخصوص الإرهاب في الساحل، والهجرة غير الشرعية، والقضايا الاقتصادية".
ثلاثة ملفات تثير قلق فرنسا وتحتاج فيها إلى دعم الجزائر وتنسيق مواقفها معه، خصوصاً في مالي، التي اضطرب باريس لسحب قواتها من المناطق الشمالية الساخنة أمنياً والمحاذية للجزائر، في اعتراف ضمني بفشلها العسكري.
في الوقت الذي تحاول روسيا ملء الفراغ الفرنسي عبر تعزيز تعاونها العسكري مع باماكو، وهو ما يثير قلق باريس، خاصة أنها تعتبر أن التوغل الروسي في المنطقة لا يلقى معارضة من الجزائر.
كما تحاول فرنسا الاتفاق مع الجزائر بشأن إعادة المهاجرين غير الشرعيين، سواء الجزائريين أو الذين ينطلقون من سواحلها نحو الشواطئ الفرنسية.
والملف الثالث، يتعلق بالتعاون الاقتصادي، وسعي فرنسا لاستعادة احتكار السوق الجزائرية للقمح، والمنتجات الفلاحية الأخرى، وعودة الشركات الفرنسية إلى الجزائر ليس للاستثمار، وإنما للحصول على عقود تسيير مؤسسات جزائرية.
وزيارة لودريان إلى الجزائر، وإن فتحت قناة تشاور بين البلدين، إلا أنها فشلت في تحقيق أهدافها، بدليل أن الجزائر لم تُعِد بعد سفيرها إلى باريس رغم مرور قرابة ثلاثة أشهر على استدعائه.
فماكرون منذ وصولها إلى الحكم في 2017، اشتبك لفظيا مع عدة زعماء وورط بلاده في أزمات مع عدة دول على غرار البرازيل والصين وبريطانيا والولايات المتحدة وأستراليا والجزائر ومالي..
ولا يبدو أن الرئيس الجزائري يرغب في أن يقدم هدية عيد الميلاد إلى ماكرون، من خلال إعادة العلاقات إلى سابق عهدها، ما قد يستغلها الأخير في حملته الانتخابية لاستمالة الناخبين الفرنسيين من أصول جزائرية.