كان 2021 عاماً قاسياً بكل المقاييس على أغلب اللبنانيين، في ظل أزمة اقتصادية خانقة جعلتهم يكافحون من أجل تأمين الغذاء والدواء وغيرهما من الأساسيات، لكن مبادرات فردية في لبنان جعلت للقصة بُعداً آخر عنوانه "الأمل".
فقد وصلت الأزمة الاقتصادية التي ضربت لبنان منذ عامين إلى ذروتها خلال العام الذي يستعد للرحيل، وترافقت مع انهيار الليرة اللبنانية أمام الدولار الأمريكي، وارتفاع أسعار السلع الأساسية والمحروقات والأدوية بشكل جنوني، بعد رفع الدعم عنها من قِبل المصرف المركزي.
وعلى مدى أكثر من ربع قرن استقرت قيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي عند حدود 1510، إلا أنها اهتزت للمرة الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2019، وبدأت تتدهور تدريجياً حتى وصلت إلى 29 ألف ليرة مع نهاية العام 2021.
كما وصلت نسبة الفقر في البلاد إلى حدود الـ74%، وفق دراسة للأمم المتّحدة. ووصف البنك الدولي الأزمة الاقتصادية اللبنانية بأنها "الأكثر حدة وقسوة في العالم"، وصنّفها ضمن أصعب ثلاث أزمات سُجلت في التاريخ منذ أواسط القرن التاسع عشر.
توفير الغذاء للمحتاجين في لبنان
ورغم كل هذه المشاكل قرّر لبنانيون مواجهة الأزمة على طريقتهم، وذلك من خلال خلق مبادرات لتأمين الأدوية، والطعام، وحتى الثياب للعائلات المحتاجة، في تطبيق عملي لمقولة "أشعِل شمعة بدلاً من أن تلعن الظلام".
جرت العادة في لبنان أن تجتمع معظم العائلات اللبنانية يوم الأحد حول مائدة الطعام، حيث يكون الطبق الأساسي عبارة عن لحوم مشوية، بالإضافة إلى المازة اللبنانية (أطباق منوعة من المقبلات).
إلا أن هذه العادة لم تعد موجودة لدى أكثر من نصف الشعب اللبناني، والسبب هو الارتفاع الجنوني لأسعار اللحوم والدجاج والمواد الغذائية الأخرى. ولا يقتصر الغلاء على هذه المأكولات، فحتى الحبوب كالعدس والأرز طارت أسعارها، فبعدما كان سعر كيلوغرام العدس نحو 4000 ليرة لبنانية بات اليوم بنحو 50 ألف ليرة.
تقوم جمعية "سبارك" (خاصة)، بتأمين مساعدات غذائية ومواد تنظيف وملابس للأسر المحتاجة في مختلف المناطق اللبنانية. وتقول العضو في الجمعية باميلا قشوع للأناضول: "بعد تفاقم الأزمة في لبنان، وخاصة في العام 2021، ارتفعت أعداد العائلات التي هي بحاجة إلى مساعدات متنوعة، بدءاً من المعونات البسيطة وصولاً إلى الأمور الأصعب كإيجارات المنازل وأقساط المدارس".
وتضيف أن الجمعية "تقوم بحملة شهرياً من أجل مساعدة المحتاجين، وتأمين مواد غذائية لهم"، كاشفة أن "السلع التي تقدمها ارتفع سعرها بشكل كبير ولم يعد بمقدور الجميع الحصول عليها".
وعن طريقة جمع التبرعات تشرح قشوع أن "مواقع التواصل الاجتماعي تلعب دوراً كبيراً لمساعدتنا على جمع المواد الغذائية، فنحن نقوم بتحديد الأصناف التي نحتاجها، بانتظار جمعها ثم توزيعها".
وجمعية "سبارك" تأسست منذ 4 سنوات، من قبل صديقين، غير أنه ما لبث أن زاد عدد المتطوعين فيها، وتوسعت مهامها على صعيد المجتمع اللّبناني. وتردف قشوع أن "كل المواطنين يعانون اليوم من جراء الأوضاع الصعبة التي تعصف بالبلد، لكننا سنصمد ونستمر حتى نتخطى هذه الأزمة".
"وصَّلني ع طريقك"
هذا العام كان العالم أجمع شاهداً على ما عاناه الشعب اللبناني أمام محطات المحروقات لملء السيارات بالوقود، بعد فقدان المادة من الأسواق، إلى أن تم رفع الدعم عنها فعادت لتصبح متوفرة.
وبعدما كان يسجل سعر صفيحة البنزين نحو 30 ألف ليرة فقط، العام الماضي، ارتفع سعرها إلى نحو 340 ألف ليرة لبنانية، نتيجة رفع مصرف لبنان دعمه عن المحروقات، فوجد اللبناني نفسَه عاجزاً عن ملء خزان سيارته بالوقود.
ورغم أن أزمة الوقود وارتفاع أسعاره خلال عام 2021 لم تكن حكراً على لبنان، فأغلب دول العالم عانت منها، وانتشرت مشاهد طوابير السيارات أمام محطات الوقود في بريطانيا بصورة غير مسبوقة، فإن الأوضاع السياسية في لبنان، والمستمرة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019، قد جعلت اللبنانيين عملياً يواجهون المشاكل دون حكومة تقريباً.
وائل قصب، شاب لبناني من مدينة صيدا، جنوبي لبنان، قرّر وضع إمكانياته بتصرف أبناء المدينة، وأطلق مبادرة "وصَّلني ع طريقك"، التي تهدف لإيصال أي شخص يحتاج إلى ذلك مجاناً.
ويوضح قصب للأناضول، أنه "بعد أزمة المحروقات في البلاد، وبعد رؤية عدد كبير من الأشخاص يذهبون إلى عملهم سيراً على الأقدام عقب ارتفاع تكلفة النقل العام من ألفي ليرة إلى أكثر من 25 ألفاً، قرّر إطلاق مبادرة لإيصال كل شخص يلتقي به على طريقه أثناء إيصال أطفاله إلى المدرسة، أو خلال تجوله في المدينة".
ويلفت إلى أن الهدف الأساسي من خطوته "تخفيف العبء عن كاهل الناس"، داعياً كل شخص يملك وسيلة نقل إلى "القيام بهذه المبادرة". وعن تقبُّل الناس للأمر يقول قصب: "في البداية كنت ألمس خجلاً لدى بعض الأفراد، لكن بعد فترة قصيرة اعتادوا على الموضوع وأصبحوا ينتظروني لكي أوصلهم".
"كبسولة الأمل"
في صيف عام 2021، فُقدت عشرات الأدوية من صيدليات لبنان، لعدم توفر المال لاستيرادها، وبقي الوضع على حاله حتى رفع الدعم عنها، فارتفعت أسعارها بشكل جنوني، بمقابل انخفاض القدرة الشرائية للمواطن، فتم إنشاء مبادرات عدة لسد هذه الحاجة الجديدة للشعب.
وأسست مجموعة من الصيادلة جمعية "كبسولة الأمل" (Capsule of Hope)، بعد انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020، بهدف مساعدة المتضررين من الانفجار، بالإضافة إلى مساعدة كل شخص بحاجة إلى الدواء، وتَضاعَفَ عملها مع الأزمة الاقتصادية في لبنان.
كانت العاصمة اللبنانية قد تعرّضت لواحد من أسوأ الانفجارات غير النووية في التاريخ، يوم 4 أغسطس/آب 2020، عندما اندلع انفجار هائل في مرفأ بيروت، أدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة نحو 6 الآف آخرين، ودمّر أحياء بأكملها، في كارثة توقع الكثيرون أن تؤدي إلى إحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي في البلاد، وسط تعالي المطالبات بإجراء تحقيق دولي لكشف المتسببين في الكارثة ومحاسبتهم.
لكن بعد ما يقرب من عام ونصف العام على انفجار المرفأ، لم يكتمل التحقيق في الكارثة، وتم تغيير قاضي التحقيق واستبداله بآخر، ربما يتم استبداله أيضاً، ولا يزال تشكيل حكومةٍ هو الهم الأكبر للطبقة السياسية والقوى الدولية، بينما يدفع اللبنانيون الذين ثاروا ضد النظام الطائفي قبل أكثر من عامين الثمن.
وتقول رئيسة جمعية "كبسولة الأمل"، ديانا فرنجية، للأناضول: "الدواء اليوم غير متوفر بسهولة أمام المرضى، كما أن شركات الأدوية لا تعطي الصيدليات الكمية التي تحتاجها شهرياً، هذا فضلاً عن ارتفاع أسعارها".
وعن عمل الجمعية خلال هذه الصعوبات، تضيف فرنجية، أن "مواقع التواصل الاجتماعي تساعدنا في الحصول على مساعدات كثيرة". وتردف: "كما أن عدداً من (اللبنانيين) المغتربين قاموا بجمع المال وأرسلوه لنا، وهنا استفدنا من فرق صرف العملة في لبنان، فحصلنا على كمية أكبر من الأدوية. وصلتنا مساعدات من أشخاص من دول عدة أبرزها تركيا والإمارات".
"كبسولة الأمل"، التي كانت تضم 3 متطوعين عند تأسيسها، أصبحت تضم اليوم 15 شخصاً يعملون بجهد فردي من أجل الحصول على الدواء وتوصيله لمن يحتاجه فعلاً، وفق فرنجية.
وتشير إلى أنه "خلال أول 5 أشهر من عملها مدت الجمعية يد العون لأكثر من 200 عائلة ونحو 25 جمعية". وتتحدث فرنجية عن الوضع "الأليم" في البلاد قائلة إن "بعض الأشخاص يستغنون عن الدواء لأنهم لا يملكون المال، الناس تعبت".
دعم معنوي وليس مادياً فقط
يشير عبدو دكاش، مسؤول شبيبة لبنان في جمعية "مار منصور" (خاصة)، إلى أن "الوضع يتجه إلى الأسوأ، وكل يوم تطرق بابنا عائلات جديدة بحاجة إلى مساعدات مختلفة". ويضيف دكاش للأناضول: "من كان يقدم مساعدات في السابق صار بحاجة إليها اليوم".
وإلى جانب تقديم الدعم المادي للأسر تركز جمعية "مار منصور"، على "دعم المنحى المعنوي للناس، من خلال زيارات يقوم بها المتطوعون إلى عائلات أو أشخاص محددين فيستمعون إليهم وإلى قصصهم وهمومهم" بحسب دكاش. ويؤكد أن "أكثر أنواع الفقر هي الوحدة، لذا نقوم بزيارات متتالية إلى منازل عدد كبير من الأشخاص".
يذكر أن جمعية "مار منصور" العالمية تأسست في فرنسا، ولها 49 فرعاً في لبنان، تضم أكثر من 1100 متطوع، ويشمل عملها مجالات متنوعة روحية، واجتماعية، وطبية، وتعليمية، ترفيهية، وتنموية.
رغم الظروف الصعبة التي تمر بها البلاد تبقى المبادرات الفردية، التي تقدمها الجمعيات الخاصة، بارقة أمل لدى اللبنانيين لكي يصمدوا حتى حلول الفرج عليهم.