تسبب رحيل قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في ضعف قبضة طهران على الميليشيات العربية المدعومة من الجمهورية الإسلامية، مما تسبب في تراجع كبير لنفوذ إيران بهذه البلدان حتى بات هناك هامش لهذه الفصائل لتحقيق أهدافها بعيداً عن استراتيجية الحرس الثوري.
وبعد قرابة العامين على مقتل سليماني بغارة أمريكية في العراق، لم يستطيع خليفته إسماعيل قاآني ملء الفراغ الذي تركه القائد السابق رغم محاولات قاآني التقرب من هذه الميليشيات، لاسيما العراقية.
لكن ثمة ما يشير إلى أنه ليس فقط رحيل سليماني هو السبب، إنما التراجع الذي منيت به إيران والذي يعود إلى أن هذه الميليشيات باتت تحاول الانكفاء على الداخل في بلدانها؛ لمواجهة التحديات التي تطرأ عليها بعيداً عما تريده طهران.
وتشير سلسلة من الأحداث إلى أن بعض الميليشيات، على الأقل، في لبنان واليمن والعراق وفلسطين تتضاءل فائدتها لإيران مع تضاؤل شعبيتها، وأن علاقاتها مع إيران تواجه توتراً، بحسب تقرير لموقع Responsible Statecraft الأمريكي.
تراجع نفوذ إيران
وهذا التراجع في شعبية هذه الميليشيات ونفوذ إيران عليها يقوّض المفاهيم الاستراتيجية والدفاعية الأساسية التي تتبناها الجمهورية الإسلامية منذ ثورتها التي قادها رجال الدين والتي أطاحت الشاه المدعوم من الولايات المتحدة عام 1979.
يقول الباحث في شؤون الشرق الأوسط غويدو شتاينبرغ: "الصورة العامة هي أنّ توسع إيران بلغ ذروته عام 2018 ودخل بعدها في مرحلة جديدة، لم تتعرض فيها طهران لأي انتكاسات عسكرية استراتيجية لكنها وصلت إلى حائط صد. وأكبر مشكلة تواجهها إيران هي أن غالبية حلفائها… ينجحون بكثير من الأحيان في المواجهات المسلحة. لكنهم يعجزون لاحقاً عن ضمان الاستقرار السياسي والاقتصادي".
وأضف إلى ذلك أن إيران، بعد ما يقرب من 43 عاماً، هي ثورة تخرج عن مسارها وهذا ليس مستغرباً. فإلى جانب الفساد المستشري وسوء الإدارة الاقتصادية، فقدت إيران جاذبيتها الثورية التي اكتسبتها في البداية لدى للشيعة والسنة على حد سواء. وأصبح المسلمون السنة ينظرون إليها اليوم على أنها قوة قومية شيعية وإيرانية، وكذلك بعد مقتل سليماني لم يعد هناك من يملأ الفراغ الذي تركه سليماني لدى هذه الميليشيات.
ومن باب التوضيح، فإيران ليست على وشك هجر الميليشيات المتحالفة معها في الدول العربية. فهي لاتزال قوة عسكرية شديدة القوة يصعب هزيمتها وورقة ثمينة لقوة إيران الإقليمية في لبنان والعراق.
علاوة على ذلك، بإمكان جماعات مثل حزب الله اللبناني وفصائل مسلحة أخرى أن تجبر إسرائيل على القتال على جبهتين، بل ثلاث، إذا قصفت إسرائيل المنشآت النووية الإيرانية.
وعلى هذا النحو، فاستراتيجية بناء خط دفاع خارجي في الدول العربية التي تسكنها أطراف فاعلة، أتت ثمارها بشكل رائع.
فحزب الله أصبح أقوى قوة سياسية وعسكرية بلبنان، وطرفاً في الحرب الأهلية السورية، ونموذجاً للميليشيات في أماكن أخرى.
الانكفاء للداخل بدلاً من الدفاع عن إيران
على أن ما يثير قلقاً أكبر هو أن ميليشيات مثل حزب الله والجماعات المدعومة من إيران في العراق، تزداد ارتباطاً بالأنظمة الفاسدة التي تتعامل بعنف مع الاحتجاجات الجماهيرية المطالبة بتغيير شامل.
والمتظاهرون بدورهم هاجموا الميليشيات ذات الأغلبية الشيعية، لأنها تروج هوية طائفية وليس هوية وطنية تتجاوز الدين والعرق.
وكان تحالف من الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران الخاسرَ الأكبر في الانتخابات العراقية التي أجريت في أكتوبر/تشرين الأول الماضي. إذ تراجعت أعداد مقاعد ائتلاف الفتح، الذي كان ثاني أكبر كتلة في البرلمان سابقاً، من 48 إلى 17 مقعداً.
وفضلاً عن ذلك، فمزاعم الحوثيين في اليمن بأن الحروب والتدخل الأجنبي والحصار تمنعهم من إيصال السلع والخدمات العامة بدأت تفقد مصداقيتها.
وفي الوقت نفسه، أفادت تقارير أن سفير إيران لدى الحوثيين في اليمن، حسن إيرلو، توفي إثر إصابته بكوفيد-19 وهو في طريقه إلى إيران.
وقال مسؤولون حوثيون إن مرض إيرلو أتاح لهم "الفرصة" للمطالبة برحيله. وقالوا إن جماعة الحوثي شَكَت إلى القيادة الإيرانية فشل إيرلو في التنسيق مع قواتها في اجتماعاته مع زعماء القبائل والقادة السياسيين.
فشل إيراني في العراق
وبالمثل، واجه إسماعيل قاآني، خليفة سليماني في قيادة فيلق القدس، رفضاً حين التقى في يوليو/تموز مع الميليشيات الموالية لإيران في بغداد. إذ طالبها قاآني بالامتناع عن مهاجمة أهداف أمريكية في الفترة التي سبقت استئناف المفاوضات النووية في فيينا.
وقال قيس الخزعلي، زعيم عصائب أهل الحق أو شبكة الخزعلي، في مقابلة تلفزيونية بعدها بأيام، إن "هذا القرار يخص العراق".
وقال زعيم سياسي شيعي عراقي: "إيران لم تعد تسيطر على قادة الميليشيات بنسبة 100% كما كانت في السابق".
على أن هذه الفكرة لم تترسخ بعد في طهران، وإن فعلت، فستكون لها عواقب بعيدة المدى على السياسات والمواقف الإيرانية. وفي البداية، قد يخلص تحليل تكلفة وفائدة تجريه إيران إلى أن فوائد دعم الميليشيات العربية لا تزال تتفوق على تكلفتها.