أصبحت مخاطر عملية عسكرة المجتمع الروسي التي ينفذها الرئيس فلاديمير بوتين منذ سنوات واضحة تماماً في الأزمة الأوكرانية الحالية، ولكن خطر عسكرة المجتمع الروسي لا يقتصر على كييف بل يمتد إلى ما هو أبعد منها بكثير.
تركز عملية عسكرة المجتمع الروسي على تأجيج العداء للغرب داخل المجتمع وتتعامل مع أوكرانيا باعتبارها ألعوبة في يد الغرب.
الوطن الأم محاطٌ بالأعداء
صعد ستة مراهقين إلى منصة التتويج مرتدين أحذيةً ثقيلة وزيّاً عسكرياً في حفل أُقيم خارج موسكو، وتسلّموا جوائز في تخصّصٍ متزايد الأهمية في روسيا: الوطنية.
على مدار أيام كان الطلاب من جميع أنحاء روسيا يتنافسون في أنشطة مثل قراءة الخرائط وإطلاق النار ومسابقات التاريخ. وقد مُوِّلَت المسابقة جزئياً من قِبَلِ الكرملين، الذي جعل التعليم "الوطني العسكري" أولوية.
قال سفياتوسلاف أوميلتشينكو، وهو من قدامى المحاربين في القوات الخاصة في الاستخبارات السوفييتية (كي جي بي)، الذي أسَّسَ مجموعة Vympel، التي تدير الفعالية: "نحن نبذل كل ما في وسعنا للتأكُّد من أن الأطفال على درايةٍ بذلك، ولجعلهم مستعدين للذهاب والخدمة بالجيش".
على مدى السنوات الثماني الماضية، روَّجت الحكومة الروسية لفكرة أن الوطن الأم محاطٌ بالأعداء، ونشرت ذلك المفهوم من خلال المؤسسات الوطنية مثل المدارس والجيش ووسائل الإعلام والكنيسة الأرثوذكسية، بل إن ذلك أثار احتمال أن تضطر البلاد مرة أخرى للدفاع عن نفسها كما فعلت ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة New York Times الأمريكية.
والآن، مع حشد القوات الروسية على الحدود الأوكرانية، ما يثير مخاوف الغرب من غزوٍ وشيك، تلوح عسكرة المجتمع الروسي التي جرى تنفيذها باطراد في عهد الرئيس فلاديمير بوتين في الأفق بشكلٍ كبير، ويبدو أنها دفعت الكثيرين إلى فكرة أن القتال يمكن أن يكون وشيكاً حقاً.
قال موراتوف، المحرِّر الصحفي الروسي الذي تقاسَمَ جائزة نوبل للسلام هذا العام، في خطاب قبوله في أوسلو هذا الشهر، ديسمبر/كانون الأول: "تروِّج السلطات بنشاطٍ لفكرة الحرب، ولقد اعتاد الناس على أن هذا ممكنٌ".
وفي حديثه إلى القادة العسكريين الروس، الثلاثاء 21 ديسمبر/كانون الأول، أصرَّ بوتين على أن روسيا لا تريد إراقة الدماء، لكنها مستعدةٌ للردِّ بـ"إجراءاتٍ عسكرية-تقنية" على ما وصفه بالسلوك العدواني للغرب في المنطقة.
رغم عدم وجود حمى حرب متصاعدة، هناك الكثير من الدلائل على أن الحكومة كانت ترعى الاستعداد للصراع العسكري عبر عسكرة المجتمع الروسي.
عسكرة المجتمع الروسي تبدأ من التعليم والتاريخ
يهدف البرنامج الذي تبلغ قيمته 185 مليون دولار أمريكي ومدته أربع سنوات، وبدأه الكرملين هذا العام، إلى زيادة "التعليم الوطني" للروس بشكلٍ كبير، بما في ذلك خطة لجذب ما لا يقل عن 600 ألف طفل لا تتجاوز أعمارهم الثماني سنوات للانضمام إلى صفوف جيش الشباب.
أما الكبار فتُروَّج لهم هذه الفكرة عبر التلفزيون الحكومي، حيث العروض السياسية -أحدها يعمل عنوان "موسكو والكرملين وبوتين"- التي تدفع بسردية أن هناك جماعةً فاشية في أوكرانيا، وأن الغرب عازمٌ على تدمير روسيا.
جميع هؤلاء متَّحِدون بالذاكرة شبه المُقدَّسة للنصر السوفييتي في الحرب العالمية الثانية، تلك السنوات التي تستخدمها الدولة لتشكيل هوية روسيا المنتصرة، التي يجب أن تكون مستعدةً لحمل السلاح مرةً أخرى.
هذا هو الاتِّجاه الذي يسميه أليكسي ليفينسون، رئيس قسم الأبحاث الاجتماعية والثقافية في مركز ليفادا، وهو خبير استطلاع مستقل في موسكو، بـ"عسكرة وعي الروس". في استطلاعات الرأي الدورية للمركز أصبح الجيش في عام 2018 المؤسسة الأكثر موثوقيةً في البلاد، متجاوزاً الرئيس نفسه حتى. وهذا العام بلغت نسبة الروس الذين يقولون إنهم يخشون اندلاع حرب عالمية أعلى مستوى مُسجَّل في استطلاعات تعود إلى عام 1994 (62%).
وحذَّرَ ليفينسون من أن هذا لا يعني أن الروس سيرحبون بغزو إقليمي دموي لأوكرانيا، لكن هذا يعني، كما قال، أن الكثيرين قد تكيَّفوا مع قبول أن روسيا تخوض منافسةً وجوديةً مع قوى أخرى، يكون فيها استخدام القوة أمراً ممكناً.
الحرب العالمية الثانية مازالت مستمرة
لعب الاحتفال بانتصار الاتحاد السوفييتي على ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية -التي يُشار إليها باسم الحرب الوطنية العظمى في روسيا- الدور الأهم في هذا التكييف. بدلاً من الترويج لثقافة إحياء ذكرى البطولة السوفييتية ومقتل 27 مليون شخص، يطبِّق الكرملين سردية الحرب العالمية الثانية حتى يومنا هذا، ويضع روسيا مرةً أخرى في موضع تهديدٍ من قِبَلِ أعداءٍ عازمين على تدميرها.
في خطابه السنوي في يوم النصر هذا العام بعد عرض عسكري ضخم، هاجَمَ بوتين أعداء روسيا الحاليين الذين لم يكشف عن أسمائهم، والذين يعيدون الترويج لـ"النظرية الوهمية للنازيين". وعلى التلفزيون الحكومي الأسبوع الماضي سخر مقدم برنامج إخباري من التهديدات بالعقوبات ضد روسيا من قبل أولئك "الذين ليس لديهم أي فكرة عن كيفية تخويف شعب فَقَدَ أكثر من 20 مليوناً من رجاله ونسائه وعجائزه وأطفاله في الحرب الأخيرة".
ويحمل ملصقٌ شائع يشير إلى الحرب العالمية الثانية: "يمكننا فعلها مرةً أخرى".
قال ليفنسون: "هناك تحوُّل يحدث باستخدام هذا الانتصار تجاه المواجهة الحالية مع كتلة الناتو".
الأطفال يقودون دبابات قتال مصغرة
افتُتِحَت الكاتدرائية الكبرى للقوات المسلحة الروسية، التي تبعُد مسافة ساعة واحدة غربي موسكو، العام الماضي. مظهرها الخارجي أخضر كالزيِّ العسكري، وأرضياتها مصنوعة من أسلحةٍ ودباباتٍ استولى عليها الروس من القوات المسلَّحة النازية إبان الحرب. أما نوافذها الزجاجية المُلوَّنة فهي مُزيَّنة بشاراتٍ وميداليات من أيام الحرب.
في أحد أيام الأحد، امتلأت الكنيسة والمتحف والمنتزه المصاحب لها بالزوار، كان عددٌ من طلاب الصف الخامس من مدرسة سوفوروف العسكرية في مدينة تفير يرتدون زيهم الرسمي، وقد خرجوا في صفّين قبل السير إلى المتحف. قال مدربهم إنه من المهم بشكل أساسي للطلاب، في السنة الأولى من المدرسة العسكرية، التعرُّف على أسلافهم.
وأضاف: "نقوم ببعض الدعاية أيضاً"، رافضاً الكشف عن اسمه.
خارج أراضي الكنيسة، سار الزوار بين الخنادق المغطاة بالثلوج، التي تحاكي الجبهة. أبعد من ذلك، تحت القبة الشاهقة للكنيسة، يمكن للأطفال ركوب مركباتٍ حول مضمار سباقٍ للسيارات الصغيرة في نسخةٍ طبق الأصل، لكن مُصغَّرة، لدبابات القتال.
قالت ألينا غرينغولم، بينما كان ابنها البالغ من العمر عامين يصعد دبابةً جليدية بمساعدة والده: "يجب على جميع الأطفال القدوم إلى هنا وتنمية اهتمامهم بالتاريخ منذ سنٍّ مبكِّرة".
روسيا لا تخوض إلا حروباً دفاعية!
في موسكو، تجمَّع أكثر من 600 شخص مؤخَّراً من جميع أنحاء روسيا في منتدى برعاية الحكومة، يهدف إلى تعزيز الروح الوطنية بين الشباب. وأشاد سيرجي كيرينكو، نائب رئيس الأركان القوي لبوتين، بالحضور، لقيامهم "بعملٍ مُقدَّس".
وفي المنتدى، تحدَّثَ اثنان من "متطوِّعي النصر" عن خططهم لتعليم طلاب المدارس الثانوية انتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، في فعالية إقليمية في الأسبوع التالي.
وفي استطلاع للرأي أجراه مركز ليفادا، الأسبوع الماضي، قال 39% من المشاركين إن الحرب بين روسيا وأوكرانيا إما حتمية وإما مُحتَمَلة للغاية. وقال نصفهم إن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي هما المسؤولان عن تصاعد التوترات في الآونة الأخيرة، وقال ما لا يزيد عن 4% من جميع الفئات العمرية إن روسيا مُخطِئة.
تعكس القناعة السائدة في المجتمع أن روسيا ليست معتديةً أيديولوجيا مسألة جوهرية تعود إلى العهد السوفييتي، وهي أن الدولة تخوض حروباً دفاعية فقط. حتى إن الحكومة خصَّصَت أموالاً للأفلام التي تستكشف هذا الموضوع، ففي أبريل/نيسان، أصدرت وزارة الثقافة بياناً يقول إن "الانتصارات التاريخية لروسيا" و"مهمة حفظ السلام الروسية" كانت من بين الموضوعات ذات الأولوية لمنتجي الأفلام الذين يسعون للحصول على تمويلٍ حكومي.
قال أنتون دولين، الناقد السينمائي الروسي: "في الوقت الحالي يُروَّج لفكرة أن روسيا بلدٌ مُحِبٌّ للسلام، وهو مُحاطٌ بشكلٍ دائم بالأعداء". وأضاف: "تتناقض بعض الحقائق مع هذا، ولكن إذا عرضته في الأفلام وترجمته إلى زمن الحرب الوطنية العظمى فستحصل على الفور على مخططٍ مألوفٍ للجميع منذ الطفولة".
وعلى التلفزيون الحكومي الروسي، كان السرد عن أوكرانيا التي يسيطر عليها النازيون الجدد واستخدامها كنقطة انطلاق للعدوان الغربي على روسيا مجازاً شائعاً منذ الثورة الموالية للغرب في كييف في عام 2014. وبعد الثورة ضمَّت روسيا القرم، شبه الجزيرة الأوكرانية، وأشعلت حرباً في شرق أوكرانيا وشحذت رسالتها حول روسيا باعتبارها "قلعة محاصرة".
ويخشى بعض المُحلِّلين من أن الخطاب المتصاعد يرسي الأساس لما يمكن أن تصفه روسيا كتدخل دفاعي لحماية أمنها والمتحدثين باللغة الروسية في أوكرانيا. قال يفغيني بوبوف، العضو المنتخب حديثاً في البرلمان ومقدم برنامج سياسي شعبي على التلفزيون الحكومي، قال في مقابلةٍ تلفزيونية إن "التوتُّر يتصاعد" على حدِّ قوله.
وأضاف: "أعتقد أن معظم الناس في روسيا لن يكونوا مؤيِّدين لذلك إلا إذا دافعنا عن الشعب الروسي الذي يعيش في هذه الأراضي"، مشيراً إلى المناطق الانفصالية في أوكرانيا، حيث حصل مئات الآلاف على الجنسية الروسية.
وتُظهِر استطلاعات الرأي أن الشباب لديهم وجهة نظر أكثر إيجابية عن الغرب من الروس الأكبر سناً، ويبدو أن المشاعر المؤيدة للكرملين التي أثارها ضم شبه جزيرة القرم قد تبدَّدَت وسط الركود الاقتصادي.
لكن الكرملين يُضاعف من قوته، ويشمل سعيه لتعزيز "التعليم الوطني" تمويل جماعاتٍ مثل Vympel. ولدى هذا التنظيم "الوطني العسكري" نحو 100 فرع في جميع أنحاء البلاد، وقد نظَّمَ مسابقات المهارات الأخيرة في مدينة فلاديمير، وانتهت هذه المسابقات يوم الخميس الماضي، 16 ديسمبر/كانون الأول.
تبدو عسكرة بلد غير ديمقراطي وضخم، ومسلح بالأسلحة النووية، وجعله مسكوناً بهواجس أمنية ووطنية أمر مبالغ فيه، إنه أمر خطير ليس فقط على أوكرانيا وعلى بقية العالم، خاصة إذا تم وضع تاريخ روسيا العدواني في الاعتبار، والأهم أنه بينما يتحكم بوتين في عملية عسكرة المجتمع الروسي بحيث لا تخرج عن السيطرة، فإن الأمر قد لا يكون كذلك في عهد أي رئيس يخلفه، خاصة إذا تعرضت البلاد لأزمة اقتصادية لا يمكن استبعادها في ظل التراجع المتوقع لأهمية النفط والغاز، أهم موردين للبلاد، وقد تؤدي الأزمات الاقتصادية لصعود حركات شعبوية قومية تدفع الدولة للتطرف الخارجي، أو قد تدفع حكام البلاد لمغامرات خارجية لإلهاء الشعب عن أزماته الداخلية.